قِيم قبل أحداث، قراءة موجزة في كتاب « مُقامي بأسا »

قِيم قبل أحداث، قراءة موجزة في كتاب « مُقامي بأسا » لهنري بيير بيران
مع فهرس تقريبي لأهم موضوعات المصنف
وديع أكونين باحث بمركز علم وعمران
مقدمة:
أحرزَت الترجمة الجمالية التي أعدها هيبتن الحيرش لكتاب « مُقامي بأسا » مع عنوان فرعي: محكي حي[1]، تميزا مضمونيا وتعبيريا كبيرا، وإن كان الفضل لمارسيل جوليون في تحرير الكتاب، فإن هيبتن قد وضع للنص ترجمة تليق بمَقام أسا، وهو ابنها الذي عرف كثيرا من شخصيات الكتاب وطبائع البلاد، كما اشتغل قبلُ على نصوص أخرى حول أسا، أهمها كتاب « أسا ديوان الصالحين»[2]، وهو ما يجعل القارئ في اطمئنان إلى مصداقية الترجمة، بل يدفع إلى الارتياح للأحكام التي يلتقطها القارئ من هذه المذكرات.. تدرك حقا، حين تباشر القراءة أنك تقرأ كتابا، لا ترجمةَ كتاب.
لا تُغني القراءةُ في الكتاب عن قراءةِ الكتاب، بيد أن الأولى تحيي الثانية مثلما كانت الثانية سببا في وجود الأولى، وكأن فضل الكتاب على قُرائه كفضل الشمس على القمر، ما أضاء إلا من قبسها، وكما أن هذه العجالة محاولة لإبراز جوانب الاحتفاء بالقيم في الكتاب، فهي لا تغني عن جوانب أخرى يحتفي بها الكتاب تبرز لكل قارئ حسب منطلق قراءته.
« مقامي بأسا »، عنوان مُذكرات هنري بيير بيران الملازم الفرنسي الذي قضى فترة من الزمان في أسا، فشهد رجوع السلطان محمد الخامس من المنفى، وما قبل ذلك وما بعده، قدِم إليها بمهمة مدنية عسكرية، وعاشها بكل تجاذباتها المتنوعة، ليفارقها، بعد أن أحبها، على مضض..
سنة وزيادة، واكب فيها بيير أحوال أهل أسا وأمزجتهم، تماما كما كان يواكب عمله الرسمي الذي يؤديه أو يزيد، وكأن مذكراته عن مُقامه في أسا محاولة للإفصاح عن سعة تجربة إنسانية تجاوزت ضيقَ المهمة الرسمية: « هنا، قلت لنفسي، يعيش أناس وأنا الآن ألتحق بهم. قريبا ستصبح هذه الأحجار أحجاري، هذه الجبال جبالي، هذه الشمس شمسي، وهذه الحياة حياتي »[3].
مقامي بأسا، التاريخ والأحداث
يفتح المغرب حضنه للضابط بيير في أكتوبر من عام 1955م، فيتم تعيينه بأسا ملازما يعمل إلى جنب القائدين الخرشي وبوزيد، وهما الشخصيتان البارزتان في المتن، ومشرفا كذلك على كتيبة تعمل تحت إمرته يعرفون بـ: Méharistes(أهل الجِمال)،وامتد مُقامه هناك في فترة متميزة أمكن من خلالها رصدُ أحداث تاريخية واجتماعية بارزة: أحوال أسا وكلميم بعد عودة السلطان من المنفى، أخبار عن القياد؛ دحمان، الخرشي، وبوزيد، جيش التحرير وواقعة أم العشار، أخبار متفرقة عن أحداث وطنية وجنوبية، المراسلات الإدارية، تدبير شؤون المواطنين من طرف القياد والعمال والضباط الفرنسيين..
اجتماعيا، يسجل بيير أخبارا عن يوم النحر في موسم أسا وما يصحَبه من عوائد، أبرزُها نصبُ خيمة لفض الخصومات أشبَه ما تكون بمحكمة سنوية، موسم أسرير وأجواء الاستعراض، علاقات اجتماعية متنوعة، جلسات شاي ومُسامرات، حالات اجتماعية شاذة، رحلات صيد، المرأة، اللباس الصحراوي، رقصة الكدرة، الجَمل ذلك الحيوان المضحك حسب تعبيره.
