مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

في الردِّ على مَن كفَّرَ عوامَّ المسلمين كتاب: “الحُكم بالعدْل والإنصَاف” لأبي سالم العياشي نموذجا

تقديم:

كنتُ قد عرَّفت سابقا - في مقالات متفرقة - ما قام به بعض علمائنا في سبيل بسط مضمون مجموعة من المؤلفات التي أَفردَت النقاش في قضايا التكفير؛ بحثا ومعالجة، انطلاقا من القاعدة المركزية في عدم إخراج أهل القبلة من الإسلام، كما يقول رائد المذهب الأشعري أبو الحسن: «اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة..»[1]، وسأقصر الحديث في هذا المقال على أحد أساطين العلم بالمغرب الذين انْبَرَوا للدفاع عن العقيدة الإسلامية في مواجهة ظاهرة التكفير، استلهاما لمسؤولية العلماء في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه مجتمعاتهم، وصيانة لعقائد الناس وحفظا لدينهم، إنه العالم الجليل (صاحب الرحلة العياشية)؛ أبو سالم العياشي (ت.1090هـ)، من خلال كتابه «الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من أقرَّ بوحدانية الله، وجهل بعض ما له من الأوصاف».

وقد سعى مُؤلِّفه - كما يبدو من عنوانه- إلى دراسة وتحليل قضية عقدية شائكة أدَّت إلى فتنة عظيمة في عصره؛ إنها قضية التشدد في الدين وتكفير الناس بعضهم لبعض دون موجب شرعي تشهد له القرائن وتسنده الحجج، فكان تأليفه هذا محاولة لإرجاع المسألة محل الخلاف إلى أصولها في القرآن والسنة، وحشد الأدلة النقلية والعقلية على سلامة العقيدة الإسلامية وبساطتها، وبالتالي تهافت ادعاءات المتشددين والمكفرين للناس بغير حق.

الكتاب أصدرَته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ سنوات في جزأين من تقديم وتحقيق الأستاذ عبد العظيم صغيري[2]، والذي حقَّقه اعتماداً على ثلاث نسخ مخطوطة، وبلغ من تحليته له إلى القول بأن: «الثَّراء العلمي الوافر الذي يمتاز به... وما فيه من توجيه تربوي هادف، بالإضافة إلى معالجته المنهجية المتميزة لظاهرة التكفير، كل ذلك يدفعُنا لاقتراح تدريسه في مؤسسات التعليم العالي، أو على الأقل اعتمادُه ضمن المراجع التي تجب دراستها على طلبة السلك الثالث وسلك الدكتوراه، تمتينا لمعارفهم العقدية، وتحصينا لهم من المزالق الكثيرة التي تتربص بهم من بعض كتبة العصر ومؤلفيه...» [3].

وقد سجَّل أبو سالم العياشي[4] في كتابه هذا «الحكم بالعدل والإنصاف» أبرز الصراعات الفكرية والعقدية التي عرفها عصره، فقد أحدَثَت دعوة محمد بن عمر بن عبد العزيز بن أبي محلي السجلماسي المتوفى كذلك في سنة (1090هـ) ضجة كبيرة، وأذكى بها نار الفتنة بين العوام بعد دعوته إلى ضرورة التفتيش عن عقائد الناس؛ وذلك بإلزامهم التعرف على الصفات الإلهية ومعانيها ومتعلقاتها، وأن من لم يعرف التوحيد على الوجه الذي ذكره السنوسي، ومن لم يفهم النفي والإثبات من كلمة الإخلاص كافرٌ لا يُضرب له في الإسلام بنصيب.

فلما بلَغ هذا الأمر أبا سالم العياشي استجاب للطلبات المُلحة التي أنهضَتْهُ لكتابة هذا السِّفر النفيس إقامةً للحجة وصيانةً للدين من التحريف وإسكاتاً لصوت الفتنة المنذِرة بتكفير الناس بعضهم بعضا، وهو ما عبَّر عنه بقوله: «من أشد الناس غلوا وإسرافا طائفةٌ من المتكلمين كفَّروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتهم، أو لم يعرف العقائد الشرعية بأدلتها التي حرَّروها؛ فهو كافرٌ...»[5]. وهذا ما دفعني لإفراد الكتاب بالتتبع والدراسة لعرض طريقة المؤلِّف الفريدة في معالجة ظاهرة من أعوص ما عرَفه تاريخ المغرب حول تكفير العوام، ومن ثم اعتُبر كتابه «الحكم بالعدل والإنصاف» موسوعةً متكاملةً في الجدل والحوار وأصول المناظرة، فضلا عن كونه كتاب فقه وحديث وأصول، وكتاب أدب وبيان، ومصدرا مُهما؛ تجمَّعت فيه معارف كثيرة قلَّ أن تجتمع بين دفتي كتاب واحد، وكشفَ من خلال مؤلَّفه عن نفَس تفسيري متميزٍ بأصالته ومطبوعٍ بطابع عالِم مالكيِّ المذهب متضلع فيه اطلاعا ومشاركة وتأليفا..

منهج المؤلِّف في الكتاب: لما بلغ العياشي أمر خلاف الناس فيما وقع بين فقهاء سجلماسة، بادر للرد عليهم، وأولُ ما ابتدأ به الكلام في هذا الكتاب تعريفُه بأصل هذه الفتنة قائلا: «ذلك أن بعض السُّفَّار ممن أطال الإقامة بسجلماسة، وله ماسَّة بالطلب، ورَد علينا مجتازاً فأخبرني أنه وقع بين بعض فضلائها وأماثل علمائها ممن جمع بين العلم والعمل نزاع كبير وخلاف كثير، أدَّى إلى تضليل بعضهم لبعض، بل إلى تكفيره»[6]، ثم بيَّن صنيع ابن أبي محلي ورفقاءه مع عوام الناس وطلبة العلم قائلا أن: «الفقيه الناسك الشاب الناشئ في عبادة الله تعالى.. سيدي محمد بن عمر بن أبي محلي، تصدَّى في هذا البلد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ثم خصَّ تصدِّيه في هذا الوقت بإزالة المنكرات المتعلقات بالعقائد الإيمانية والمعارف الدينية.. ولقَّن ذلك طائفة من أصحابه صغارا وكبارا وأمَرهم بإفشائه وتعليمه في الطرقات والأسواق والأندية، وأمرهم أن يسألوا الناس عن معتقداتهم ويُباحثوهم عما أضمَرت قلوبهم وأكنَّته سرائرُهم في حق الله وفي صفاته وأسمائه وفي حق الرسول صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك، فمن أخبر بما يوافق الذي عندهم تركوه، ومن قال بخلاف ذلك كفَّروه وقالوا بفسخ أنكحته وحرمة ذبيحته...»[7].

وهو ما استجاب له أبو سالم، فانطلق في كتابه يناقش القضايا العقدية المرتبطة بظاهرة التكفير، وقدَّم مقاربة شاملة لهذه الظاهرة، وعالجها بنفس عميق وحكمة وتبصر، عكَس سماحة الإسلام ورحمتَه وتيسيره على الناس ورِفقه بهم، كما قال: «ولعمري إن هذا لخرقٌ يتَّسع على الرَّاقع، وخَطْب حلَّ بالإسلام فاظع، لا يرضاه الله ورسولُه ولا صالِحو عباده، ويُؤدي إلى الفتنة في أرض الله وبلاده... [8]»

وبعد مقدمات حول دواعي تأليف الكتاب وممهدات في بيان حقيقة الإيمان والكفر، والحديث عن التكفير بين أدلة الشرع وأدلة المتكلمين، والتمهيد كذلك لفهم حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والطريقة السليمة لتنزيلها وجريان الأمر بها، وهي فصول ممهدات في غاية النفاسة والإتقان، انطلق أبو سالم العياشي في مطالب هذا الكتاب والتي حدَّدها في أربع:

- الأولى: في حكم الكشف عن عقائد العوام والبحث عنها.

- والثانية: في حكم الجهل ببعض الصفات من غير جحود مع التصديق والانقياد للإسلام.

- والثالثة: في الموقف من الحكم بالكفر على العوام لأنه الغالب.

- والرابعة: في شروط صحة الأحكام الدنيوية وبيانها.

 وهكذا تركَّز كلام «أبي سالم العياشي» في هذه المسألة محل الخلاف وفق منحنيين اثنين:

- المنحنى الأول: في حكم الكشف عن عقائد العوام والبحث عنها.

- ابتدأه أبو سالم بتقرير المسألة والبحث في جذورها، حيث قال: «كأنني بجاهل يتحامل أو عالم يتجاهل فيقول: إن صاحب هذه الرسالة قد أنكر الحضَّ على تعليم عقائد الدين، ومال بالناس إلى إيثار الجهل فيها على العلم اليقين، فها أنا ذا أيها الناظر أُبْدي لك مذهبي في هذه المسألة لتعلم ما أدعو إليه وما أنهي عنه...[9] ».

- مُذكرا أن: «أول ما يبدأ به الإنسان هو أن يسعى في خلاص نفسه بصحة عقده أولا على الكتاب والسنة بقدر وُسعه، مقلدا في ذلك لأئمة السنة المشهورين بالعلم والعدالة إن لم يكن له قدرة على أخذ عقائده الصحيحة من الكتاب والسنة...»[10].

- ثم في مرحلة تالية: «إن كانت له فطنة ووفور عقل يقدر به على الترقي في المعرفة إلى تحصيل علم العقائد بأدلة الكتاب والسنة أولا ثم بالأدلة التي استنبطها الأئمة من قضايا العقل التي لا تقبل النقيض بوجه من الوجوه، فكل ذلك مما هو مطلوب شرعا ونقلا ولا ينكره إلا جاهل أو متجاهل...»[11].

- وبعد ذلك: «يلازم قرع باب سيِّدِه بأنواع الطاعات والآداب الشرعية والاحتماء عن كل منهي عنه ومجاهدة النفس بالتزكية عن الأخلاق المذمومة والتحلي بالأخلاق المحمودة...»[12].

- ثم في المرحلة التالية: «إذا حصل لهذا العبد من الإيمان والمعرفة بالله القدر الذي قسم له وهيأه الله، فيجب عليه أن يتفقد ما استرعاه الله من الأهل والولد والخدم وغير ذلك، فيُعلِّمهم مما علمه الله ويدعوهم إلى الله بقدر الإمكان.. وليكن أول ما يعلمه من الإيمان مدلول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ظاهرا من غير بحث في مدلولات الألفاظ ولا لوازمها، ومعنى ذلك إثبات الألوهية لله ونفيها عما سواها، وإثبات الرسالة لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم-، ولا يخوض معهم في تحقيق معنى الإله ما هو وفي صفاته ومتعلقاتها، حتى يرسخ في قلوبهم التصديق بوجوده ووحدانيته، والتصديق برسالة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولا يذكر لهم من الصفات إلا ما يتحقق به معنى الألوهية في نفوسهم من القدرة التامة والعلم الواسع ونفوذ الإرادة...»[13].

ثم عقب الشيخ أبو سالم العياشي على هذه المراحل المقررة في تعلم العقائد بأنها: «غاية توحيد العامة ولا يزيده على ذلك إلا إن رأى فيه فضل إدراك وفهم»، فهذا الواجب على الدَّاعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنظره. ولهذا خصص المطلب الأول في إيراد أدلة تحريم السؤال عن العقائد من القرآن الكريم ومن السنة المشرفة ومن أقوال العلماء، ثم أتبعه بالمطلب الثاني الذي خصصه لإيراد حكم الجهل ببعض الصفات من غير جحود مع التصديق والانقياد للإسلام؛ والذي اعتبره غير مُؤدٍّ إلى الكفر، وتلك طريقة تشي بوعي أبي سالم بمناظرة غيره وطرق الحجة بالحجة وتقديم الدليل على كل مسألة من مسائلها نصا واجتهادا.

- والمنحنى الثاني: وهو في بيان طريقته في الرَّد على ابن أبي محلي، والتي خصَّص لها أبو سالم العياشي المطلب الثالث في أنه لا يَصح الحكم بالكفر على العوام لأنه الغالب، والمطلب الرابع الذي خصصه لعرض شروط صحة الأحكام الدنيوية؛ وبيَّن فيه صحة هذه الأحكام في العبادات والعقود والعادات وحل الذبيحة وغير ذلك مما لا يُشترط فيه إلا الإسلام الظاهر القائم على النطق بالشهادتين.. وكل هذه الردود مشفوعة بأدلتها من نصوص الوحي قرآنا وسنة، ومذيلة بأقوال العلماء استدلالا وتقريبا، وأول ما ذكره من ذلك قوله: «اعلم رحمك الله أن ما تصدَّر له هذا الباحث عن عقائد المسلمين من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه يزعمه قاصدا لإبطال العقائد الفاسدة؛ وهو نهي عن المنكر بل من أعظم المناكر، ولإثبات العقائد الصحيحة، وهو أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أشبع فيها القول جماعة من الأئمة...»[14] ، معتبراً أنه - بفعله ذاك- قد أخَلَّ بكثير من شروط الحسبة التي ادَّعى ابن أبي محلي أنه يحاكم بها المقلدين في العقائد، «ولهذا كانت حسبته مثيرة للشَّر قليلة النفع والخير لفساد ما انبنت عليه» - كما قال- وقد عقد أبو سالم العياشي لذلك فصولا من كتابه هذا الذي بأيدينا لدحض آراء هذا المحتسب؛ ومنها: التكفير بين الأصول والفروع، شروط النظر في التكفير، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الحسبة، في صفة الداعي إلى الله تعالى، حكم الكشف عن عقائد العوام.. وغيرها من مباحث الكتاب:

- وكان أول ما نبَّه أبو سالم إليه في مسألة التكفير توجيه النصيحة لهذا الداعي بوصية جامعة مانعة بقوله: «فأن تكُفَّ لسانَك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله، غير مناقضين لها، والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذر أو بغير عذر، فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه...»[15]، وأضاف بعد التفصيل في موجبات الكفر قوله: «فعلى هذا لا يَصحُّ التكفير إلا بما اتَّفق العلماء وأجمَعوا على التكفير به...»[16].

- ثم بيَّن شروط الداعي بقوله: «والحاصل؛ من أراد أن يعرف شروط الداعي إلى الله وأوصافه، فليطالع ما دوَّنه الأئمة في شروط العالم والمتعلم.. وليطالع أيضا ما ذكره الأئمة الصوفية في أوصاف الشيخ والمريد، وكتبهم طافحة من ذلك فلا نطيل به...»[17].

- واعتبر ما قام به هذا المتعالم قد أثار الاختلاف بين الناس وأوجب البغضاء بينهم قائلا: «فهذا يدل على أنه لم يبنِ على أساس صحيح، ولا مشى صاحبه على طريق مستقيم. فلولا ما رجونا من الله تعالى من إطفاء هذه البدعة في القرب بسبب هذه الرسالة وغيرها من كلام العلماء، لنزَّهنا ألسنتنا عن التكلم فيها وطهرنا قلوبنا بالتفكر فيها؛ لأن الإعراض عن أهل البدع واجب...»[18].

وهو في كل هذه الردود صادرٌ عن أدلة نقلية وعقلية من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، وديدنُه الحديث النبوي الذي يرويه الصحابي الجليل أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله. فلا تَخفُروا الله في ذمته»، فما من رجلٍ فعَل هذه الأفعال إلا وهو في ذمة الله وذمة رسوله عليه السلام، له حقُّ الأمانِ والعِصمة في مالِه ودمِه وعِرضه، وحسابُه على الله تعالى، ومن آذاه بنسبة الكفر فقد أخفرَ اللهَ تعالى في ذمَّته بنص الحديث، وقد توعَّد الله من يَجترئُ عليه دون مُسَوِّغٍ شرعيٍّ بالعذاب الأليم في الدُّنيا والآخرة...[19].

ومن هذه الردود نستخلص موقف أبي سالم العياشي ومذهبه في تعليم الناس العقائد؛ والتي ينبغي أن تكون على قدر ما تستوعبه أفهامُهم، حتى لا يخرج بالناس عن طاقتهم في ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء مليئة بهذا النوع من الأدلة التي تمنع التفتيش عن عقائد الناس والبحث عنها، ولهذا ختم الكتابَ بإيراد بعض الملحقات نختار منها قوله: «فها أنذا أيُّها الناظر أبدي لك مذهبي في هذه المسألة لتعلم ما أدعو إليه وما أنهي عنه... فعلى الإنسان أن يسعى في خلاص نفسه بصحة عقده أولا على الكتاب والسنة بقدر وُسعه، مقلدا في ذلك لأئمة السنة المشهورين بالعلم والعدالة إن لم يكن له قدرة على أخذ عقائده الصحيحة من الكتاب والسنة، وإن قدر على ذلك فهو أولى، ثم إن كانت له فطنة ووفور عقل يقدر به على الترقي في المعرفة إلى تحصيل علم العقائد بأدلة الكتاب والسنة أولا ثم بالأدلة التي استنبطها الأئمة من قضايا العقل التي لا تقبل النقيض بوجه من الوجوه، فكل ذلك مما هو مطلوب شرعا ونقلا ولا ينكره إلا جاهل أو متجاهل، ثم بعد ذلك يلازم قرع باب سيِّده بأنواع الطاعات والآداب الشرعية والاحتماء عن كل منهيٍّ عنه ومجاهدة النفس بالتزكية عن الأخلاق المذمومة والتحلي بالأخلاق المحمودة، فإن ذلك مما يُقوّي به الإيمان وتتسع به المعرفة وترسخ في القلوب وتنكشف به الحقائق حتى يصير إيمانه في معدن الشهود والعيان، ويكون إيمانه الأول بالنسبة إلى هذا نسبة النواة إلى النخلة المثمرة. فإذا حصل لهذا العبد من الإيمان والمعرفة بالله القدر الذي قسم له وهيأه الله، فيجب عليه أن يتفقد ما استرعاه الله من الأهل والولد والخدم وغير ذلك، فيعلمهم مما علمه الله ويدعوهم إلى الله بقدر الإمكان...»[20].

وختم هذه النصائح بكلمة جامعة جاء فيها قوله: «فهذه غاية توحيد العامة ولا يزيده على ذلك إلا إن رأى فيه فضل إدراك وفهم. وليخرج به إلى تعليم الشرائع التي لا بد منها، وليعلمه أصول الديانة التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم- مثل الإيمان بالبعث واليوم الآخر ووجود الجنة والنار، ويلقي إليه هذه الأشياء مجملة من غير خوض في الكيفيات، ثم بما أوجبه الله على الأعيان من صلاة وصوم وزكاة وغير ذلك.. فهذا مذهبي في تعليم العقائد، ولا أرخص لأحد في مباحثة العوام بالأسئلة العويصة، ولا أقول بتكفير أحد صدَّق بوحدانية الله ورسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي تقدَّم، وإن جهل شيئا مما زاد على ذلك نبَّهناه عليه وعلمناه برفق حتى يتعلم، وهو بعدُ في دائرة الإسلام ولا نُخرجه منه بالجهل إلا أن يَظهر منه جحودٌ وعنادٌ يستدل به على عدم تصديقه ويكون صريحا في تكذيبه...»[21].

هذا، وقد تضمن الكتاب إلى جانب هذه الردود كذلك، بعض النقول والإملاءات في غاية النفاسة مما وقف عليه أبو سالم العياشي، نذكر منها تبرئة إمام المذهب الأشعري أبي الحسن من القول بتكفير العوام، كما ورد من رسالة أبي القاسم القشيري في كتابه: «شكاية أهل السنة بما نالهم من المحنة» وذلك وفق قوله: «وأما ما قالوا إن الإمام الأشعري يقول بتكفير العوام، فهو أيضا كذب وزور، وهو أيضا من تلبيسات الكرامية على العوام...»[22] ، ومن ثم كان الظن بعوام المسلمين أنهم يصدقون بجميع ما ورد عن الله تعالى في إخباره وبما يجب له ويستحيل عليه ويجوز من الصفات، وأما ما تنطوي عليه العقائد ويسكن في القلوب فالله تعالى أعلم به، تجنبا للدخول في التفتيش عن عقائد الناس، وهذا الكلام هو تصديق لشهادة الإمام الأشعري التي يرويها غير واحد عنه لما قرب حضور موته من قوله: «اشهدوا على أني لا أقول بتكفير أحد من عوام أهل القبلة، لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمهم...»[23].

ومن ذاك أيضا ما ذكره أبو سالم العياشي عن رجوع الإمام السنوسي عن كثير من التشديد في هذه المسألة كما وردت عنه في «الكبرى»، حيث يذكر أنه: «سمع من شيوخه رضي الله عنهم خصوصا الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي، أن الشيخ السنوسي قد رجع في آخر أمره عن كثير من كلامه في «شرح الكبرى»، فلم يزل كلامه يظهر فيه بعض التخفيف في الكتب التي ألَّفها بعد ذلك إلى أن ألَّف «شرح الوسطى» وهو من آخر ما ألف، فسهل فيه الأمر على العوام وحكم كغيره بإسلامهم، وأخبر أنه يحسن الظن بهم، ويحملون على أن بواطنهم موافقة لما دل عليه ظاهر النطق»، وهو ما وضحه شيخه محمد ميارة بعد ذلك[24].

كان الغرض من إيراد هذه النصوص لردود أبي سالم العياشي على فتنة تكفير العوام، أن تُتَّخذ منهجا في سبيل قطع الطريق على من حاول إخراج العوام من ربقة الإسلام بدعوى أنهم مقلدون، أو بدعوى عدم مقدرتهم على الاستدلال على إيمانهم بالبرهان والدليل، باعتبار «أن تكفير المسلمين عظيمة ينبغي الاحتراز منها ولا يجوز الخوض فيها إلا وفق الشروط» التي بيَّنها في مجمل هذا الكتاب، وذلك درءا للمفاسد العظام التي وقعت في عصره من القول بتكفير عامة المسلمين.

                                                                                                                                                 د.  منتصر الخطيب

باحث بمركز أبي الحسن الأشعري

***

[1]  سير أعلام النبلاء، للذهبي، ج/15، ص: 88

[2]  كتاب: الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين بعض فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من أقر بوحدانية الله، وجهل بعض ما له من الأوصاف، تأليف: الشيخ أبو سالم العياشي المتوفى سنة (1090هـ)، تقديم وتحقيق: الأستاذ عبد العظيم صغيري، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية/الرباط، الطبعة الأولى: 1436هـ/2015م

[3]  نفسه، من تقديم المحقق الأستاذ عبد العظيم صغيري، ج/1، ص: 106-107.

[4]  وهو: عبد الله بن محمد بن أبي بكر، من شيوخ الزاوية العياشية (أو زاوية سيدي حمزة)، والرحالة الشهير، كان غزير الإنتاج والتأليف، وتوفي في السنة التي انتشر فيها الطاعون بالمغرب (1090هـ).

[5]  نفسه، ج/1-177

[6]  نفسه، ج/1-116

[7]  نفسه

[8]  نفسه، ج/1-118

[9]  نفسه، ج/1-118 وما بعدها

[10]  نفسه

[11]  نفسه

[12]  نفسه

[13]  نفسه

[14]  نفسه

[15]  نفسه، ج/1-167

[16]  نفسه، ج/1-173

[17]  نفسه، ج/1-282-283

[18]  نفسه، ج/1-296

[19]  الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب: أبواب القبلة، باب فضل استقبال القبلة، رقم: 391

[20]  نفسه، ج/2-515 وما بعدها.

[21]  نفسه

[22]  نفسه، ج/2-428

[23]  نفسه، ج/2-429

[24]  انظره في: ج/1-91-92

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق