
من القضايا المحورية التي ترتبط بالمصطلح الصوفي أنه ليس مصطلحا نمطيا ولا موحدا من حيث لغته وتعبيراته وملامحه، فهو يختلف ويصطبغ بصبغة الحقل المعرفي الذي يغلب على واضعه أو مستعمله، فصاحب الفلسفة مثلا (مثل ابن عربي) يعبر عن المعاني الصوفية بلغة أقرب للفلسفة، وصاحب النحو واللغة قد يعبر عنها بأسلوب لغوي؛ كما فعل ابن عجيبة في كتابه: "الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الآجرومية"، حيث أفرغ فحوى تجربته الصوفية في قالب الاصطلاح النحوي الصرف.
وهذا ما يفسر ظهور مصطلحات فلسفية في التصوف خاصة مع ابن عربي الذي كان على دراية كبيرة بالفلسفة، فوجد أن كثيرا من المصطلحات الفلسفية تحمل بعض الروابط المعنوية مع ما يعيشه من مقامات التجربة الصوفية وأحوالها، فاستعارها كي تكون إشارات ورموزا لها. وهذا الأمر لا يتعلق فقط بمصطلحات الفلسفة، وإنما يشمل الفقه، والنحو، والعروض، والصرف، وغيرها من كثير من مصطلحات الحقول المعرفية التي عرفتها الساحة العلمية والثقافية الإسلامية، بحسب اهتمام كل صوفي؛ فالصوفية يعيشون أسرار هذا الوجود وحقائقه، ومن ثمة كل ما يصادفونه تنعكس عليه فهومهم ومعانيهم، فيظهر لهم فيها وجه الدلالة على المعاني القلبية التي يعيشونها.
ومع هذا، فإننا نؤكد في الوقت نفسه، أنه مهما بدا من متغيرات في المصطلح الصوفي من جهته التعبيرية، فهو يبقى واحدا في جوهره وحقيقته، إذ يعبر عن مضمون واحد مهما تعددت تشكلاته الخارجية، ويشهد لهذا ما تم فحصه من معالم الائتلاف والاختلاف التي أثبتها في الجزء الأول من هذا المقال.
في ظل التنوع الواقع في المتغيرات التي عرفها المصطلح الصوفي في أنماطه واتجاهاته، وما يبدو بينهما من تمايزات في العديد من المعطيات الخارجية، شكلا ومنهجا ومضمونا، نجد أن ثمة ثوابت جامعة بينهما في مختلف تجليات حدودهما التعبيرية، وأكبر تلك الثوابت تجليا؛ وحدة التجربة التي يعيشها الصوفي، إذ تبقى هي نفسها بين جميع الصوفية، فهي على الرغم من كونها تجربة دينامية متغيرة بتغير أحوالها ومقاماتها، إلا أن هذه المتغيرات تبقى هي نفسها في سلوك كل واحد من الصوفية (من التوبة إلى مراحل متقدمة من التجربة، وما يمكن أن يتخللها من أحوال ومقامات).
فالمسار السلوكي يبقى هو نفسه، متأتيا لكل من يريد خوض غماره، كلٌّ على قدر همته ومجاهدته، فهي متغيرات في ظل ثابت التجربة، وإن كان ثمة اختلاف، فمن جهة الأحوال الطارئة، سواء من جهة مقاصد أصحابها من هذه الكتابة أو تلك، أو بخصوص بعض المتعلقات الخارجية التي قد تؤثر في مستوى التعبير وشكله؛ سواء كانت ثقافية وعلمية، أو سياسية، أو غير ذلك.
بالرجوع إلى ما قدمه الصوفية بشأن مصطلحاتهم، نجد مجموعة من الملاحظات التي نعتبرها قرائن تُسنِد طرحنا هذا، فعلى الرغم من اختلافهم في كثير من ملامح كتابتهم الاصطلاحية، إلا أن ذلك كله يتم في سياق ائتلافي عام مشترك يوحد بين كتاباتهم وهي وحدة التجربة، لكن الاختلاف يكمن في الثقافة التعبيرية لكل واحد منهم، وأيضا بالنظر لاتجاهه وموقفه في التعبير والبوح أو الكتم، فبملاحظتنا لطبيعة المفاهيم المُقدَّمة بخصوص هذه المصطلحات، نجد مفارقة بين النموذجين، فأصحاب النموذج أو الاتجاه السلوكي اختاروا أن يقدموها بقدر ما يفهمه المتلقي البسيط، لا بحسب ما يعيشونه في تجاربهم من أبعاد معرفية متقدمة، فهم يرون بكتم الحقائق وعدم إبدائها إلا في حدود ما يسمح به الفهم العام للمسلمين، لذلك لم يفصحوا في مؤلَّفاتهم عن كثير من حقائق التصوف، إلا في حدود ما يمكن لمن هم خارج نطاق التجربة، أو ممن هم على عتباتها، أن يفهموه ويستوعبوه، خلافا لأصحاب الاتجاه الثاني الذين نجدهم أكثر انفتاحا على أبعاد التجربة الصوفية التي عاشوها، بحيث يفصحون عنها، ويعبّرون عن الآفاق الاتصالية التي يحيونها مع الله تعالى في حدود متقدمة من سلوكهم، وما يحصّلونه إثر ذلك من آفاق يحضر فيها بُعد الشهود والمعاينة والمكاشفة، مما قد يحيل على أن أصاحبها من ذوي الاتجاه الصوفي الإشراقي. فكلٌّ عبّر حسب رؤيته التي تَميّز بها عن الآخر في حدود التعبير عن المعاني الكبرى للتجربة الصوفية.
الأمر الذي يجعلنا نقرر أن الظروف الخارجية التي يعيش في خضمها كل صوفي بما فيها التنشئة الثقافية ليس لها من كبير أثر في إنتاج الخطاب والمصطلح، وإن أثرت فلا تؤثر إلا في حدود يسيرة، والذي يؤثر حقيقةً -في معالم تعبير هذا الصوفي أو ذاك- هي الرؤية الصوفية التي تحكمه بأحوالها ومقاصدها.
إن هذه الملامح الائتلافية والاختلافية كلها تجعلنا نؤكد على أن الاختلاف بين مكونات المصطلح الصوفي فيما يقدمه كل واحد من الصوفية بشأن نفس المصطلح، لا يعدو أن يكون اختلاف تنوع ليس إلا، لا يقع إلا في حدود التعبير عن التجربة، وما تتسم به هذه الكتابة أو تلك من خصوصيات تعبيرية، أما هي فتبقى ذاتها على اختلاف أحوالها ومجرياتها في كبريات معالمها.
ولهذه الكتابة مجموعة من الملامح المميِّزة، نُجملها في الخلاصات الآتية:
1: أنها بقدر ما هي كتابة تفكيكية للرموز والمصطلحات الصوفية، هي بدورها كتابة ترميزية تكثيفية دالة على معاني قلبية عميقة.
2: أنها كتابة تقريبية لمفاهيم التصوف وحقائقه.
3: أنها تستند في أصولها على الكتاب والسنة؛ فهي إما تُوافقهما ظاهرا، أو هي من المعاني العميقة التي يحتمِلانها بالقرائن والحجج الإشارية. ومن ثم فهي كتابة أصيلة.
4: أنها كتابة مصطلحية سلوكية معرفية، ويظهر ذلك من خلال مجموعة من الأمور، منها الترتيب المقامي والمعرفي الذي رُتّبت به في معظم المعاجم الصوفية، بخلاف القواعد الترتيبية المُتبعة في المعاجم العامة في حقول معرفية أخرى، فيظهر هذا من خلال محتويات هذه المعاجم ومناهجها ومصادرها.
في ضوء هذه الثوابت التي عرفتها التجربة التعبيرية الصوفية، وكذا في ظل التمايز الحاصل في نماذجها، وما يبدو بينها من تماثلات وتمايزات، نؤكد من خلال السؤال الذي سبق أن طرحناه حول حقيقة هذه الثوابت والمتغيرات التي تضطلع بها الكتابة الاصطلاحية الصوفية، وتبيّن حدود الائتلاف والاختلاف بين مكوناتها، وهل هذا التمايز القائم بينها حقيقة جوهرية فيها؟ أم أنه لا يعدو أن يكون متغيرا في ظل جملة من الثوابت التي تحكم هذه الكتابة مما يشكل مجالا لائتلافها؟ نؤكد، في ظل هذا التساؤل، على أن هذا الاختلاف والتمايز لا يعدو أن يكون اختلافا وتمايزا في المعطيات الخارجية التي عرفتها الكتابة الصوفية بشكل عام ومنها الكتابة الاصطلاحية بشكل خاص، فالتمايز لا يقع إلا في حدود التعبير عن التجربة، أما التجربة فتبقى هي ذاتها بجميع معالمها الإحسانية؛ بداية من التوبة وصولا إلى حدود متقدمة من القرب من الله تعالى الذي هو قرب مكانة ووصف لا قرب مكان.
لقد حاولت أن أقدّم بعض ملامح الكتابة الاصطلاحية الصوفية بشكل عام، وفحص ما تثيره من إشكالات وقضايا جلية أمام التراكم الذي عرفه التراث الصوفي بهذا الشأن، وما وسمه من تلوينات ثقافية وخطابية وسلوكية عديدة تأثر بها المصطلح الصوفي، مما زاد من تعميق النظر الاختلافي الذي طبع هذه الكتابة في بعدها الشكلي الظاهري.
في الأخير، يمكن أن نقرر جملة من المحصّلات التي هي بمثابة ثوابت عن المصطلح الصوفي:
1: إن الصوفي وهو ينتج خطابه، ومنه المصطلح الصوفي ومعانيه، يسعى لتلمس روح المعاني الدينية وإخراج المقاصد الأخلاقية العامة العميقة التي يقوم عليها الدين في صورة عملية وسلوكية معاشة، ومن ثمة فنظرة الصوفي وممارسته للدين هي رؤية متكاملة ومتوسطة؛ بحيث لا تغفل ولا تغلب ولا تغالي في الأخذ بجانب عن آخر (ظاهر باطن، شريعة حقيقة، جزئي كلي...الخ).
2: إن الصوفية لم يأتوا ببدعة حينما اتفقوا فيما بينهم على معاني تلك الألفاظ والتي جعلوها رامزة لما يجمعهم من حقائق علم التصوف ودقائقه؛ فنفس الألفاظ تأخذ دلالات مغايرة في حقول إسلامية أخرى.
3: إن اختلاف الصوفية فيما يقدمونه بشأن المصطلح الواحد ليس اختلافا قائما على التضارب والتعارض، وإنما هو اختلاف تفرضه طبيعة التجربة التي يعيشها كل صوفي على حدة؛ حيث إن الأقوال الواردة بشأن المصطلح الواحد تتكامل من أجل بناء دلالة شمولية له، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تختلف بحسب ما يتغياه كل صوفي من مقاصد من كتابته.
4: إن المصطلح الصوفي واحد في جوهره عند جميع الصوفية، متعدد في تمظهراته وتجلياته، حتى إننا يمكن أن نقول: إنه ابن وقته. ذلك أن الخطاب الصوفي، ومنه المصطلح الصوفي، يتألف من شقين؛ شق لغوي يحمل عناصر الترتيب العقلي لعناصر اللغة وموجوداتها، وشق حالي تؤثثه واردات الأحوال على قلب السالك المتغلغل في غمار التجربة الصوفية. فمن جهة الاعتبار الأول نقول: إن المصطلح الصوفي متغير بحسب تأثره بالظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يخضع لها كل صوفي، أما من جهة الاعتبار الثاني فهو متعال عنها، ومن هذه الجهة فهو ثابت بثبوت التجربة الصوفية بجميع أحوالها ومقاماتها.