معالم الاهتداء في معنى تنوع القراءة وتكامل أوجه الأداء

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربي وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد
معالم الاهتداء في معنى تنوع القراءة وتكامل أوجه الأداء
وقول الله جل جلاله (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء/81]
فالأداء القرآني لا يتحقق إلا في رواياته المشهورة التي نزل عليها في أحرفه السبعة، والتي هي طرائق محكمة في العرض والتأدية وأوجه متظاهرة في التبيلغ والاستظهار يعتريها المتواتر والمشهور والصحيح والشاذ وما إليه؛ وذلك لتعلق الأمر فيها باللفظ والنطق بدءا ثم بالتركيب والنظم منتهى، إذ برعاية ذلك المنحى وقَفْوه ملَك كلُّ عربي (شيخ فانٍ، عجوز كبيرة، غلام، جارية ...) أمر حاله في تنزيل أحرف القرآن وكلمه وَفْق لحنه الجبلّي وعلى نهج ما استُرضع من لبان قومه وعشيرته، تنزيلا يتخذ من الملاءمة بين جرْس الحرف وبين طبيعة المعنى والصوت الذي يتأدّى به؛ مطيّة نظمية بيانية تنهض على اعتلاء تصاريف الأبنية اللفظية واحتمال تقلبات الهيآت اللغوية الأفصحية، بالقدر الذي يشبع الحاجة الفطرية الأدائية حتى يستوي سِدادا أجْدى وأنفع لكل ثغر أو صقع ... فكل من يقرأ بقراءة معتبرة فإنه يجري عليه أنه يتلو القرآن وَفق مذهب إمام معين في نظام الأداء ذي ملامح لهجية مستوفاة لسمت القرشية التي يستحسنها كل قبيل عربي من إمالة أو إدغام أو تخفيف همز أو ما شابه، فهو كلام الله ووحيه تأدّى إلينا وتُلقي بأداء نبوي أمين صلوت ربنا وسلامه عليه وعلى آله، قال أبو شامة (ت 665 ه): [واعلم أن القراءات الصحيحة المعتبرة المجمع عليها؛ قد انتهت إلى السبعة القراء ...، واشتهر نقلها عنهم لتصديهم لذلك وإجماع الناس عليهم، فاشتهروا بها كما اشتهر في كل علم من الحديث والفقه والعربية أئمة اقتدي بهم وعُوّل فيه عليهم، ونحن فإن قلنا: إن القراءات إليهم نسبت وعنهم نقلت، فلسنا ممن يقول: إن جميع ما روي عنهم يكون بهذه الصفة، بل قد روي عنهم ما يطلق عليه أنه ضعيف وشاذ ... فلهذا ترى كتب المصنفين في القراءات السبع مختلفة في ذلك، ففي بعضها ذكر ما سقط في غيرها، والصحيح بالاعتبار الذي ذكرناه موجود في جميعها إن شاء الله تعالى، فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة، وأنها هكذا أنزلت، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء؛ فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه]. [المحرر الوجيز 90 - 91] إذ إن كلام الله تعالى واحد بالذات لا يتعدد، وإنما شرف الله القرآن على سائر الكتب المنزلة بكثرة الأحكام واتساع اللغات، [الجعبري 1/60، السبب الموجب لاختلاف القراء ص 143]، ففي الاختلاف توسعة ويسـر ورحمة على الخلق، خاصة في الفروع والفتاوى والأقضية، لأن القراءات وأوجه الأداء قد ثبت الدليل والبرهان على توقيفيتها واتباع ما اشتملت عليه من المعاني (علما وعملا)، فلا يحلُّ ترك موجب إحداها لأجل الأخرى ظنا أن مثل ذلك تعارض أو تضاد أو ما أشبه [النشر 1/51]،قال العلامة مكي (ت 437 ه) في الإبانة: [إن هذه القراءات كلها التي يقرأ الناس بها اليوم وصحت روايتها عن الأئمة؛ إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان رضي الله، الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه واطّرح ما سواه مما يخالف خطه] [ص 32، تح عبد الفتاح شلبي]، فيبقى النص القرآني وحيا منزلا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ثابتا على وجه التواتر ثبوتا باتا قاطعا من تطرق الريبة أو الشك أو ما شابه، فتلك أوضاع تنزل الوحي وطرائق تلقّفه وأدائه يَتَذرَّعَ بمَثابتها المتعبد المتشـرِّع في تقْريب مُراد الله سبحانه وتلقُّف أوضاعه وأنساقه، ثم يُتوسَّل بأسبابها في جِلاء روْنق المعاني المتراكمة المركوزة في تصاريف الأبنية، والمُدرَجة بين تقلبات الصيغ الإعرابية، والتركيبات البيانية المتصلة بالكتاب العزيز في لحنه ووضعه ونظمه وما إليه، وما أريد لذلك من الترسُّل في عرض خاصّ المعلوم (أوجه القرآن ولحونه) وتنويع موادِّه ورافده، ابتغاء توصيل الرحمة للعالمين واستجلاب التَّوسعة على السَّائرين المتعبّدين، اعتماداً أو استيثاقاً بما أَوْدع ربنا جل وعلا في كيان المتعبد من مُمْهدات الإدراك الصـريح وأَلهمه من مُمْسكات الاستنباط القريح، وعليه؛ فلقد أدرك نظَّار الأمَّة وعلماؤها حقيقة الاختلاف في الشَّـرعيات - الراجع إلى تقلبات المباني الأدائية والأحوال اللهجية المروية للحرف القرآني، مما يندرج في حيز الأحرف السبعة ويأْرِزُ إلى وَريف ظلّه - وَعَيَّنوا مَخْرَجَه وبيّنوا مَدَاه وما إلى ذلك، ثُمَّ مَيَّزوا دلائل الصُّور الفقهية النازلة والمفروضة المتشعبة عن أحوال اللفظ القرائي ودوران مادته، وحَدُّوا ما يقبل الحدَّ منها، كما حَصَـرُوا ما يَدْخله الحَصْـرُ منها إلى غير ذلك، ثم تركيب الأوجه الشـرعيَّة على جهة الأَولوية الحُكمية والتصدير، وتعيين الأحق - منها - بالتقديم في رعْي المصلحة، وتَثْبيت قَصْد الشَّارع الحكيم ومراده بشـرائطه وما إليه، فتمايزتْ لأجل ذلك منازل هؤلاء النظار في الرواية والدراية، وتباينت خِلالهم في الرعاية والصيانة وغيرها من دلائل السلامة في الديانة وشِيَات متانة الأمانة، فانتصب ذلك تَرْجُمان استئثار كل قطر بأفراد من القرأة دون آخرين، غير غامزين لأعيانهم أو مطَّرحين، وإنما هزَّهم لهذا الصَّنَع في التَّخَيُّر وأَزَّهُمْ إلى الاِجتزاء بآحاد مُمَيَّزين مُبرِّزين؛ حمْلُ المتلوِّ المقروء المُنزل على أحسن الأحوال وأصدق الهيئات (سندا، رسما، لغة)، وتوخِّي سبيل أُولى العَزْم والبقيَّة من النَّقلة الوُعاة، والضبّاط السَّدنة ذوي المَعْدلة ونَهَجَة الجَدَد الأوس، فلم يُشْعِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه التوسعة التي تنزَّلت من عند الله، أو حَمَلهم على استيعاب أوجه التلاوة أو ما شابه، لولا وقوع الاختلاف والاِنْبراء لحسْم مادّته، فترافع المختلفون من الصحب الكرام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام بينهم بما يلزم وأَوْحى لكل منهم أن يتلوَ بما سمع وعلى الوجه الذي لَقِن فقال: (اقرأْ؛ فقرأَ، فقال له: أصبْت) [مسائل القيجاطي (مسألة ... الفرق بين القرآن والقراءات)]، فاستفراغ الوسع وبذل آخر اللبوس في اكتناه مراد الله تعالى من تحصيلات ألفاظ القرآن ودلائل أوعية وحيه وتنزيله؛ مع لحظ الأُثْرة الرّجعية على المتعبد المؤتسـي ودرْك رجْع غَيثه؛ لَمِمّا يشْحذ الأذهان ويُرهف الفِكَر، ويزيد المكلّف تصديقا ورسوخا في تطلُّب أحكام الحلال والحرام والمشتبه بينهما وما إليه والتمثّلِ بها، مع ما يُذْكي فيه كلُّ ذلك من مُكْنة النقد الصحيح، ويُرْبي فيه من ناشئة عَزْم التدبير ورعْي مآل الأحوال في الحمْل والتقدير، قال الله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غي را لله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء/81]، فقراءة الجمهور بالياء بعد تاء على الأصل، وقرأها ابن محيصن بإدغام التاء في الدال، قال أبو حيان (ت 745 ه): (هذا استفهام معناه الإنكار) [البحر المحيط] .والتدبر التأمل والتفكر في أدبار الأمور وعواقبها ومآلاتها، والمراد هنا تأمّل الدلالة أي تدبر دلالة تفاصيل آياته على مقاصده وتأمل دلالة جملة القرآن ببلاغته ... [التحرير والتنوير] فهو تنزيل رب العالمين على قلب نبينا محمد صلوات ربنا وسلامه عليه، متسقة أوجه إعرابه، مؤتلفة أحكامه، فصيحة ألفاظه، بليغة معانيه، مؤيّدٌ بعضه بعضا بالتصديق، ويشهد بعضه على بعض بالتحقيق، قال سبحانه: (ولو كان من عند غي را لله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) قال الآلوسي (ت 1270 ه): (فلما تجاوب كلُّه بلاغةً معجزة فائقة لقوى البلغاء، وتناصر صحة معان وصدق أخبار؛ علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه سواه) [روح المعاني] فأما الاختلاف في القراءات واختلاف مقادير الآيات والسور واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ؛ فكل صواب وكل حق، وليس ذلك اختلافا يؤدي إلى فساد وتناقض بل هو اختلاف يوافق بعضه بعضا في الحسن [البسيط للواحدي].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم