مَلْءُ خانة الفَراغ التركيبيّ باستعارَة الأسلوب الأجنبيّ

شاعَ خطأ تركيبي بين المثقفين، مصدرُه الترجمَة أو النقلُ عمّن تأثّر بالتّرجَمة، وهو تقديم الجملَة الحالية على الفعل المتضمن فاعلاً ظاهراً أو مُضمراً، وهذا الفاعلُ هو صاحبُ الحال، وذلكَ نحو قولهم:
وأنا أقلبُ صفحات الكتاب وجدتُ...
وأنا أتجولُ بين رفوف المكتبات عثرتُ على كتاب...
ويكثُر هذا الضّربُ من الخطأ في كتابات القصص والروايات، ويُعللُ أصحابُها رُكوبَهم هذه الأساليبَ المترجَمَة بأنها أدقُّ في وصف الحال التي يصفونَها، وهُم لا يَعلمونَ أو يعلمون ويَتغافَلونَ أن تقديمَ ذلك الفعل المتضمن لفاعل كان صاحبَ حالٍ سيُسقطُ اللحنَ ويُبْرئ السَّقَم الأسلوبيَّ ويُعيدُ للتركيب عافيتَه المَسلوبَةَ، نعَم يَجوزُ تقديمُ الحالِ على صاحبِها ولكنّ تقديمَ جملة الحالِ على صاحب الحالِ المُفْرَد خلطٌ واضحٌ، وعنايةٌ بالمعنى وإهمالٌ لقواعِدِ الصنعَة، وهو من مزالِقِ التركيبِ والتعبيرِ والإعرابِ؛ ما الذي يَمنعُنا من أن نَقولَ:
وجدتُ، وأنا أقلبُ صفحات الكتاب...
عثرتُ، وأنا أتجول بين الرفوف، على كتاب...
أو نصرفُ النظرَ عن تصويب التركيب إلى تركيب آخَر أجملَ وأوفى، نحو قولنا:
بينما أنا أقلبُ صفحات الكتاب إذ وجدتُ...
بينَما نحنُ نتجولُ في رفوف المكتبَة إذ عَثرْنا...
وشاهدُه الحديثُ النبويُّ الشريفُ الذي رَواه عُمر رضي الله عنه [صحيح مسلم]: بينَما نحنُ جلوسٌ عند رَسول الله صلى الله عليه وسلّمَ إذْ طلَعَ عليْنا رجلٌ...(1)
هلْ نُفضِّلُ الأسلوبَ الشائعَ المترجَمَ على أسلوب الحَديث، ونقولُ: أسلوبُنا أدقُّ وأوفى بالمَعْنى؟ فمَن أجابَ بالإيجابِ وقالَ إنّ الأسلوبَ المرتَكَبَ اقتضاه العصرُ أو اقتضتْه الدّقّة في التعبير عن المَعْنى، قُلنا له: ما وجه الاقتضاء، وما وجه الدّقّة الدّلاليّة، وما علّةُ الخروج على التركيب العربيّ السليم الذي يشهدُ له ما لا حصر له من الشواهد الفصيحَة، أيُّ تعليل هذا وأيّ تنكُّرٍ؟ ليس للقضيّةِ إلا تفسيرٌ واحدٌ هو الترجمةُ الحرفيّةُ التي تُلقي بقبضتِها على رقابِنا.
فالقضية التي نناقشها هي تقديم جملة الحال على صاحبها، أو بناء الجملة لما لم يُسمَّ فاعلُه ثُم ذكرُ الفاعل، فهذه تراكيبُ منقولةٌ لا شك في ذلك، منقولة من لغة أخرى وليسَت تطورا أفضى إلى تغيير تركيبٍ بتركيب آخَر، وليسَت إبداعاً أو ذكاءً لغوياً، إنه لُجوءُ المتكلم إلى استعارةِ تركيب من لغة أخرى، ليس على سبيل الاختيار والتفضيل بين لغتين أو بين تركيبَيْن، والسبب هو أن المتكلم الذي يرتكب هذا التركيب الأجنبيَّ يَجهلُ تراكيبَ لغته "فيملأ خانةَ الفراغ التركيبي" الذي في نفسه بنموذج لغة أخرى في التركيب، وحينئذ يحدثُ الخلطُ.
ــــــــــــــــــــ
الهوامش: