من وحي كتاب “العلوم الإسلامية وقضايا المنهج والمعرفة.. دراسات مهداة إلى الدكتور طه جابر العلواني”

صدر عن الرابطة المحمدية للعلماء كتاب "العلوم الإسلامية وقضايا المنهج والمعرفة.. دراسات مهداة إلى الدكتور طه جابر العلواني" في طبعته الأولى عن دار الأمان بالرباط، الطبعة الأولى 2024م. والكتاب من القطع الكبير (502 صفحة) تقديم فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الأستاذ الدكتور أحمد عبادي، تنسيق وتحرير الدكتور محمد المنتار.
وقد جاء هذا السفر العلمي عبارة عن مجموعة متكاملة من الدراسات المهداة إلى الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله تعالى، وهي دراسات تم تقديمها خلال اليوم التكريمي الذي نظمته الرابطة المحمدية للعلماء إبرازا وتقديرا لجهود العلامة المحتفى به، وذلك يوم الاثنين 02 يونيو 2014م بالرباط، بحضور ثلة من الأستاذة والباحثين والأكاديميين المهتمين بتراث الدكتور طه جابر العلواني، وكذا بمشاركة فاعلة من المحتفى به عن طريق تقنية التناظر المرئي.
ولئن عرفت العلوم الإسلامية ظهور منهجيات علمية متلاحقة ومتتابعة، وطرائق استدلالية منضبطة، أضحت هي أساس العملية الاجتهادية في ضوء النصوص الشرعية، قرآنا كريما وسنة نبوية، بحسب معطيات يتداخل فيها النقلي، والعقلي، والواقعي.. لئن وقع ذلك وتقرر، فإن تاريخ التشريع في الإسلام، قد عرف منذ إرهاصاته الأولى وبداية نشأة المذاهب الفقهية، تَشَكُّل أسس علوم استنباطية واستدلالية، في شرق الأمة ومغربها، وهي علوم ظهرت ثمارها الوظيفية في حقول العلوم الإسلامية بأجمعها؛ في علوم القرآن، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله، وكتب الخلاف العالي، وكتب النوازل، وكتب الفتاوى، وكتب السياسة الشرعية، من خلال قواعد معلومة؛ وأدلة معتبرة، وضوابط ومعايير، مؤطِّرة للاستمداد من مصادر العلوم، القرآن الكريم والسنة النبوية، على تغير الأزمنة، والأمكنة، والوقائع، والسياقات.
ومن عظيم منن الخالق سبحانه، أن منّ على الأمة بتتالي أجيال الحمَلة من العلماء منذ عصر النبوة إلى يومنا هذا، حيث نجد أن علماء الأمة وكما جاء في تقديم فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء لهذا السفر المبارك: "بذلوا أغلى المُهَج، وأنفس الأوقات، في العلوم الإسلامية استوجب ذلك بحق، القرآن الكريم، استنطاقًا له، واستمدادًا لمعانيه، ونظرًا في دلالته. وامتدت هذه الجهود المباركة، لتغطي حقولا معرفية عديدة، عبر آليتي التدبر والتفكر، من خلال إبراز طرق الاستنباط الصحيح في الفهم، وتوجيه التحصيل، والاستمداد السليم في التلقي للنص القرآني، وما يتبع ذلك من وضع للقواعد، ورسم للضوابط الفاصلة والحاكمة بين الاستنباط السليم وذلكم الفاسد" ص: 5.
وفي هذا السلك العلمائي يندرج العلامة الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله، الذي أسهم في عدد من حقول العلوم الإسلامية، وأغنى مباحثها بعدد من الرؤى والدراسات والأبحاث والتآليف الحسان، حتى صار، رحمه الله، باحثا موسوعيا مشاركا في تطوير مباحث هذه العلوم.
كما اتسمت أبحاثه، رحمه الله، بالشمولية والموسوعية، والدقة والفاعلية؛ إذ عكف على مراجعة التراث الإسلامي واجتهد ما وسعه الاجتهاد لتنقيته ممّا علق به من شوائب وأغاليط، لحقت به على مدار تاريخه الطويل الحافل. لذا، فهو يُعَدّ بحقٍّ أحد أهمّ روّاد الفكر الإسلامي المعاصر.
لقد انطلق الدكتور طه جابر العلواني، رحمه الله، بمنهج علمي فريد في رسم رؤية معرفية للعلوم الإسلامية، عبر جملة من المؤلفات والأبحاث العلمية والأكاديمية، وخصوصا في مجالين منها:
المجال الأول: مجال الدراسات القرآنية المعرفية والمنهجية، والتي أخذت حيّزاً واسعاً من دراساته وأبحاثه، بل إنه رحمه الله خصص لها سلسلة علمية أدرج فيها مواضيع وقضايا في مجال علوم القرآن، من قبيل أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها، والجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، والوحدة البنائية للقرآن المجيد، ولسان القرآن ومستقبل الأمة القطب، ونحو موقف قرآني من النسخ، ونحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه، ودراسة أفلا يتدبرون القرآن: معالم منهجية في التدبر والتدبير، وغيرها من الدراسات القرآنية.
وهي دراسات متميزة منهجا ومضمومنا "تربطها جميعها وحدة موضوعية سطّر الدكتور طه جابر العلواني وَمضات منهجية ومعرفية، دالة على تصوره للقرآن الكريم، ولوظيفته في حياة الإنسان، باعتباره النبع الصافي والمعين الأول، والمحرّك الرئيس لهذه الأمّة، وهي ومضات تقوم على منهجية قرآنية معرفية؛ أبدع رحمة الله عليه، في مقاربتها وبسط أسسها، شافعا ذلك البسط، بإعادة تحرير وتدقيق جملة من المفاهيم أبرزها: التبصر، والفهم، والنظر، والتفكر، وغيرها من المفاهيم القرآنية الممكنة من حسن تلقي هاديات القرآن الكريم" (من مقدمة فضيلة الأمين العام للكتاب ص: 6).
المجال الثاني: مجال الدراسات الأصولية والمقاصدية، وهو مجال علمي نال حظا وافرا من اهتمامات الدكتور طه جابر العلواني، تدريسا، وتأليفا، وتحقيقا، من خلال تحقيق رسالة الصلاة المنسوبة للإمام أحمد، وكتاب الاجتهاد والتقليد في الإسلام، وتحقيق المحصول في أصول الفقه للإمام الرازي، وكتاب أدب الاختلاف في الإسلام الذي طبع مرات عديدة، وكتاب أصول الفقه الإسلامي: منهج بحث ومعرفة، وكتاب نحو التجديد والاجتهاد، مراجعات في المنظومة المعرفية الإسلامية، وكتاب مقاصد الشريعة، وهي دراسات لقيمتها العلمية تمت ترجمة عدد منها إلى عدد من اللغات الحية.
يضاف إلى كل ذلك الإسهام الفعال للعلامة طه جابر العلواني، بدراسات وأبحاث نشرها بعدد من المجلات العلمة المحكمة في مجال الفقه والأصول والمقاصد وعلوم القرآن، وكذا أشغال المؤتمرات والملقيات والندوات العلمية والورشات التكوينية في مجال الدراسات القرآنية والدراسات الأصولية والمقاصدية.
ويُعَدّ فهم القرآن وتفسيره مكوِّنا محوريا في مؤَلَّفات الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني، ودراساته، وأبحاثه، ولذلك فقد شكَّلت الدراسات القرآنية حيّزاً واسعاً واهتماماً بالغاً فيها؛ حيث أولى الدراسات القرآنية جُلّ اهتمامه؛ نظراً لاعتقاده الراسخ بضرورة العودة إلى النبع الصافي والمعين الأول، ويقينه بأنْ لا نهوض للأمّة من دون استلهام معانيه وهديه، في حلّ مشكلات النفس والمجتمع والعالَم، فسعى في دراساته القرآنية إلى المقاربة بين المنهج والمنهجية المعرفية القرآنية، وإفساح المجال أمام الباحثين لاستكناه دلالات الألفاظ في القرآن الكريم، وتثوير آياته، وسبر وحدته؛ بغية مداومة النظر والتفكُّر والتدبُّر والتبصُّر، في آياته وبصائره.
ولعل من العلامات البارزة في فكر الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله، إقدامه على تشخيص علمي دقيق لدواعي الانفصام بين علومنا الإسلامية وبين مصدرها الذي هو الوحي، حيث بيّن أن النظر لمختلف العلوم الإسلامية لا بد أن يتقدمه النظر إلى علوم اللغة، وعلوم القرآن، مقدما قراءة متزنة للعلاقة العضوية التي بها تُبنى الرؤية للإنسان والحياة والأحياء في هذا الوجود.
ولتعم الفائدة بهذا الكتاب التكريمي، فقد جاء تقسيمه إلى خمسة أقسام، هي:
القسم الأول: العلوم الإسلامية: المنهج والمعرفة.
القسم الثاني: العلوم الإسلامية وقضايا التأويل.
القسم الثالث: الدراسات القرآنية في فكر الدكتور طه جابر العلواني.
القسم الرابع: الدراسات الأصولية والمقاصدية في فكر الدكتور طه جابر العلواني.
القسم الخامس: ملحق فيه سيرة ذاتية للدكتور طه جابر العلواني، وآخر حوار أكاديمي أجراه رحمه الله.
وهي دراسات وأبحاث تغطي مجالا معرفيا، أو منهجيا في حقول العلوم الإسلامية، ولاسيما ما يتعلق منها بمجالات الدراسات القرآنية وقضايا التأويل والتفسير والمحددات المنهاجية القرآنية، وأصول الفقه، ومقاصد الشريعة.
إن الوعي بتراتبية الحلقات المعرفية والمنهجية التي عرضها ودبجها العلامة الدكتور طه جابر العلواني، في مختلف مشاريعه الفكرية والأكاديمية شرقا وغربا، وتدريسا وتأليفا، وتكوينا وتدريبا.. كل ذلك يشكل كدحا فريدا، واجتهادا نوعيا، من علَم أشم، ندر نفسه، وجهده، وماله، ومشاريعه لخدمة كتاب الله عز وجل والانشغال به، في سياق تتجاذبه مستويات من التقاطعات والتقاطبات، وهي دعوة وكما ختم الدكتور طه كتابه حول "التدبر" بحد ذاتها دعوة إلى التشبت بتلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبتعليم رسول الله، وبتأويل رسول الله للقرآن الكريم، وبسنة رسول الله ومنهجه في بيان القرآن، صلى الله عليه وآله وسلم، وتأويل وتفعيل آياته، وإيجاد الأمة الشاهدة الخيرة الوسط بهدايتها"
وهذا إن دل على شيء إنما يدل على الوعي المتميز من لدن العلامة الدكتور طه جابر فياض العلواني رحمه الله، بالأبعاد الوظيفية للتدبر، والتي تتجلى في مدى الوصول إلى مستوى راشد من "التدبير"؛ فالتدبير، هو التخطيط للخروج من الأزمات والمشكلات كيفما كان حجمها ووقتها، والتدبير ينبغي أن يكون ناتجًا وحاصلاً عن "التدبر"، فلا تدبير بلا تدبر، بل غيابه يفسح المجال للارتجال والتخبط، والقرآن الكريم، كتاب حياة واستخلاف وبناء، نتدبره لندبر بهدايته، ونهتدي بأنواره في مختلف شؤون الحياة، فـالتدبير أهم مقاصد التدبر.