وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

مساجد حاضرة أصيلا -الحلقة الأولى- : الجامع الأعظم

الدكتور مصطفى مختار

باحث في مركز علم وعمران

 

أثثت مساجدُ أصيلا المجالَ الاجتماعي والعلمي بالمدينة، خلال مسيرها. دلّت على ذلك كثرتها إبان الهجوم البرتغالي [1]. وظلت تنظم مجال أصيلا، بحسب أخبارها [2]، وبحسب كناش أحباسها [3]، وبحسب ما سنعرضه من حلقات.

- الحلقة الأولى : الجامع الأعظم- 1-

 اخْتُلِفَ حول موضع الجامع الأعظم (جامع القصبة، الجامع الكبير)، بحاضرة أصيلا. حيث ذهبت روايات شفهية، دون سند أركيولوجي، إلى أنه كان بالقيسارية القديمة   قريبا من ضريح سيدي بنعيسى [4]. في حين تشير دراسات إلى أن موضعه القديم هو موقعه الحالي، مجاورا لباب القصبة [5].

  وجعله أحد الباحثين قسمين، من حيث هندسة البناء، شاملين لما يزيد عن 600 متر مربع [6]. ابتدأ القسم الأول منذ الإدارسة. حيث قدم الأمير القاسم بن إدريس الثاني على أصيلة "وبنى مسجدها على ضفة البحر وسوّرها وبنى قصرها" [7].

  ولما دخل محمد بن قاسم طُمْلس، وزير المستنصر الأموي، مسجد أصيلة عام 361 هـ. وجد "فيه منبرا جديدا موسوما باسم معدّ بن إسماعيل"، إمام الشيعة، "فأمر باقتلاعه وإضرامه النار، بعدما اعتنى بخلع القطعة التي نقش عليها اسم المعز لدين الله وبعثها إلى خليفة قرطبة" [8].

  ونقل إلينا مؤرخ برتغالي أن المسجد الأعظم كان، خلال اكتساحهم، شاسعا مشتملا على تسعة أجنحة. وله صومعة يصعد إليها عبر درج ضيقة [9]. يبدو أنها الصومعة التاريخية مربعة القاعدة والبدن، القريبة من السور [10].

  ويظهر أن هذا التصميم قد خضع لتغييرات، خلال مسيره. حيث تحول إلى معالم برتغالية خلال احتلالهم [11]. ثم أُصْلح في عهد المولى إسماعيل العلوي [12]، وعهد سيدي محمد الثالث [13]، وعهد المولى سليمان العلوي [14].

  وقد تحدث مصطفى المهماه عن عمارة هذا القسم الأول من الجامع الأعظم بقوله: "كان تشييده بالحجارة والتراب في عهد الدولة الإدريسية". وسُقّف سطحه، في فترة لم يحددها، "بالقرميد الأحمر على شكل قبب مثلثة طويلة على طول جدار قبلة الجامع من شماله إلى جنوبه، وسُقف من الداخل بصفائح رقيقة من الخشب القوي دون تزيين مدعمة بأعمدة عمودية من الخشب تلتقي مع عمود طويل من الخشب المتين في نهاية السقف. يمتد أفقيا من الجنوب إلى شمال الجامع، وأعمدة خشبية أخرى عمودية ممتدة على طول جدار قبلة الجامع من الشمال إلى الجنوب لثلاث أروقة أو بلاطات الصلاة موازية للقبلة ترفعها أعمدة حجرية بأقواس دائرية على النمط العربي المغربي، والمسافة الفاصلة بين عمود وآخر ثلاثة أمتار إلى أربعة في اتجاه عمودي، بخطوط قصيرة مستقيمة مستخرجة منها مموجة عند النصف". وبجدار القبلة "يوجد المحراب المجوف من الداخل"، ومقوس "المدخل إلى النصف بدون زخرفة". وفي الجهة اليسرى "غرفة حفظ منبر الخطبة، وفي الجهة اليمنى مقصورة الإمام، وخلف جدار القبلة في الجهة الشرقية وراء المحراب الحالي توجد الصومعة القديمة التاريخية"، مربعة "القاعدة والبدن على النمط العربي المشيدة بالحجارة والتراب". وهي قصيرة تناسب، إلى حد ما، علو مساكن المدينة سابقا [15]. ويبدو أنه كانت بالصومعة القديمة قمريات (نوافذ صغيرة) لدخول الهواء والضوء، وغرفة استراحة المؤذن، وثانية لرفع الأذان [16].

  وأما القسم الثاني من الجامع الأعظم، الممتد من شماله الغربي إلى جنوبه، فقد شُيّد جزء منه خلال الفترة الحمائية. حيث تمّ توسيع الجامع، وبناء مراحيضه، وتشييد مئذنة جديدة عشارية الأبعاد، بحسب عبد الرحيم الجباري، أو مثمنة الأضلاع في القاعدة والبدن على الطراز الأندلسي، بحسب مصطفى المهماه. وكُلف المقاول أخريف التطواني بالبناء، بإشراف ناظر الأحباس وأبي المواريث، سيدي محمد بن الصديق الغماري الأصيلي، مقدم الزاوية القادرية، بأصيلا [17]، ودفينها [18]. وسبق له أن كان مقدما على ضريح سيدي أحمد الزواق، بشاطئ أصيلة [19].

  وقد بُني هذا الجزء من القسم الثاني بالحجارة والجير والإسمنت. وسُقّف سطحه بالإسمنت المسلح. "مستوى السطح به قبة متوسطة الحجم، مربعة الشكل الهندسي  سطحها بالإسمنت المسلح والحديد"، بها اثنتا عشرة "نافذة متوسطة بإطارات وأبواب خشبية بزجاج أبيض شفاف لدخول الضوء والهواء والشمس عند فتحها وإقفالها من داخل الجامع لمنع تسرب الغبار. وتوجد في هذا الجزء، بالجهة الجنوبية الغربية، صومعة ثانية، أعلى من الأولى، مبنية بالحجارة والجير، بحسب رواية شفهية. يصعد إليها عبر درج. بها غرفة لاستراحة المؤذن، وثانية لرفع الأذان [20].

  وذكر عبد الرحيم الجباري أن الجامع وُسّع، مرة ثانية، بإضافة أجزاء من سوق. "فأصبح يحتوي على خمسة صفوف من الأعمدة ذات الطباع المغربي، وكل صف يتكون من ثلاث عشرة سارية، تبعد كل سارية عن الأخرى بثلاثة أمتار ونصف في اتجاه عمودي. ثم نقلت دار الوضوء إلى سوق السمك الذي يقابل المسجد" [21].

  في حين يقول مصطفى المهماه إن "للجامع الأعظم من جهتيه الجنوبية والغربية" اثنتي عشرة "نافذة متوسطة الحجم بإطارات خشبية متوسطة الطول والعرض دائرية الهندسة عند الرأس بشبابيك حديدية متشابكة الرسوم والهندسة تتخللها فتحات" ضرورية للتهوية والتشميس، ودفف "خشبية بزجاج أبيض شفاف تفتح وتغلق من داخل الجامع منعا لتسرب الغبار". وأما البلاطات أو أروقة الصلاة، فعمودية على طول جدار القبلة، من جدار الجامع الجنوبي إلى جداره الشمالي. وعددها ستة. بين كل بلاط وآخر ما بين 3، 5 م و4 م [22]. وأما أرضية الجامع، فمبلطة بالإسمنت، فوقها أرضية من الخشب. فرشت فوقها بعض الزرابي الصوفية قريبا من جدار القبلة. وفُرِش الجزء الأخير من الجامع بحصر من نبات السمار[23].

  ويتم الدخول إلى هذا الجامع الفسيح عبر بابين رئيسين. عرض كل واحد منهما ما بين 2 م و3 م. وعلوه ما بين 4 م و5 م. نصفاهما الأعلى مقوس "على الطراز العربي المغربي بخطوط قصيرة مستقيمة ومموجة مستخرجة من القوسين". وفوق البابين شماستان "سطحهما من أجور القرميد" أحمر "اللون مموج بخطوط طول" جميلة، مائلة لتسهيل نزول المطر إلى الأرض. والبابان معا من خشب. يتوسط كل واحد منهما بابان صغريان مواربان، بنقارات من حديد [24].

 

يتبع                                    

الإحالات :

[1] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج1، عبد الرحيم الجباري، طنجة، مصلحة الطباعة، 1999 م، ص61، وص70؛ والمرجع نفسه، طنجة، سليكي أخوين، 2013 م، ص61، وص73؛ وج2، مصلحة الطباعة، 2003 م، ص17- 18، وص20، وص59؛ وج4، مصلحة الطباعة، 2009 م، ص31؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، مصطفى المهماه، الرباط، شمس برنت، 2019 م، ص106.

[2] أصيلة الماضي والحاضر، الحاج بنعيسى عبد الكبير العيساوي، الرباط، مطابع ميثاق- المغرب-، د. ت، ص19- 20، وص22، وص26، وص32، وص34، وص36، وص40، وص47، وص59؛ وأصيلا، تاريخ وأعلام، ج1، ص194- 195؛ وط. الثانية، ص181؛ وج3، مصلحة الطباعة، 2007 م، ص43؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص111- 112، وص169.

[3] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج3، ص48- 60.

[4] نفسه، ج2، ص61.

[5] نفسه، ص60؛ وج3، ص43؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص84، وص90، وص96، وص98، وص146، وص150، وص153.

[6] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص96.

[7] إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، ج2، عبد الرحمن ابن زيدان، الدار البيضاء، مطابع "إيديال"، 1990 م، ص72. راجع: أصيلة الماضي والحاضر، ص12؛ وتاريخ العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى، ج1، عثمان إسماعيل، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة/ الهلال العربية، 1992 م، ص285؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص96، وص100.

[8] دولة الأدارسة ملوك فاس وتلمسان وقرطبة، إسماعيل العربي، الجزائر، مطابع ديوان المطبوعات الجامعية، 1983 م، ص185. قابل بـ: أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص102.

[9] حوليات أصيلا، برناردو رودريكَس، تعريب: أحمد بوشرب، الدار البيضاء، دار الثقافة، 2007 م، ص102- 103. راجع: أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص97، وص105.

[10] أصيلة تاريخ وأعلام، ج2، ص60؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص84، وص86 والهامش رقم 189، وص97 والهامش رقم 203، وص99.

[11] أصيلة الماضي والحاضر، ص88؛ وأصيلا، تاريخ وأعلام، ج1، ص61، وص70، وص84، وص205؛ وط. الثانية، ص61، وص73، وص190؛ وج2، ص60؛ وج4، ص31؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص84، وص86، وص99، وص106.

[12] أصيلة الماضي والحاضر، ص88؛ وأصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص60؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص108.

[13] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص108.

[14] الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية، ج2، محمد المشرفي، تحقيق: إدريس بوهليلة، الرباط، دار أبي رقراق، 2005 م، ص65؛ وكتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج8، تحقيق: جعفر الناصري & محمد الناصري، الدار البيضاء، دار الكتاب، 1997 م، ص173؛ والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، ج 10، تحقيق: عبد الوهاب ابن منصور، الرباط، المطبعة الملكية، 1983 م ص115. راجع: تاريخ العمارة الإسلامية، ج5، 1993 م، ص180؛ وأصيلا، تاريخ وأعلام، ج3، ص13؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص108؛ وأصيلة عادات وتقاليد، مصطفى المهماه، الرباط، طوب بريس، 2012 م، ص249.

[15] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص96- 97.

[16] نفسه، ص97.

[17] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص60؛ وج3، ص95- 96، وص105؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص97، وص99، وص109، وص112.

[18] 1353 هـ/ 1934 م أو ما بعده: أصيلا، تاريخ وأعلام، ج3، ص95- 96، وص105.

[19] نفسه، ص105.

[20] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص97، وص98.

[21] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص61. راجع: أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص97، وص98.

[22] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص98.

[23] نفسه، ص99

[24] نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق