الذبائح والتذكية، لأبي القاسم عبد الله بن ربيع الأشعري المالكي القرطبي(ت:666ﻫ)،

تحقيق وتقديم: د. سعيد بلعزي.

سلسلة: نوادر التراث 37

إن الاعتناءَ بالتراث الإسلامي المخطوط، والفتشَ عن خزائنه، والكشفَ عن ما بقي منه، ومصاحبَته ومرافقَته قراءة وتحقيقا وتعليقا؛ أضحى أمرا لا غنى عنه، وأمرا مُلِحّاً لا مَحِيصَ منه، لربط الحاضر بالماضي وبالمستقبل، ولوصْل دفتي الحضارة الإسلامية أصيلها الرّاقي العابق، بحديثها المتجدد الرّائق؛ عسى أن يُضفي التليد على الجديد رونقا وجمالا، وينفحه بنفحة من دقائق المعاني، وجليل المعارف.

ولهذا كان اهتمام الأخلاف بتراث الأجداد في هذه الربوع المباركة؛ جديرا بالتنويه والإشادة؛ ولا سيما منه تراث علماء الأندلس؛ بحكم القرب الجغرافي، والتاريخ المشترك؛ فهو أولى بالعناية من غيره بالنسبة إلينا قياما بالواجب مما يلي؛ لِنَفْضِ الغبار عنه كشفا وتحقيقا وإخراجا.

وقد كان بعض التراث يُظنُّ مفقودا، بفعل طول العهد بتصنيفه تارة، وبسبب الإهمال تارة أخرى، وبفعل فاعل مرّات أُخر؛ لكن بفضل الله وبإصرار الباحثين والمتعلقين بالتراث خدمةً له، وعشقا للنَّصَب والمشقَّة في سبيل استكناه عيونه، يُيَسِّرُ الله لهم نوادرَ ونفائس، تملأ فراغات، وتسد ثغرات؛ يصعب ملؤها وسدها بدونها، ولله سبحانه وتعالى الحمد على ذلك.

ومن هذه النوادر والنفائس: كتاب الذّبائح والتذكية، للقاضي الفقيه الأصولي المتكلم النحوي الأديب أبي القاسم عبد الله بن أبي عامر يحيى بن عبد الرحمن، الأشعري المالكي الأندلسي القرطبي المعروف بابن رَبِيع(ت:666ﻫ)، وهو أحد أشهر الفقهاء المالكية بالأندلس في القرن السابع للهجرة، تولى القضاء بعدد من المدن الأندلسية؛ منها شريش ورندة ومالقة، وتولى الإمامة والخطابة بالجامع الأعظم بمالقة، ثم رحل إلى غرناطة فتقلد بها منصب قاضي الجماعة لمدة سبع سنوات، وكان له بها مجلس إقراء انتفع به طلبتها، وكتابه الذبائح والتذكية، نسبه إليه أبو جعفر ابن الزبير الغرناطي في كتابه صلة الصلة، وقال: إنه لم يُسبق إلى مثله.

وقد يسّر الله الكريم للأستاذ الفقيه المقرئ الدكتور سعيد بلعزي - الباحث بمركز الدراسات والأبحاث بالرابطة المحمدية للعلماء - الوقوف على نسختين منه، الأولى محفوظة بخزانة دير الإسكوريال بإسبانيا، والأخرى محفوظة بخزانة مؤسسة علال الفاسي بالرباط، فتولى دراسته وتحقيقه في إطار أطروحة جامعية لنيل الشهادة العالِمِية (الدكتوراه)، بكلية الشريعة، أيت ملول، بأكادير، وقد مهّد له بفصل دراسي عن المؤلف، كاشفا اللثام عن بيت بني ربيع الذي ينتمي إليه المؤلف؛ مُعَرِّفا بأشهر أعلامه، ذاكرا أهم المناصب الدينية التي أُسندت إليهم، ومُفصحا عن أبرز تصانيفهم وأوضاعهم، وكلها مُنبئة عن مكانة علمية رفيعة كان يحتلها هذا البيت الأندلسي العريق، كما تعتبر دراسته هاته؛ أول عمل علمي يجمع شتات هذه الأسرة العلمية العتيدة، وقد كان لأبي القاسم ابن ربيع - مؤلِّفِ الكتاب - النصيب الأوفر من ذلك؛ مع الاعتناء بتحليل شامل للكتاب؛ بذكر سبب تأليفه، والمصادر المعتمدة فيه، ومنهجية الاقتباس منها، والعلماء الذين كان يكثر النّقل والمَتْح من مؤلفاتهم، مُثْنِيا مُعْتَرِفا بفضلهم وسبقهم، مع الأدب الجمّ الرّاقي؛ حتى عند رَدِّ بعض القول الذي لم يستقم عنده، ثم عرّج الباحث المحقق على ما ألفه السادة المالكية في موضوع الذبائح والتذكية، ليتبين أنه الكتاب الثاني في مسيرة إفراد هذا الموضوع بالتأليف عند المالكية، وهي ميزة لها درجتها واعتبارها، تنبئ عن حس المؤلف وبراعته، وتفاعله مع واقعه.

أما النصّ فاعتنى به الباحث اعتناء جيدا، حيث اجتهد حفظه الله لإخراجه إخراجا يليق بالكتاب وبموضوعه، فقرأه وعلّق عليه بما يُضيء جوانبه، ويشرح غامضه، ويُقرب بعيده، مع اعتناء بتخريج الأحاديث، وتعريف بالأعلام الذين يقتضي المقام التعريف بهم؛ كل ذلك باختصار غير مُخِلّ، ولا تطويل مُمِلّ.