من فضائل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه (3)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يَطْلُعُ عليكم من هذا الفَجِّ رجلٌ من أهل الجَنَّة» فَطَلَعَ عثمان بن عفان رضي الله عنه([1]).
هذه باقة من بعض الفضائل المنسوبة إلىه رضي الله عنه التي نستمر في سردها وهي كفيلة بإدراك قيمة هذا الصحابي الجليل والخليفة الراشد الذي تتلمذ مباشرة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
-فقهه: روى الإمام أحمد أنه: >لو هلك عثمان بن عفان وزيد بن ثابت في بعض الزمان، لهلك علم الفرائض إلى يوم القيامة، ولقد جاء على الناس زمان وما يعلمها غيرهما< ([2]). وقيل: >كان أعلمهم بالمناسك ابن عفان، وبعده ابن عمر< ([3]).
-حُبُّهُ للقرآن وجمعه له واحتكامه إليه: روي عنه أنه قال: >لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله ــ عز وجلــ قال: وقال عثمان: ما أحبّ أن يأتي عَلَيّ يوم وليلة إلا أنظر في كلام الله ــ عز وجل ــ يعني القراءة في المصحف<([4]). وكان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة واحدة([5]). وقد >عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. وعرض عليه عبدالرّحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب، وأبو الأسود، وزر بن حبيش<([6]).
ومن أفضال عثمان رضي الله عنه على أُمَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعه القرآن في دفتي المصحف روى البخاري عن موسى عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه (أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب، اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن ابن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.) ([7])، باعتماد الصحف التي جمعت في عهد أبي بكر، وكانت آنذاك ما تزال بحوزة حفصة بنت عمر رضي الله عنه وبإشراف لجنة عينها لهذا الغرض، تشكلت من: زيد ابن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام([8]). وقد اتخذ هذا القرار بإشارة من الصحابي: حذيفة، وبعد أن جمع >الصّحابة وأخبرهم الخبر فأعظموه، ورأوا جميعا ما رأى حذيفة<([9]).
روى الإمام أحمد أنه كان يقول: >إن وجدتم في كتاب الله عز وجل أن تضعوا رجلي في القيد فضعوها<([10]).
وشاء الله عز وجل أن يكلل تعلقه بالقرآن الكريم أن يتعرّض الإثنان للعدوان في آن واحد أثناء الهجوم الذي أسفر عن مقتله رضي الله عنه: >دخل عليه رجل فقال: بيني وبينك كتاب الله عز وجل قال: فخرج وتركه. قال: ودخل عليه آخر فقال: بيني وبينك كتاب الله عز وجل قال: والمصحف بين يديه، قال: فهوى إليه بالسيف، فاتّقاه بيده فقطعها، قال: فلا أدري أبانها أم قطعها، أولم يبنها، فقال: أما والله إنها لأوّل كف قد خطت المفصل<([11]).
-زهده وتقوه وكثرة عبادته وخوفه من الله تعالى
وُصف رضي الله عنه بالورع والزهد والتقوى وكثرة العبادة، فذُكر أنه كان يقرأ القرآن في ركعة، فذكر عن محمد بن سيرين، أن عثمان كان يحيي الليل فيختم القرآن في ركعة، وروى يزيد بن هارون ما نسبه إلى عبدالرحمن بن عثمان قال: قمت خلف المقام وأنا أريد ألا يغلبني عليه أحد تلك الليلة فإذا رجل يغمزني فلم ألتفت إليه، ثم غمزني، فنظرت فإذا عثمان بن عفان فتنحيت فتقدم، فقرأ القرآن في ركعة ثم انصرف ([12]).
كان سيدنا عثمان رضي الله عنه في العبادة واحداً من أفذاذها المعدودين، فقد ورد عنه في غير ما مصدر، أنّه كان يصوم النهار، ويقوم الليل، ويديم النظر في المصحف الشريف. ويذكر بعض المفسرين أنّ نزول الآية الكريمة {أمن هو قانت أناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه}([13]) هي في عثمان بن عفان كما رواه ابن أبي حاتم بسنده، عن يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر قرأ: {أمن هو قانت أناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه} قال ابن عمر: ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه. وإنما قال ابن عمر ذلك، لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة([14]).
وعن ابن سيرين قال: قالت امرأة عثمان حين قُتل عثمان، لقد قتلتموه وإنه ليُحيي اللَّيل بركعة، وعنه كذلك قال: لما أحاطوا بعثمان ودخلوا عليه ليقتلوه قالت امرأته: إن تقتلوه أو تدعوه فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن([15]).
وذكر حماد بن خالد عن الزبير بن عبدالله عن جدّة له يقال لها: زَهِيمَةُ، قَالَتْ: كَانَ عُثْمَانُ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ إِلَّا هَجْعَةً مِنْ أَوَّلِهِ([16]).
ومن ورعه رضي الله عنه وشدة خوفه من الله عز وجل بقاؤه عند القبور، فقد ذكر عن عبدالله ابن بجير عن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يَبُلَّ لحيته([17])، وكان رضي الله عنه من أزهد الصحابة، فعن شرحبيل بن مسلم قال: كان عثمان يطعم الناس طعام الإمارة ويأكل الخل والزيت([18]).
-حياؤه: والحياء من أهم الصفات التي اتصف بها ثالث الخلفاء الراشدين رضي الله عنه عثمان بن عفان، ونصت عليها أحاديث كثيرة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفة على الصحابة رضي الله عنهم بل أنه قد أصبح مثالا يضرب في الحياء رضي الله عنه حيث عدت تلك الصفة من أهم شمائله وفضائله.
هذا وقد بدأ الإمام مسلم حديثه في باب فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه بحديث عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضجعا في بيتي، كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له، ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهش له ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست وسويت ثيابك! فقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» ([19]).
-هجرته: أخرج الطبراني عن النضر بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عثمان رضي الله عنه مهاجرا إلى أرض الحبشة ومعه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبس على النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، وكان يخرج يتوكف عنهم الخبر، فجاءته امرأة فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عثمان أول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط» ([20]).
قال القحطاني يمدح الخليفة الراشد في نونيته الشهيرة([21]):
لمَّا قضـى صديقُ أحمدَ نَحْبَه |
دفعَ الخلافةَ للإمام الثَّاني |
|
أعنى به الفاروقَ فرَّقَ عَنوة |
بالسَّيف بين الكفر والإيمان |
|
هو أظهر الإسلام بعد خفائه |
ومحا الظلام وباح بالكتمان |
|
ومضـى وخَلى الأمر شورى بينهم |
في الأمر فاجتمعوا على عثمان |
|
من كان يسهَر ليلةً في ركعةٍ |
وترًا فيكمل ختمةَ القُرآن |
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه عبدالله بن أحمد بن حنبل: فضائل عثمان بن عفان، 1/ 62.
([2]) فضائل الصحابة. حديث رقم 745 ـ 1/ 563. فضائل عثمان. 1/ 78.
([4]) فضائل عثمان. حديث رقم:65. 1/ 115، 116.
([6]) سير أعلام النبلاء. 2/149.
([7]) حديث رقم: 4987 ـ كتاب: فضائل القرآن ـ باب: جمع القرآن: 6/183، 184.
([8]) أبو الفدا، المختصر في أخبار البشر: 1/209.
([9]) الكامل في التاريخ: 3/ 8.
([10]) مسند الإمام أحمد ـ حديث رقم: 524 ـ 1/ 544.
([11]) فضائل عثمان. حديث رقم:55. ص: 104 ـ انظر أيضا: العقد الفريد. 5/ 43.
([12]) ابن سعد، الطبقات: 3/72.
([14]) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 10/2248. وذكره ابن كثير في تفسيره 7/88.
([15]) ابن سعد، الطبقات: 3/72. أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء: 1/57.
([16]) أبو نعيم، حلية الأولياء: 1/ 56.
([17]) أبو نعيم، حلية الأولياء:1/ 61.
([18]) المحب الطبري: الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص: 110.
([19]) صحيح مسلم بشرح النووي: 15/241،كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عثمان، رقم: 2401، 2402.
([20]) المعجم الكبير: 1/90. المحب الطبري، الرياض النضرة: 1/85.