قيم أصيلة وصفات عزيزة
إلى حد بعيد، أَعُدُّ كتاب « مقامي بأسا »، سردا يحكي تجربة قيمية وأنتروبولوجية بالدرجة الأولى، بما أن صاحبه محكوم بهاجس الارتباط مع أسا، مع سكان أسا، يحاول اكتشاف طبائعهم، ومنظومة القيم التي توجههم، يتشوف إلى تمييز المكارم الأصيلة من الأمزجة الطارئة، يعترف أحيانا أنه لم يوفق في ذلك كل التوفيق:« معرفة الجمل بمثابة تعويض لي عن جهلي الكبير بطبائع الناس»[4]، وأحيانا كثيرة يختال في بلاغة التشبيه ليصور أخلاق أفراد عرفهم معاشرةً، أو تعرف إليهم توا: « خامرني الشك إزاء لطفه الزائد لأني أعرف طبعه الصريح الذي يشبه طبع الحية»[5]، « علِي فتى في السادسة عشرة من عمره تقريبا، نحيف كمسمار، له جبين مفكر وشعر جذاب. كان شديد الخوف من الجِمال، يكاد لا يعرف شيئا عن حياة البدو. يحب مهنته التي كانت في بدايتها.. هاهو أمام مكتبي ومحياه الطفولي يعكس قلقا عميقا »[6].
وبما أن هنري بيير مهتبل جدا بالاقتراب من كل سكان أسا، فقد انعكس هذا الاهتبال في مذكراته بما جعله يحاول وصف كل شخصية يقف عندها على مستويين:
وصف خارجي يتعلق بالمظهر وقسمات الوجه واللباس، ثم وصف داخلي يحاول عبرَه اكتشاف أخلاق الآخر ومدى قابلية التفاهم معه، بل تتجاوز هذه المحاورة الوصفية الإنسان لتحاور الحيوان (الجمل)، والمكان: « فاصك الخضراء، تاغجيجت الرملية، تاركمايت البائسة»، وهو ما يؤكد طبيعة هذا النص الجميل.
يزخر الكتاب برصد وجوه أسا، فيتشوف كاتبه بعد رصدها إلى أن تنجلي له وراء تلك الملامح صفة أو قيمة خلقية، فلا يكاد يكتشفها حتى يعلنها كأنما ظفر بورقة رابحة في ميدان أسا، إنها مراهنة على كسب الثقة، أو لمَ لا استجابة لداعي التعلق بكل أسا: « والصداقة في هذا البلد هي القاعدة »[7]، يقول أيضا: « عند وصولنا برز لنا بدوي على قدر من الرشاقة، تظهر على وجهه الخشن علامات الاعتدال. على رأسه عمامة سوداء (اللون الذي يحبه الركيبات)، يلبس دراعة جديدة.. ابراهيم حاذق في عمله، إلا أن نظراته تتسم بنوع من البرود»[8]، « يرأس القبيلة الشيخ محمد ولد أحمد، ابن الشيخ السابق. بدوي في ريعان الشباب قصير، ذو وجه تظهر عليه سيما الذكاء والحيوية »[9].
تشبيهات طريفة
لا يكف بيير طول مذكراته عن استدعاء تشبيهات مرِحة لشخصيات أسا، تبدو في مخياله كأنها وجوه في حاجة إلى قَسَمَةٍ لا يكتمل إلا بها، فيصف طلعةَ المساعد أول قائلا: « لاح لنا شخص غريب الأطوار، تُذكر رؤيته بشخصية بينوكيو في رسوم والت ديزني، يضاف إلى هذا لحية مضحكة وقبعة تغطي الرأس كله وتصل إلى الأذنين، آه، هذا هو المساعد أول الذي يتولى قيادة كتيبتك»[10]. يقول وهو يصف المخزني المكلف بالبريد الإداري: « الرقاس رجل عجيب من أهل القصر، قصير، ذو ساقين مقوستين، يخطو وهو يدير كتفيه مثل بحار مسن »[11]، ويصور خروج برتراند من عنده قائلا: « خرج يحرك كتفيه مثل سفاح في فيلم سنيمائي»[12].
أما في محكمة أسا فيصف المتخاصمَين قائلا: « أدخل المخازنية أول المتنازعين: أحدهما ركيبي، نحيل وذو طبع حاد، والآخر أيتوسي، كبير في السن وملتح، تذكر هيئته بالحواريين»[13]، بينما يبدو البستاني في مظهر آخر: « تنهدت وأنا أرى وجه بستاني المركز، محمد أُو الطاهر قصير وسمين، ذو وجه مستدير بسيط مثل شاة وهادئ كأنه خادم كنيسة».
أما مبارك أُوهمون فإنه « لا يفكر في شيء، هيئته المضحكة تجعله يبدو كمن يركب حيوانا من عصور ما قبل التاريخ »[14].
الحياة في أسا، مفارقات ثاوية
لقد حاولت مذكرات بيير أن تحيط خبرا بطبيعة البدوي، لكن الأمر لم يكن بالبساطة التي تبدت خلال الصور الفنية والتشبيهات اللغوية، أو حتى من خلال المواقف التي سجلها بيير، إنها أكثر من ذلك وأبعد.. لقد استطاع هؤلاء أن ينتزعوا اعتراف بيير واندهاشه بوجود بُعد قيمي عصي على الاحتواء الضيق، بدءا بالقائد الخرشي: « لا أدري لماذا قررت فجأة أن أتخذ من القائد الخرشي صديقا..»[15]، ثم ماء العينين: « قال لي ذات مساء، ونحن نحتسي الشاي عند النفاع، كلاما لم أسمع أصدق منه بأسا: - تعرف، أيها الملازم، ما كرهت ولا أحببت أحدا قط أ كثر من الضباط الفرنسيين»[16]، ثم النفاع: « اندهشت. لا أفهم كيف أن هذا الرجل الحر العزيز النفس الذي يجوب السهل والوعر، هذا الصياد الشرس، يقبل أن يصبح طوع بنان شخص يعجز عن ركوب جمل واستعمال بندقية بشكل سليم »[17]، ثم يُظهر إعجابا بالبساطة البدوية: « لشد ما كانت تُبهرني رؤية هؤلاء البدو وهم يحيون حياتهم البسيطة الهنية بعيدا عن هموم العالم المعاصر المادية، قريبا من الطبيعة. تثيرهم رؤية نجمة ولا يبالون بمرور طائرة »[18].
من الواضح أن الوضعية الانتقالية التي كانت البلاد تمر منها إذاك قد ساهمت في عدم اتخاذ مواقف ثابتة وحاسمة من كل الأطراف، ما أبرز في المتن السردي ترددات بين جَمال البداوة وبدائيتها، بين المصلحة الخاصة والصالح العام، بين أغراض السياسة ووحدة الوطن: « لم تعد الكتيبة تجسد القوة والعدل ببلاد أسا... الثقة أضحت مفقودة، لذلك ترى البدو يبحثون عن أسباب الأمان في الروابط التقليدية »[19]، « وإذ يعلمون أني لا أصارع من أجل راية أو بلد بل من أجل حمايتهم من جشع بوزيد وعسفه، احتاروا بين أن يَتَمنَّوا هزيمتي باسم المغرب المستقل أو انتصاري باسم مصلحتهم الشخصية...»[20]، وأيضا بين بيير نفسه، ذاك الملازم الفرنسي، وبيير الإنسان المحبوب لدى سكان أسا: « نحن نحبك بالرغم من السياسة لأنك صديق الجميع»[21].
خاتمة وداع
لم يعلم هنري بيير بيران يومَ ودع أسا، أن وداعه سيصير في المستقبل رسالة تحكيها مذكراته، لأجيال في الصحراء تعيش على وقعِ جديدٍ يستعمِر القديم، قيم راسخة في أعماق نفوس الصحراويين رسوخَ الجبال المحيطة ببلدة أسا، وأخرى تهب على جيل شبابي تذكر بهبوب ذلك النسيم الذي شغف به بيران مُقامَه في ديوان الصالحين.
لم يدرك صاحب الـمَحكي أيضا، أن القيم الثاوية في نفوس السكان والتي حرص على وصف تجلياتها في كتابه كلما سنحت له فرصة، أخذت في الضمور بعد الظهور، وفي التقشف بعد التكشف، ولولا بقايا ذلك الخزان القيمي الذي يلوح كالبرق لأنكر هذا الجيل أنه كانت في أسا ذات يوم طينة يصفهم بيران بقوله: « هؤلاء ضرب من الناس إمعانُ النظر في إبلهم الكئيبة أحب إليهم من النظر إلى الزخارف الذهبية لقبعتي العسكرية الجديدة، إنهم واقعيون وحالمون في الوقت ذاته، وفوق هذا وذاك مؤمنون بالقدر خيره وشره، مع أمثال هؤلاء يبدو التفاهم ممكنا »[22].
فهرس تقريبي لأهم موضوعات الكتاب
الموضوعات |
الصحيفة |
الموضوعات |
الصحيفة |
قدوم بيران إلى المغرب |
13 |
في تركز من جديد |
140 |
صورة عن كلميم |
17 |
بوشعيب الغاضب |
147 |
نحو أسا |
21 |
القائد دحمان ومراسيم تعيين بوزيد |
154 |
بين يدي أسا |
25 |
بين الخرشي ودحمان |
160 |
شخصيات تظهر.. أُول، الشاوش، الخرشي، بوشعيب، بوزيد |
28 |
مع الصحراوي في تاكموموت، حياة بدوية هنيئة |
165 |
الاستعراض |
34 |
رسائل البريد |
168 |
موسم أسا |
40 |
رقصة الكدرة |
171 |
النحر |
46 |
أموال الجمال |
172 |
محكمة أسا |
47 |
عند الرائد في كلميم |
181 |
شاي وعشاء مع "المخازنية" |
55 |
بوشعيب |
192 |
تداعيات سياسية |
65 |
العلم المغربي والفرنسي |
202 |
رحلة على الجمل إلى تالعينين |
72 |
موت بوشعيب |
210 |
مع القائد بوزيد |
82 |
هجمة جيش التحرير على موقع أم العشار |
212 |
مع الرائد في كلميم |
86 |
رحلة إلى موسم أسرير |
216 |
المذياع |
94 |
حوار مع بدويين |
226 |
الحاج الحسين شيخ قصر أسا |
95 |
الاستعراض |
231 |
عوينة تركز ورحلة صيد |
100 |
صندوق الخراطيش |
238 |
إلى بئر وين تيكمار |
112 |
عراك مع بوزيد |
241 |
أجواء قلقة |
118 |
اللقاء بالخرشي في تركز |
248 |
نفق بين أسا وتايدالت |
121 |
نوايا جيش التحرير بالجنوب |
250 |
عاد السلطان |
123 |
بوزكارن؛ اختطاف مورو |
258 |
السابع من يناير 1956 |
130 |
إلى اللقاء يا أسا |
261 |
بوزيد هو قائد أسا |
132 |
[1]صدر الكتاب عن مركز الدراسات والأبحاث مشاريع، سنة 2017، ترجمة هيبتن الحيرش مراجعة حمادي هباد ويقع في 271 صفحة، وعنوانه الأصلي Henri-pierre Perrin L'Aventure marocaine: (Récit vécu) ، صدر سنة 1979 في خمسة عشر فصلا منها تسعة فصول تهم أسا، وهي التي ترجمت، كما ذكر المترجم في مقدمة الكتاب.
[2]صدر عن مركز الدراسات الصحراوية 2014 .
[3]هنري بيير، مقامي بأسا ص: 23
[4]المرجع نفسه، ص: 110
[5]ص: 167
[6] ص: 69
[7] ص: 162
[8] ص:19
[9]ص: 100
[10]ص:28
[11]ص:63
[12]ص: 59
[13]ص: 48
[14]ص: 102
[17]ص: 188
[18]ص: 166
[19]ص: 118
[20]ص: 192
[21]ص: 195
[22] ص: 41