
بالنظر إلى التراث الكبير الذي عرفه التأليف الاصطلاحي الصوفي بصفة عامة، باختلاف اتجاهاته، وبما تحصّل إثر ذلك من تراكم لعدد من المفاهيم حول المصطلح الواحد، والاختلاف غير القليل الذي نجده بين الصوفية فيما يقدمونه بخصوص نفس المصطلح، حتى صار البعض من الباحثين يميز في هذا الباب بين عدد من الأنماط الاصطلاحية الصوفية، بحسب البعد التعبيري والمضموني الذي يحكم هذا المصطلح أو ذاك، بين ما هو سلوكي، وما هو عرفاني، وما هو أدبي،..الخ، نحاول أن نطرح السؤال هنا، عن العلاقة الممكنة بين هذه الاتجاهات التي عرفها المصلح الصوفي، وكيف لها أن تتفاعل ضمن الوحدة الخِطابية الصوفية؟
في ظل ذات السؤال، نطرح سؤالا آخر يتساوق معه حول حقيقة هذا التمايز، هل هو تَمايز جوهري يمس حقائق صميمة من الخطاب الصوفي؟ (ومنه المصطلح؟) أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد تلوين في التمظهرات التعبيرية عن فعاليات التجربة الصوفية، بحيث تبقى المضامين هي نفسها؟ وكذا نتساءل عن المعطيات التي أدت إلى هذا التنوع في الأداءات المفهومية التي عرفها المصطلح الصوفي؟ بمعنى ما هي حدود الثابت والمتغير ضمن هذا التراث، وأهم الإشكالات التي تطرحها ظواهره الاصطلاحية، لنخرج ببعض الاستنتاجات حول ما إذا كانت ثمة تباينات وفروقات حقيقية بين الصوفية بشأن مصطلحاتهم، أم أنهم متوافقون بشأنها، ولا يتباينون سوى في عباراتهم، على الرغم من اختلاف الظروف الثقافية والعلمية والاجتماعية والسلوكية... لكل واحد منهم، فنعرف ما إذا كان المصطلح الصوفي متأثرا بتلك العوامل والظروف الإنشائية، أم أنه متعال عنها؟
مَن ينظر إلى التراث الصوفي الاصطلاحي، وما عرفه من كم كبير في منتجاته الاصطلاحية المتمثلة في المعاجم الصوفية التي أُنتجت في سياقه، وينظر إلى علاقة هذه الإسهامات بعضها مع بعض، يواجَه بمجموعة من القضايا التي تحول دون تحقيق الغاية التي أُنجزت من أجلها هذه المعاجم؛ والتي هي تيسير المعاني وتقريبها، فالواحد ما يلبث أن يتصفحها ويقارن بينها حتى يفاجَأ بالعديد من الاختلافات الواقعة بينها، كما أن الكثيرين لا يُسلِّمون بالاختلاف الحاصل بين المعاني الصوفية والدلالات اللغوية والشرعية للألفاظ المستعملة في المصطلح الصوفي، فيَعُدُّون ذلك من قبيل المخالفة والتعارض مع الشرع. وقد يجد المطالع لكتب الصوفية أن هناك ثقافات عديدة متباينة تتراوح بين الفقهية واللغوية والفلسفية والأدبية وغيرها، فيظن أن عملية إنتاج المصطلح الصوفي تحتكم إلى ثقافة كل صوفي؛ ومن ثمة تُكرَّس لديه فكرة وقوع الخلاف بين الصوفية بهذا الخصوص، ما دامت الثقافات مختلفة ومتباينة. فمثل هذه القضايا تحول دون تبيّن حقيقة التقريب المتوخاة من وراء إعداد المعاجم الصوفية؛ الأمر الذي يقتضي توضيحا وبيانا.
أمّا بشأن حقيقة الاختلافات الواقعة بين الصوفية في مصطلحاتهم، فليست من قبيل التضارب والتعارض كما قد يعتقد البعض، فمثل هذه الأحكام تنم عن عدم فهم لخصوصيات المصطلح الصوفي والتجربة الصوفية بشكل عام، فما دام أن طريق التصوف طريقا "سلوكيا" يترقى فيه السالك من مقام إلى مقام آخر أعلى منه، فطبيعي أن نجد تباينا فيما بين الصوفية في تعريفهم لمصطلح بعينه؛ نظرا لاختلاف درجاتهم في السلوك إلى الله تعالى، فقد يختلف قول الواحد منهم في نفس المصطلح حسب ما يعتريه من أحوال ومواجيد، وحسب تدرجه المقامي في السلوك الصوفي، فهو - أي الصوفي - لا يتكلم إلا عن حالته التي هو فيها، وكلما انتقل إلى حالة وجدانية أعمق تغير اصطلاحه وصار أكثر دقة وأكثر عمقا.
عموما، يمكن أن نرُدّ هذه الاختلافات إلى جملة من الأمور:
أولا: أن يكون المصطلح دقيقا ويشترك مع غيره في بعض الجزئيات، فيصعب تحديده من قِبل البعض، فيطلقه بمعنى مصطلح آخر، كما وقع في مصطلح الطريقة؛ حيث نجد البعض يستعمله أحيانا بمعنى قريب من مصطلح الشريعة.
ثانيا: أن يُعرِّف كل صوفي المصطلح وفقا لمقامه فيه، فتأتي الأقوال متباينة لهذا السبب.
ثالثا: أن يُعرِّف كل واحد منهم المصطلح بجانب من جوانبه، وجزئية من جزئياته.
رابعا: أن يطلق أحدهم الجزء ويريد به الكل، كما فعل البعض في مصطلح الطريقة التي أطلقها على مجموع الطريق الصوفي. فيظن أحد أنها مخالفة لمعنى الجزء المتمثل في كونها مرحلة متوسطة بين الشريعة والحقيقة.
خامسا: أن يكون جواب أحد الصوفية بشأن مصطلح ما اقتصاراً على حال السائل، وتبسيطا له للمعنى العميق الذي قد لا يفهمه، فيأتي ذلك المعنى البسيط الوارد عن ذلك الشيخ مخالفا شيئا ما لما هو متداول بين الصوفية في شأن نفس المصطلح.
سادسا: اختلاف وجهة نظر الصوفية حول مسألة التعبير عن حقائقهم؛ إذ ثمة اتجاهان صوفيان بهذا الخصوص؛ اتجاه ذهب فيه أصحابه إلى الإيماء البسيط لمعاني تلك المصطلحات، مما يتناسب والأصول الظاهرة للشريعة الإسلامية، وهذا الاتجاه يمثله صوفية أمثال الإمام الجنيد والإمام القشيري والشيخ الهجويري ومن ذهب مذهبهم، وهؤلاء يرون بضرورة كتم الأسرار وعدم إبدائها إلا لأهلها، ومن ثمة فهم يُعبِّرون عنها بحسب فهوم الناس، وبما يتوافق مع ظاهر الشرع.
وأما الاتجاه الثاني فأصحابه يشيرون إشارات عميقة بخصوص هذه المصطلحات مما ليس بمقدور عامة الناس فهمه، ومن ثمة قبوله. وهذا الاتجاه يمثله صوفية أمثال الإمام ابن عربي والإمام القاشاني ومن سلك مسلكهم.
فالاختلاف القائم بين الاتجاهين، راجع فقط إلى مستويات تعبير كل واحد منهما، إذ الحقائق واحدة، والمعنى واحد، لكن هناك من رأى أن يكتمها ولا يعبر عنها إلا بما يتناسب وفهوم عامة المسلمين، وهناك من أخذ في التعبير عما يختلجه من أنوار تلك الحقائق وأسرارها، وبفعل هذين التوجهين تأتي الأقوال مختلفة بين ما يقدمه أصحاب كل اتجاه بخصوص نفس المصطلح، فيظن الظان أنهم مختلفون ومتعارضون فيما بينهم بشأن معانيهم.
وبهذا نفهم أن الاختلافات الواقعة بين المعاجم الصوفية بصدد تعريف بعض المصطلحات، اختلافات تفرضها طبيعة التجربة التي يعيشها كل صوفي على حدة، وهو ليس من باب التعارض كما سبق. وفي هذا يقول الإمام الغزالي: «هؤلاء أقوالهم تعرب عن أحوالهم؛ فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق، ثم قد يختلف جواب كل واحد في حالتين؛ لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم؛ اشتغالا بما يهمهم عما لا يهمهم، أو يتكلمون بما يرونه لائقا بحال السائل، اقتصارا على ذكر القدر الذي يحتاج إليه، وإعراضا عما لا يحتاج إليه؛ فلا ينبغي أن تظن أن ما ذكرناه طعن عليهم، وأنه لو عُرض عليهم جميعُ المعاني التي شرحناها كانوا ينكرونها. بل لا يظن ذلك بعاقل أصلا»([1]). وقال في موضع آخر: «فهذه أقاويلهم، وإنما اختلفت بسبب اختلاف أحوالهم، فغلب على بعضهم الخوف، وعلى بعضهم الرجاء، وعلى بعضهم الشوق والحب، فتكلم كل واحد على مقتضى حاله، والكل صحيح بالإضافة إلى أحوالهم»([2]).
بالجملة، فاختلاف الصوفية بشأن معان اصطلاحاتهم ترجع للأمور التي ذكرناها، أو لشيء يدخل ضمنها، وأغلب الاختلاف الواقع بينهم، الناتج عن رؤية كل اتجاه من الاتجاهين السابقين وموقفه في الكشف والتعبير عن الحقائق التي يعيشونها، منهم من عبّر عنها، ومنهم من رأى أنها من الأسرار التي يجب المحافظة عليها وعدم إبدائها إلا لأهلها، وهو ما صرح به أبو عبد الرحمن الساحلي (ت754ه) في مقدمة كتابه "بغية السالك في أشرف المسالك" حيث قال: «وأرسم في طريق القوم كتابا يترجم عن كيفية سلوك مقامات الدين. ويسفر عن وجه الأعلام بسبيل الارتقاء إلى حضرة المقربين؛ وأشير فيه إلى بعض أسرار القوم بإيماء وتلويح، مستغنيا في ذلك بالإشارة عن التصريح. وليس ذلك بهتك لأستار أسرارهم، ولا خروج عن دائرة مذاهبهم في الكتم وأطوارهم»([3]). وقال أيضا: «واعلم أني اقتصرت على ما سمحت به العبارة، ولوحتُ عما دق من الأسرار بالإشارات. فحسب اللسان أن لا يجاوز حده ولا يعدو قدره، وحسب الجنان أن يصون أمانته ويكتم سره. والأذواق يعسر تحديدها والتعريف بحقيقتها. والأسرار يصعب الكشف عن كنهها وماهيتها، مع أن مواهب الله تعالى لا تنحصر بزمام، وأسراره لا تظهر إلا بعد صفاء البواطن من كدرات الأوهام [...] وما زَلَّت أقدام كثير من المتكلمين إلا بتقاحمهم على التعبير عن الأسرار المكنونة والكشف عن الأمانة المحفوظة المصونة»([4]). وهذا هو نفس ما ذهب إليه الإمام الغزالي الذي يمثل هو الآخر جانب الاعتدال في التعبير عن التجربة الصوفية حيث قال: «فأما لذة العارفين فلا يدركها غيرهم، وتفصيل ذلك وشرحه حرام مع من ليس أهلا له، ومن كان أهلا له استبصر بنفسه، واستغنى عن أن يشرحه له غيره»([5]).
فهذه هي حقيقة الاختلافات الواقعة بين الصوفية بشأن معاني اصطلاحاتهم.
من جهة أخرى نلاحظ أن هذه المصطلحات تتجاذب فيها المعاني الصوفية بالمعاني اللغوية والشرعية، بحيث نلاحظ حركية كبيرة في معاني الألفاظ والدلالات التي يتشكل منها المصطلح الصوفي من الناحية اللغوية، وهذا راجع إلى الحركية المفهومية التي تتمتع بها اللغة العربية في عمومها، كما أن تطور العلوم يؤدي إلى إغناء المعاجم اللغوية بمفاهيم جديدة. ونجد أن المصطلحات المستعملة في علم التصوف تستعمل بعينها في علوم إسلامية غير التصوف بدلالات تكون أحيانا موافقة للدلالة اللغوية والشرعية جزئيا أو كليا، وأحيانا أخرى تخالفها.
بالنظر لهذه الحركية المفهومية الواقعة بين كل الحقول المعرفية السابقة، ولأن المصطلح الصوفي تأويل للمعاني الخلقية والروحية للتدين، فطبيعي أن يدخل هو الآخر ضمن هذه الحركة المفهومية المتنقلة بين المعاني اللغوية والقرآنية والحديثية والاصطلاحات العامة، فيأتي بدوره أحيانا بمعان تتوافق كليا أو جزئيا مع الدلالات اللغوية والشرعية، وذلك بتعميقها لتلك المعاني باعتبار أنها تأوّل لما في القرآن، والتأول أو التأويل يقتضي استدعاء معاني إضافية للمعنى الأصل المؤوّل.
يتوافق المصطلح الصوفي مع الدلالة اللغوية والشرعية في المصطلحات المرتبطة ببدايات السلوك الصوفي خاصة؛ حيث يشترك فيها الصوفية مع عموم المسلمين، لذلك لا يخالفونهم فيها لكونها مشتركة بين الجميع، ومن أمثلة هذا النوع نذكر مصطلحات مثل: الشريعة، والتوبة، والتقوى، والزهد، والورع، والصبر، والإخلاص،...الخ. وبالنسبة للصنف الثاني الذي يتقاطع جزئيا مع الدلالة اللغوية والشرعية من جهتها الظاهرية مما هي عليه في التداول الإسلامي العام؛ نجد مصطلحات من قبيل: الطريقة، والتوكل، والرضا، والتسليم...الخ، فهذه تحمل معان عامة وتزيد عليها بكثير من المعاني التي يختص بها أهل الإيمان والإحسان. أما بالنسبة للصنف الأخير الذي يختلف كثيرا عما هو متداول به بين عامة المسلمين مما تحيل عليه تلك الألفاظ في أبعادها اللغوية والشرعية في جوانبها الظاهرية، فتلك التي تبدو متغلغلة ومتمكنة في البعد الروحي والمعرفي، وما تحيل عليه من حقائق دينية إحسانية متقدمة يصعب على عامة المسلمين فهمه واستيعابه مما لم يقفوا عند حدوده العملية والحالية مما يقطعه السالكون في علاقة القرب من الله تعالى وتحصيل العبودية الخالصة له عز وجل في حدودها الإحسانية المتقدمة، ومن المصطلحات التي تندرج ضمن هذا القسم نجد مصطلحات من قبيل: الذوق، والفناء، والبقاء، والفرق، والجمع، وجمع الجمع، والحضور، والمحو، والتجلي، والمحاضرة، والمكاشفة، والمشاهدة...الخ، فهذه كلها مصطلحات تحيل على معان عميقة من التجربة السلوكية الإحسانية التي يحياها خاصة المؤمنين مما يصعب على عامتهم فهمه وتذوقه.
خلاصة القول، إنه كلما توغلنا في أعماق التجربة الصوفية إلا وتعمّق المعنى، وصار مما تحيل عليه النصوص الشرعية من باب الإشارة والرمز والإيحاء، لا من باب العبارة الظاهرة. وهذا ما يفسر لنا اختلاف المصطلح الصوفي وتراوحه بين المصطلح البسيط والمصطلحات العميقة التي لا يفهمها سوى أهلها.
الهوامش:
[1]ـ إحياء علو م الدين، 4/118ـ 119.
[2] ـ المصدر نفسه، 4/611.
[3]ـ بغية السالك في أشرف المسالك، 1/115ـ 116.
[4] ـ المصدر نفسه، 1/118ـ 119.
[5] ـ إحياء علوم الدين، 4/221.