
وبعدما برَع رحمه الله في علوم النقل والعقل، وأضحى يُلَقَّب بالحافظ، والمحدث، والفقيه، والأصولي، والمتكلم، والنحوي، واللغوي، والمنطقي، والأديب، والجدلي، وما شابه ذلك، جلس للتدريس والتعليم فكانت حِلَقُهُ تعجّ بالشيوخ والطّلاب الوافدين على الحضرة الفاسية حتى قيل: «كل من يُـحسن النحو بفاس ويزعم أنه أخذه عن غير سيدي عبد القادر فهو كاذب»، وقيل أيضا: «لا تجد عالما أو متعلما بإفريقية والمغرب إلا وهو من تلامذته أو تلامذتهم»، بل أكثر من هذا: «لولا ثلاثة لانقطع العلم من المغرب في القرن الحادي؛ لكثرة الفتن التي ظهرت فيه وهم: محمد بن ناصر، ومحمد بن أبي بكر الدلائي، وعبد القادر الفاسي »، وقد جمع ابنه أبو زيد الآخذين عنه في سفر سماه: «ابتهاج البصائر فيمن قرأ على الشيخ عبد القادر»، جُلهم من كبار العلماء الذين شغلوا منصب التدريس والفتيا والخطابة والقضاء والمشورة في عهد الدولة العلوية؛ كالرَّحالة المسند الحجة أبو سالم عبد الله بن محمد العياشي(ت1090هـ)، والإمام الكبير أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي(ت1102هـ)، والفقيه النوازلي أبو علي الحسن بن رحال المعداني(ت1140هـ).
ويبدو أن الشيخ رحمه الله فضَّلَ تكريس حياته لمهنة التدريس مع نساخة الكتب، خاصة صحيح البخاري فيبيعها ويأكل من ثمنها؛ إذ لم يثبت عنه رحمه أنه تقلد منصبا من مناصب الدولة رغم كفاءته وأحقيته بذلك، ومع ذلك فإنه كان قوَّالاً للحق لا يخاف في الله لومة لائم، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، يواجه به الكبراء والملوك.
وقد أُعجب بهذه الشخصية المتكاملة الأوصاف جمهور من العلماء فأثنوا عليها الثناء الحسن، يقول محمد الطيب القادري في نشره وقد كَفَى ووفّى:
أولـهم هو الإمام الماهرُ العالـمُ الـمفرد عبد القادر
شيخ الشيوخ وفريد المنصب محيي العلوم في جميع المغرب
قد أشـرقت من أفْقِه أنـوار واتضحت من علمه أسرار
وانعقد الإجماع عَّلى تقديمه واتفق الكـل على تعظيمه
يعلو به الـمكان والـمقدار ويعظم التفخيم والوقـار
مقامه في فاس ذو اشـتهار مُؤمَّـل لـحاجة الـزّوار
تلمذت له شيوخ المغرب قاطبة فهو العليُّ المنصب
أما التأليف فالمعروف عن المترجم رحمه الله أنه لم يتصدر لتأليف كتاب بعينه، أو لشرح متن من المتون، وإنما كانت تصدر منه أجوبة عن مسائل كان يسأل عنها فيجيب، تكفل بجمعها ابنه عبد الرحمن وبعض أصحابه منها: الأجوبة الصغرى -مطبوعة-، والنوازل الكبرى، منها نسخة بالمكتبة الوطنية رقم 2926د، وأخرى بالقرويين رقم 741، وعقيدة أهل الإيمان، منها نسخة بالوطنية رقم 2738د.
توفي رحمه الله زوال يوم الأربعاء ثامن رمضان سنة (1091هـ)، ودفن من الغد في موضع تدريسه للعلم بالزاوية المنسوبة إليه الآن بحومة القلقليين بفاس.
ترجمته في: فهرسته وإجازته لأبي سالم العياشي، واقتفاء الأثر(142ـ 147)، وصفوة من انتشر(310ـ 314)، ونشر المثاني(2/270ـ 279)، والتقاط الدرر(217ـ218)، وخلاصة الأثر(2/444ـ451)، وسلوة الأنفاس(1/350-355)، وشجرة النور(314ـ315).
إنجاز: د. رشيد قباظ.