الكتاب: إثارات فكرية في فقه الدِّين وصِلتِه بالمجال العام،

تأليف: الدكتور عبد الحميد عشاق.

سلسلة: دراسات وأبحاث 20

هذا الكتاب مجموع علمي مفيد، وكشكول من الأبحاث العلمية الرصينة، تربو على الأربعين بحثاً، كانت في أصلها سوانح وأوابد متفرقة، فيسّر الله لصاحبها فضيلة الدكتور عبد الحميد عشاق اقتناصها وتحريرها في هذا الديوان الماتع، فصارت فوائد جليلة منتظمة في عقد من الإثارات الفكرية، تتوخّى استئناف النظر في إشكالات ثقافية وفكرية واجتماعية حديثة، كانت ولا زالت عائقاً أمام فاعلية المجتمع ونهضته.

وقد حاول المؤلف، مشكوراً، في مجموع هذه البحوث تحرير أجوبة شافية عن أسئلة ملحة حارقة، يمكن إجمالها في سؤالين اثنين: سؤال القيم الأصلية الجوهرية للإسلام، وسؤال الإصلاح الفكري والتربوي والاجتماعي، وتأسيساً عليه عالجت جلّ الأبحاث خمس قضايا كبرى، وهي:

أولاها: قضية التعريف بقيم الإسلام العليا، ومنهجية تقريب أحكامه وتعاليمه للغير.

والثانية: قضية الإصلاح الفكري في الأمة: أهميته، ومشاريعه، وخطابه، ومخرجاته.

والثالثة: قضية الإصلاح التربوي، وأولويته في إعادة بناء الأمة، وذلك في أبعاد كثيرة متراتبة ومتكاملة: روحية، وقيمية، وسلوكية.

والرابعة: قضية الإصلاح الاجتماعي والأسري، وضرورة التأهيل التربوي والتنظيم الثقافي لمختلف العلاقات والمؤسسات والقيم الناظمة لها.

والخامسة: قضية رسالة المسجد ومسؤولية العالِم، وضرورة تجديد الوعي بهما، وتقدير دورهما، وتفعيل وظائفهما، والإفادة من نتاجهما العلمي وإرشادهما التربوي.

ولا يخفى على المطالع الحصيف لهذا السِّفْر، أن فيه جدّة وإضافة فكرية بارزة، تتوسّل بمنهج تأصيلي مُؤَسَّس على كليات الدِّين ومقاصده، مع وَعْيٍ تامٍّ بمتطلبات الواقع وتحديات الوقت؛ من أجل معالجة موضوعين كبيرين، عُبّر عنهما بعلاقتين اثنتين: العلاقة مع الغير، والعلاقة مع الذات، وتنطويان على قضايا كثيرة وشائكة.

وبحكم التجربة الوازنة للمؤلف في مجال التأصيل المعرفي والبحث التربوي، فهو يرى أن مشروع إصلاح المجتمعات لن يتحقق إلا من خلال نضج وتكامل عناصر القوة كلّها في دائرة تصاعدية فاعلة، وعمليات متناسقة متتابعة، وهذه العناصر هي: الرؤية، والمعرفة، والاقتصاد أو الثروة، والتنظيم، والقدرة الدفاعية.

وبناء عليه، قدّم جملة اقتراحات وتوصيات شكلت نبراساً هادياً في سبيل تجديد أوعية المعرفة وأطرها المرجعية، من أبرزها: تحيين تصوّرنا للمعرفة الإسلامية بما يتلاءم مع مدارك المنطق والإيمان والعلم؛ بحسب مفاهيمها المستجِدّة في النّظام المعرفي المعاصر، وتكييفُ المعارف الشرعية والعلوم الدينية مع حاجات الإنسان والمجتمع، والعناية بعلم أصول الفقه، الذي يكون به الاقتدارُ على الملاءمة بين أحكام الشرع في إطلاقها وتجريدها، وبين حقائق الواقع وضروراته، والعنايةُ بالعلوم النظرية والعقلية، وحسنُ استثمار آلياتها وقواعدها في التعامل مع الأدلة السمعية فهماً واستثمارا وتنزيلاً، وأهمية الأخذ بمنهج التكامل بين العلوم، وضرورة التنبه إلى مشكلة تصنيف العلوم إلى دينية ودنيوية، وأهمية النظر إلى المآلات العواقب، واعتبار المصالح المشتركة باتخاذها منطلقاً لاستثارة الحكم الشرعي في مختلف قضايا الشأن العام؛ إذ إنّما مؤدّى الأحكام تحقيقُ مصالح الأنامِ، وغير ذلك من التوصيات الهادفة.

وفي هذا السياق، لم يغفل التأكيد على ضرورة الارتقاء بالخطاب الديني، بحيث يكون من أولوياته مواجهة تحدّيات البناء الثقافي والمعرفي للوعي المجتمعي، باعتباره محرّكاً للإرادة والفعل في مختلف مناشط الحياة الإنسانية، ومن ثم يستطيع السمو إلى مستوى القدرة على صياغة مفاهيمه، ومصطلحاته المنضبطة ضمن نسقه العلمي المتجدّد، ومنهجيته المعتبرة؛ ليصبح خطاباً يراعي المسلّمات الثقافية الجديدة، ويحسن استعمال اللغة الإنسانية المشتركة، ولا يفصل بين الكلي والجزئي، ويجتهد في تحقيق مناط الأحوال والأقوام والأوضاع ، دون أن يُتّهم بالانفصام.

وخلاصة القول: إنّ هذا الكتاب في غاية الأهمية، لاشتماله على معالجات من منطلقات شرعية وتربوية لعدد من المباحث والقضايا المطروحة في واقعنا الفكري.