مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

من مظاهر اعتناء المغاربة بكتب الحديث في مجالس شهر رمضان “نماذج منتقاة”

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

لقد حرص المغاربة على مر التاريخ على العناية بالكتب الحديثية  في شهر رمضان المعظم، فهو موسم الخيرات والبركات ، فيه تسرد وتختم الكتب الحديثية ، ومن الكتب التي تم تداولها بينهم كتاب الموطأ لمالك بن أنس، وصحيحي البخاري، ومسلم، وكتب السنن الأربعة.. ، وقد تنافس العلماء والأمراء والسلاطين، بل وعامة الناس  في ذلك،  وكان منهم من يبدأ بقراءة الكتاب وسرده قبل شهر رمضان، ليختمه في هذا الشهر المبارك؛ ولأهمية هذا الموضوع فقد انتقيت الحديث عن ثلاثة كتب من هذه المؤلفات ؛وهي: الموطأ، وصحيحي البخاري، ومسلم ،وسأقتصر في ذلك على ذكر بعض النماذج ،أنتقيها من كتب التراجم التي اعتنت بذكر هذا الموضوع ، وسيكون منهجي فيها الآتي:

أذكر هذه الكتب الثلاثة مرتبة لها حسب تاريخ وفيات أصحابها ، ثم أذكر لكل كتاب نموذجا واحدا ، أو اثنين، أو  أكثر  يبين تلك العناية ، وهذا أوان الشروع في المقصود، فأقول وبالله التوفيق والسداد: 

الموطأ للإمام مالك بن أنس (179 هـ)

يعد الموطأ للإمام مالك بن أنس (179هـ) من الدواوين الحديثية التي لقيت عناية خاصة لدى المغاربة، مذ دخول المذهب المالكي للمغرب إلى يومنا هذا، وقد كانت  خدمتهم لهذا الكتاب متميزة خلال شهر رمضان، وذلك بقراءته وروايته ، ومدارسته، وختمه في المساجد ،والمدارس العتيقة، والزوايا .. ، يتوارث ذلك الخلف عن السلف، واللاحق عن السابق، وهذا كله نابع من حب المغاربة وتشبتهم الكبير بهذا الكتاب الجليل؛ ومن نماذجه على سبيل المثال لا الحصر: ما ذكره العلامة محمد المختار السوسي في المعسول في ترجمة  العلامة  عبد الله بن محمد الإيكدماني  (ت نحو 1310 هـ ) " واصفا مجلس سرد الحديث في شهر رمضان في سوس، -ويعد كتاب الموطأ من بين تلك الكتب- قائلا    : " ولما دخل رمضان ولم يكن عنده –أي الشيخ الصوابي -من يرضاه لسرد الحديث ترك تلك الأنصبة كلها، وأقبل علي بكليته يمرنني على الحديث ،فقرأت عليه البخاري، ومسلما، والموطأ بالتمام " [1]، مع زيادة بيان لوقت سرده لهذا الكتاب وهو:"الليل". قال "..فأقبل بي على سرد الحديث؛  البخاري  نهارا، والموطأ  ليلا، حين نشرب الأتاي .."[2]، وهو نفس التوقيت الذي ذكره العلامة  إبراهيم بن صالح الرسموكي (ق 14 هـ) عن مجلس  شيخه  العلامة  محمد بن عبد الله الأقريضي في  سرد الموطأ في شهر رمضان  قائلا: "وكان من عادة الأستاذ أن يستتم البخاري والموطأ في رمضان. البخاري نهارا، والموطأ ليلا. "[3].

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ).

ويعد هذا الكتاب من أصح الكتب الحديثية بعد كتاب الله تعالى، تلقته الأمة بالقبول جيلاعن جيل، إلى يومنا هذا، قال الإمام النووي: "اتفق العلماء على أن أصح الكتب المصنفة: صحيحا البخاري ومسلم ، واتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهماصحيحا ، وأكثرهما فوائد"[4].

لقد لقي هذا الكتاب إقبالا واسعا في نفوس المغاربة،واعتنوا به عناية خاصة، إقراءا ، وحفظا ، وختما..، ومن نماذج عنايتهم به في شهر رمضان ، ما أورده الحضيكي في طبقاته في ترجمة العلامة محمد بن غازي المكناسي (ت: 919 هـ) قال: " كان يسمع في كل شهر رمضان صحيح البخاري"[5]، وما قاله العلامة يوسف الكتاني عن مجلس الخليفة المنصور (ت 1012 هـ):" وقد شغف المنصور بكتب الحديث ودواوينه، وفي مقدمتها صحيح البخاري، الذي كان يدرس بمجالسه العلمية طوال السنة، وخاصة في رمضان "[6]، وفي وصف ذلك يقول المؤرخ  عبد العزيز الفشتالي:" ومنها قيام رمضان، وإحياء لياليه المباركة، ينتقي لذلك مشيخة القراء والأسانيد في السبع، وحسن الأداء والتلاوة، ويستنفرهم  لشهود رمضان معه، ثم يبرز صباح كل يوم من أيامه لسماع الحديث الكريم، وسرد الجامع الصحيح للبخاري بين يديه، يعقد لذلك مجلسا حافلا من أهل العلم ومشيخته، برسم المذاكرة والتفهم في أسرار الأحاديث النبوية، ويحضر لذلك من كتب الفن بقصد الرجوع إليها فيما أشكل حصة وافرة من تآليف غريبة، وكتب جمة النفع، فإذا تجادل العلماء في ميدان المذاكرة في فهم مسألة من المسائل شاركهم فيها، وربما تناول راية السبق إلى فهم المسألة، فيصيب المفصل لغزارة علمه، وحسن ملكته بما يقر العين، ويشفي الصدر، ويبهت الحاضرين، وهذا دأبه أيده الله في رمضان كله حتى ينصرم"[7].

ومن العلماء المعتنين به كذلك في هذا الشهر الفضيل؛ العلامة يحيى بن عبد الله بن عبد المنعم الحاحي (ت 1035 هـ)؛ حيث كان تلميذه العلامة عبد الرحمن التمنارتي (ت 1060 هـ)" يقرأ ويختم عليه  صحيح البخاري بتمامه كل سنة  في رمضان"[8].

ومنهم كذلك العلامة محمد بن إبراهيم بن محمد السباعي المراكشي (ت 1332 هـ) ؛ حيث كان رحمه الله يقرأ بفاس جميع صحيح البخاري من ثاني عشر جمادى الثانية إلى ليلة السابع والعشرين من رمضان[9].وغيرهم.

        المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  للإمام مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ):

ويعد من أصح الكتب الحديثية، تلقته الأمة بالقبول، شأنه في ذلك شأن صحيح البخاري، وكان  للمغاربة شفوف عناية بهذا الكتاب،  حتى ذهب بعضهم إلى تقديمه على صحيح البخاري لحسن ترتيبه وتبويبه ، وفي هذا يقول ابن خلدون (ت808هـ): "فكثرت عناية علماء المغرب به، وأكبوا عليه، وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه، وأكثر ما وقع لهم في التراجم "[10]، فكانوا يعقدون مجالس لسرده وختمه خلال شهر رمضان ؛ ومن نماذجه ما أورده العلامة محمد المختار السوسي في ترجمة العلامة  عبد الله بن محمد الإيكدماني  (نحو 1310 هـ )  في وصف مجلس الشيخ الصوابي بعد انتهائه من سرد صحيح البخاري وموطأ مالك  قال: " ثم شرعنا في مسلم  ففرغنا، وأتبعناه    بـ : الشفاء،  وأتممناه في ليلة العيد"[11].

 الخاتمة:

هذه بعض النماذج المنتقاة من عناية المغاربة بالكتب الحديثية التي انتقيت منها ثلاثة كتب ؛ وهي: الموطأ، وصحيح البخاري، ومسلم بإيجاز ،  ولم أرم الاستقصاء في الموضوع ؛ وإنما أوردت بعض الإشارات اللطيفة، عسى أن تكون مفتاحا لمن أراد التوسع فيه ، سائلة المولى عز وجل أن يجزي العلماء خير الجزاء، وأن يوفقنا للخير إنه سميع مجيب.

***************

هوامش المقال:

[1]- المعسول (3/ 194)

[2] - المعسول (3 /196).

[3] - المعسول (11/ 188).

[4]- تهذيب الأسماء واللغات (1/ 73).  

[5] - طبقات الحضيكي (1 /248).

[6] ـ  مدرسة الإمام البخاري بالمغرب (1/ 368).

[7] ـ  مناهل الصفا (ص: 213).

[8] ـ انظر : الفوائد الجمة (ص: 158).

[9] - الإعلام بمن حل مراكش (7 /192).

[10] - مقدمة ابن خلدون ( ص: 414).

[11] - المعسول (3/ 196).

**************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام. للعباس بن إبراهيم السملالي . راجعه: عبد الوهاب ابن منصور. المطبعة الملكية الرباط. ط2/ 1413 هـ- 1993مـ.

تهذيب الأسماء واللغات.لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، عنيت بنشره وتصحيحه، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.

طبقات الحضيكي. لمحمد بن أحمد الحضيكي. تقديم وتحقيق: أحمد بومزكو. مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء. ط1/ 1427 هـ- 2006 مـ

الفوائد الجمة في إسناد علوم الأمة. لأبي عبد الرحمن التمنارتي. تحقيق: اليزيد الراضي. تقديم: محمد المنوني. دار الكتب العلمية بيروت. ط1/ 1428 هـ- 2007 مـ.

مدرسة الإمام البخاري في المغرب. ليوسف الكتاني. دار لسان العرب بيروت. (د.ت).

المعسول.لمحمد المختار السوسي.طبع بمطبعة النجاح الدار البيضاء. 1380 هـ- 1961 مـ.

مقدمة ابن خلدون. تحقيق: درويش الجويدي صيدا. المكتبة العصرية ط2/ 1416 هـ-1996 مـ.

مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا. لأبي فارس عبد العزيز الفشتالي. دراسة وتحقيق: د عبد الكريم كريم. مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة الرباط.(د.ت).

راجع المقال الباحث: يوسف ازهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق