عشر ذي الحجة موسم الغنم والادكار

بسم الله الرحمن الرحيم
المطالع لنصوص الوحيين يلفيها تندب العباد إلى الاتجار مع الله بعقلية التاجر، ومعلوم أن رائد التاجر في الاتجار لحظ الربح والخسران، وتقليب النظر في العائد عليه من الصفقات، من موازنة بين الربحين، وتقدير الخسارتين، فيستجلب الأعظم ربحا ويطرح الأقل غنما، ويستثمر في مواسم الطلب على بضائع مخصوصة أكثر من استثماره في غيرها، فموجهه في التعامل قانون الموازنة بين المصالح عند التزاحم، وتحمل الأخف من المفاسد عند التوارد، فلربما تحمل أهون الخسارتين استباقا لحلول الأشد، وأهدر المصلحة القريبة الخفيفة لأخرى أبعد منها لكنها أوزن، وهذا فقه مقنن عند أساطين علماء مقاصد الشريعة من الرواد الكبار، كالعز بن عبد السلام و الشاطبي من المتقدمين، والطاهر بن عاشور من المتأخرين، فبإعمال هذا الفقه يكون التجار من الفقهاء، أقصد فقهاء في طلب المعايش، و علماء بأنجع مسالك الاستثمار، وهي دراية محمودة إن شفعت بالدراية المقابلة لها؛ الدراية بشؤون المعاد، و ما تستصلح به أحوال السائرين إلى الله من العباد، وإن اقتصر على الأولى فقط دون مراعاة للثانية وما تقتضيه من التشمير والتخطيط عاد العِلم بها باللائمة على من قام به وصفها، وتحقق فيه شرطها من سائر المكلفين دون استثناء، فهذا فقه وعلم، فقه يخدم المعاملات الدنيوية، فهو دراية بفن مخصوص تستجلب به الحظوظ العاجلة، وتختزل به مدد الأرباح المحبوبة للنفوس، لكن للأسف جل علم الناس إنما هو بالعاجلة وأسباب تحصيلها كما حكى عنهم القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" [الروم:7] قال ابن كثير: "أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة؛ كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة. قال الحسن البصري: والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله تعالى: "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" يعني: الكفار يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال"[1]. ومثل هذه الآية في التنصيص على جهل المتنكبين منهاجه كما أفاده الأمين الشنقيطي في الأضواء قوله تعالى: "وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت: 38] ، أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ" [النجم:29-30]
ومن النصوص النبوية الزاجرة عن الاكتفاء بتحصيل العلم الدنيوي والاقتصار على الحذق بأمر الدنيا واطراح شأن الآخرة قوله صلى الله عليه وسلم: فيما رواه أبو هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ يُبغِضُ كُلَّ جَعْظَرِىٍّ[2] جَوَّاظٍ، سَخّابٍ فى الأسواقِ، جيفَةٍ باللَّيلِ، حِمارٍ بالنَّهارِ، عالِمٍ بالدُّنيا، جاهِلٍ بالآخِرَةِ".. [3]
ولن نحوض أكثر في التدليل على هذه القضية، فهي مما استفاض فيها التحذير، وتواتر بشأنها النكران والوعيد، وإنما بسطتها بين يدي هذا التسطير لنوازن بها الحال، وليظهر بالبرهان من أي القبيلين حال الإنسان، فنحن نعيش هذه الأيام موسما من مواسم الغنم الكبيرة، وظرفا من ظروف المتاجرة الرابحة النافقة؛ موسم زيارة بيت الله الحرام، و ظرف أداء ركن الإسلام الأعظم لمن كتب الله لهم أداء نسك الحج لهذا العام، ثم نحن في العشر المباركات من شهر ذي الحجة، الأيام المعلومات التي تضاعف فيها أجور الأعمال الصالحات للحجاج و لعموم المسلمين تفضلا منه سبحانه ومنة، إشراكا لهم في الغنيمة، وتحفيزا لهم للحاق بضيوف الرحمان فيما يغنمونه من أجر وثواب، وقد جاء الحض على اغتنماها من جهات، وتواترت النصوص في التنصيص على فضيلتها وعمارة أوقاتها والتعرض لنفحاتها، من ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ الْعَشْرِ أَفْضَلَ من العمل فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ"[4]
وفي لفظ ابن حبان من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَاّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". [5]
فهذه العشر موسم، ومعلوم ما تقوم عليه المواسم، فالتجار يتحملون عناءها، ويتجلدون خلالها لما يرجونه من غنم، فلا يكون طلاب الحظوظ العاجلة أجلد من طلاب ما عند الله من أجر ومثوبة، فهي الأيام المعلومات التي ورد ذكرها في القرآن كما نقل عن ابن عباس في قوله "لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ" قال: "الأيام المعدودات أيام التشريق، و الأيام المعلومات أيام العشر"[6] قال الرازي: " أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله، واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها."[7]
ولعل وجه تسميتها بالمعلومات أنها معلومة الفضل والفضيلة، و قد كانت معلومة المنزلة حتى عند الجاهليين قبل البعثة، فهي مقدِّمة لما يأتي بعدها من أنساك ذات رمزية ضاربة في جذور تاريخ البشرية، مذكرة بأعمال أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ومجاهدته نفسه في الله ولله، وما كان من أمر الفداء، ومعاناته مع ما كان يلقيه الشيطان في روعه لصرفه عن توقيع الرؤيا، وتنحيته له عن مسلكه بالرجم المتوالي بالحصيات، وتضحية زوجه هاجر و تحملها العناء المعنى ببطن الواد، وما كان من أمر سعيها بين الصفا والمروة طلبا للإنجاد.. كل ذلك وغيره من الرموز المذكرة بأصل التشريع حافزٌ للعبد لزوم السواء، وتذكيره بأصل العداء، المذكي جذوة التوقد بالقالوب، ولحظ هذه الأسرار هو ما أفضى ببعض علمائنا الأفذاذ إلى لفت نظر المكلف إلى تذكرها عند الإتيان بشعيرة هراقة الدماء تقربا إلى الله الواحد الديان، "قال مقاتل إذا ذبحت فقل بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك وتستقبل القبلة، وزاد الكلبي فقال إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، قال القفال: وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها، فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة الله تعالى، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته."[8]
فجاءت هذه الأعمال التي نُدب العباد إليها شكرانا لله على ما أولى، إذ لا تقابل نعم الله بمثل شكره، وشكره طاعته ومزايلة معصيته، ومشروعية تنوع العبادات المقربة إليه هو ترويح للنفس البشرية الملولة، إذ المغايرة أنشط للنفوس، وأريح للقلوب، فتعطي كل عبادة مسنونة نورا لصاحبها يزلفه بين يدي مولاه، ويقربه من نيل مناه، وأعظمها ما كان نفعه متعديا للغير، وفرح النفس بإدخالها السرور على المكروب أشهى عندها من كل مرغوب، ووقعه في القلوب أحلى وألذ من كل ملذوذ، سيما في هذه الأيام التي تتوالد فيها النفقات، وتكثر فيها المخصات، فذا غيض من فيض مما ينبغي المسارعة إليه في هذه الأيام، وإنما الموفق من وفقه الله.
[1] تفسير القرآن العظيم، 6/84
[2] الجعظرى: الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع، والسخاب: فَعَّال من السَّخَب والصَّخَب؛ بمعنى الصياح.
[3] رواه البيهقي في السنن الكبرى، باب مكارم الأخلاق ومعاليها التي مَن كان متخلقا بها كان من أهل المروءة، رقم: 20841 ، وابن حبان في صحيحه، ذكر الزجر عن العلم بأمر الدنيا مع الانهماك فيها، والجهل بأمر الآخرة ومجانبة أسبابها، رقم 2619.
[4] أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، رقم: 926.
[5] صحيح ابن حبان، ذكر استحباب الاجتهاد في أنواع الطاعات في أيام العشر من ذي الحجة، رقم:283.
[6] تفسير ابن كثير، عند قوله تعالى: "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ" 1/561، وأورده البخاري في صحيحه كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق،
[7] مفاتح الغيب، 23/221
[8] مفاتح الغيب للرازي، 23/221.