مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب وجه المغايرة في آية النعم في سورة النحل بين الإفراد والجمع “يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ…” [الآيات:11-13] الامتنان بالنعم

        مقصد القرآن الأسمى هدي العباد، وتذكيرهم يوم التناد، تأميما لهم للتي هي أقوم، استدلالا على الخالق ببديع خلقه، و شدهم إليه بحكيم صنعه، وللكتاب أساليب لتحقيق هذه الغاية، مراعيا في ذلك أحوال الناس، وتباين طباعهم، ومآخذ تأثرهم وانفعالاتهم..فمنهم من يكفيه التعريف بالله خالقه، ومنهم من يخوفه الوعيد، ومنهم من تذكره السنن، ومنهم من تستحثه مطالعة الموعود، وآخرون يخجلهم الترفل في النعم..  فجاءت مسالك الهدى أوزاعا يتغيى مجموعها حمل الخلق على الاستسلام لله طوعا، والاندراج في مسلك العبدية حبا يحدوه الشعور بالحاجة إليه والافتقار له قسرا..

       أقف مع القراء اليوم على واحدة من هذه الخصال، لأخلص منها إلى مشتبه قرآني ينجلي به وجه المناسبة في خروج السبك على ذلكم المنوال، يشكل على التالي ضبطه إلا بنوع من الاستحضار التام لآلة الوعي في الإنسان، ذلكم هو الامتنان بالنعم، وتذكير المكلفين بها سوقا لحضرة الاستسلام والإذعان، وقد توالت نداآت القرآن نادبة العباد إلى إعمال الفكر فيها من مثل قوله جل وعز: "وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ" ومساق الأمر في هذه الآية آت بعد جملة من الشرائع وردت صدر سورة المائدة، فهو في قوة التذكير بالحامل على قبول ما شرع، أي: إذا كان الحال على ما علمتم؛ من ابتدائه سبحانه بالإنعام، وتفضله عليكم بتوالي الإحسان، كان ذلك أدعى إلى قبول ما حُمِّلتم، وتفعيل ما عُلِّمتم.. وجاء الأمر بتذكرها باسم الجنس المستغرق لأفرادها لا تتبع أعدادها؛ لأن ذلك شيء تقصر دونه العقول، قال الفخر: "إنما قال: واذكروا نعمة الله عليكم ولم يقل نعم الله عليكم، لأنه ليس المقصود منه التأمل في أعداد نعم الله، بل المقصود منه التأمل في جنس نعم الله، لأن هذا الجنس جنس لا يقدر غير الله عليه، فمن الذي يقدر على إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله، فقوله تعالى: "وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ" المراد التأمل في هذا النوع من حيث إنه ممتاز عن نعمة غيره، وذلك الامتياز هو أنه لا يقدر عليه غيره، ومعلوم أن النعمة متى كانت على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل... "وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ" " مشعر بسبق النسيان، فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات، إلا أن الجواب عنه أنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد، فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سببا لوقوعها في محل النسيان، ولهذا المعنى قال المحققون: إنه تعالى إنما كان باطنا لكونه ظاهرا، وهو المراد من قولهم: سبحانه من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره."[1]

        فعرض النعم و التذكير بها يسوق إلى الشكر، -بحكم الجبلة المغروزة في الطباع-؛ إذ النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى العباد ظاهر، لا ينكره إلا من مسخت فطرته، وتنكبت عن الجادة مسيرته، فيحتاج هذا النوع وأشياعه ممن اعتادوا النعم وتفتقت عليها أنظارهم -فاستمرأوها وجهلوا مصدرها- أن يُذكَّروا بموليها لينفضوا عن بصائرهم غشاوة الغفلة؛ المعكرة لصفاء الرؤية، وقد أكثر الكتاب من التذكير بهذا المعنى؛ لما فيه من إيقاظ الضمائر، والتبصير بأنهج المسالك، وذلك كقوله تعالى: "وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ..." [الروم: 20-إلى 25] "وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَن يُرۡسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَٰتٖ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَلِتَجۡرِيَ ٱلۡفُلۡكُ بِأَمۡرِهِۦ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ" [الروم:46] "وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ"  [فصلت:39]... وأضراب ذلك من الآيات المذكرة بالنِّعم وموليها، مما يحدُوا بالعبد إلى اللَّهج بشكر نعم خالقه عليه، وفي بعض الأثر: "أَحِبُّوا اللهَ لما يَغْدوكُم به من النِّعم"[2]، ولا يسع من تحقَّقَ مقام الشهود إلا أن يُقرَّ ويبوءَ لمُسديها بتمام النعمة والمنة، مع تمام البوء بالفتور والجحود، وهذه منزلة يتحدث عنها أرباب القلوب، ومن صفت نفوسهم من أرباب السلوك، ومن الآيات الصريحة في التذكير بالإنعام - وإليها سيق ما سيق من تقدمة؛ لما اكتنفها من بعض الإشكال ضبطا لاختلاف فواصلها جمعا وإفرادا، مع ما تُوجَّه به تذييلاتها  لمناسبة المساق، من التفكر والدعوة إلى إعمال العقل ثم التذكر كما وردت فواصلها على هذا النسق-  قوله تعالى في سورة النحل: " يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ" [الآيات:11-13].

فيشتبه على الطالب -في بدء الحفظ- تمييز موضع الإفراد عن موضع الجمع في الآية، فربما جعل هذا في موضع هذا، مما يضطر معه المحفظون للقرآن الكريم، المتمكنون من متشابهه أن يضعوا لمثل هذه المتشابهات أنصاصا يضبطون بها محالها من الذكر، وقد لا يحفلون في الغالب بجودة السبك ولا رصانة النظم، وربما أيضا تجاسروا على قواعد النحو احتفاء بالقصد الأول؛ وقد يكون جهلا بقواعد العربية، وهو أمر مغتفر في بدء الطلب، لما كان القصد إسعاف الطالب بما يضيء به لوحه، تنبيها له إلى مظان الاشتباه، وتمكينه مما يضبط به محفوظه، فيجمعون له مواضع الاشتباه، ومما ضبطوا به هذا الموطن قولهم:

لآيةً بالنصب قل عشرون   في خرجوا اصطفى إلى مدين

نبئ عباديَ فقل ثانيــــــهِ    اثنين في أتى من غيرِ وسْطها

وقال اللهُ ثلاثُ البيــــاني    وبخعٌ لا غير فيه اثنيـــــــــــــن

أنؤمن أربعٌ زدهمُ اوفوا       سننظرُ فآمن وينتــــــــــــــــه

فنصوا في هذا الأبيات على المواضع التي ورد فيها لفظ "لآية" بالإفراد، ونبهوا على مجموع ما ورد من ذلك في القرآن كله،  ونصوا على مواضعها في أرباع القرآن، تيسيرا على الطالب، وجمعا لشتات المبثوت، وربما اقتصروا على تبيين مواضع السورة وحدها، كما في فعلوا في هذا المشتبه نفسه فقالوا:

أتى أمر الله أول وثالث   تتخذوا نراه ثلاث مروية

وهو جهد مشكور، وتراث مغربي مغمور، اندثر أهله أو هم إلى الاندثار أقرب، ينبئنا عن مدى اعتناء المغاربة بكتاب ربهم، واحتفائهم بضبطه، وتهممهم بالتمهر بحرفه، منذ المراحل الأولى للتحصيل، إلى أن يشتد عودهم، فيستطيعون الوقوف على الأسرار فيوجهون النظم بما أوصلهم إليه إعمال الفكر وإنعام النظر، وعمدتنا كما تعودنا في هذا التطواف الإمام ابن الزبير الغرناطي رحمه الله، قال في هذا المحل:

         "الآية الأولى منها قوله تعالى: "يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ" [النحل: 11 – 13].

 يسأل عن توحيد (آية) في الآية الأولى والثالثة، وجمعها في الآية الثانية المتوسطة؟ وعن تعقيب الأولى بقوله: "لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" وتعقيب الثانية بقوله: "لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" والثالثة بقوله: "لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ"

         والجواب عن السؤال الأول: أن الإشارة بقوله: "إِنَّ فِي ذَلِكَ" في الآية الأولى إلى المنزل من السماء في قوله: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ" [النحل: 10]، ثم قال: "يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ" [النحل: 11] أي: ينبت لكم بالماء المنزل من السماء - مع وحدته في الصفة - ضروبَ الأقواتِ والفواكه وأنواع الثمرات فقيل: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً" بالإفراد، لأن الإشارة إلى الماء، أو إلى إنبات أنواع الثمرات المختلفات في الطعم والألوان مع وحدة المادة من الماء وهو واحد، وكذلك الآية الثالثة الإشارة فيها إلى الجنس الواحد الواقع عليه لفظ (ما) من قوله: "وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُه" فأفرد هذا الضمير أيضاً لرجوعه إلى (ما) الواقعة على جنس واحد مبثوث في الأرض يتشكل على أنواع مختلفة في الطعوم والألوان، فأفرد لفظ الآية لما أفرد لفظ الضمير لوقوع ذلك على الجنس الذي عبرت عنه (ما)، وهو جنس واحد، فاقتضى ذلك إفراد (آية).

         وأما الآية المتوسطة فالإشارة فيها إلى خمسة أشياء مختلفة، أحيل عليها في الاعتبار، وسخرت لنا تسخيراً به قوام معاشنا وصح أحوالنا ومعرفة حسابنا، وهي الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، وكل واحد من هذه تتسع جهات النظر فيه والاعتبار بعجائبه، فالليل للسكون والراحة، والنهار للاكتساب والتصرف والسياحة، والشمس للإضاءة والتسخين، والقمر للنورية والترطيب والتكوين، وبكلا النيرين معرفة الشهور والسنين، "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ" [يس: 40]، والنجوم للاهتداء في ظلمات البراري والبحار، وجهات الاعتبار بهذه الخمس يفوت الإحصاء، فللإشارة إلى هذه المتعددات جمع فقيل: (لآيات).

         والجواب الثاني، وهو وصف المعتبرين في الآية الأولى بالتفكير وفي الثانية بالعقل وفي الثالثة بالتذكير: أن إنبات الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومختلف الثمرات بالماء المنزل من السماء مع كونه واحداً، والمنبت مختلف الأنواع والطعوم والمنافع أمر يوصل إلى تعرفه وارتباطه باستعمال الفكر في ذلك وإن لم يطل، بشرط السلامة من الغفلة، فيحصل بمجرد الفكر على عظيم المعتبر.

           وأما تسخير الليل والنهار إلى ما ذكر معهما فلا يكتفي في معرفة ذلك والحصول على الاعتبار به بمجرد الفكر، فإن العلم بتسخير هذه مما يغمض ويخفى إلا على ذوي البصائر والفطن السليمة والعقول الراجحة، فلم يقنع التفكر هنا، بل وصف المعتبر بها بما هو فوق الفكر، وتأصل ما تعقب به موضوع الاعتبار في قوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ" [البقرة: 164]، إلى قوله: "لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" لما كان في الاعتبار بما انطوت عليه الآية غموض وخفاء قيل: "لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"،

           وأما الآية الثالثة وهي قوله: "وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ"،[النحل: 13] ببدأةِ الفكر السالم فقصدُ التذكير كاف في حصول الاعتبار بذلك.

 فإذا تأملت ما ذكرناه ألفيت ذلك كلَّه وارداً على أجل مناسبة، وعلمت أن كل آية من هذه الثلاث لا يناسبها إلا ما أعقب به."[3]

[1] مفاتيح الغيب، 11/319.

[2] رواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عبّاس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "‌أحِبُّوا ‌اللهِ ‌لِمَا يَعْذُوكُم به من نِعَمِه، وأحِبُّوني لحُبِّ الله، وأحِبُّوا أهلَ بيتي لحُبِّي". قال هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه. ج:5 ص: 670، ح: 4767، والترمذي في أبواب المناقب ،باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، رقم:3789 من حديث ابن عباس أيضا بلفظ: "أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي" وقال هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه.

[3]  ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، 2/294-295

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق