سؤال المرجعية والإنسية في الخطاب الإسلامي المعاصر: عبد الوهاب المسيري نموذجا

ملامح الرؤية النقدية
عاش الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، تجربة وجودية و فكرية ساد فيها النموذج المادي الفلسفي وهيمن ردحا من الزمن، لكن إيمانه بالإنسان ككائن مركب وفاعل له كينونته كما له مشروطيته المادية شكل المركز النظري لتحوله الأساسي، فقد بدأ يدرك بشكل تدريجي عدم جدوى النموذج المادي في الإحاطة بالظاهرة الإنسانية المركبة، نظرا لبساطة هذا النموذج واختزاليته، كما بدأ يشعر بشكل متزايد بضرورة تبني نموذج فكري وفلسفي أكثر تركيبية ومتعدد الأبعاد والمستويات[1].
طوال هذه المسيرة الفكرية الغنية تميَّز الرجل بذلك التنوع في مصادر المعرفة وحقول الاشتغال فيها؛ كالفلسفة ونظرية المعرفة والسياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ واللغة، وبأدوات ومناهج تنهل من الروح النقدية المستمدة من الثورة الابستيمولوجية المعاصرة.
يعد المسيري مفكراً من طراز خاص؛ فقد تمكن من فك شفرة التحيز في المناهج والعلوم والمفاهيم والمصطلحات[2]، كما تمكن من تطوير أدوات تحليلية وتفسيرية خاصة، مكنته من تفكيك المذاهب والأنساق، ومن اكتشاف ناظمها المنهجي والمعرفي، ليعيد ترتيبها والتأليف بين عناصرها في إطار رؤية وجودية توحيدية إنسانية تنظر إلى كرامة الإنسان وتؤمن بكونه جزءا من الطبيعة لكنه يتجزأ منها، وأنه مكلف بأداء أمانة، ومستأمن على الوجود ككل وهذا ينعكس على تصوره المعرفي للحياة من جهة، وعلى وظيفته التاريخية من ناحية أخرى[3].
كما أن الرجل يصدر في أعماله عن عقلية نقادة قادرة على النفاذ إلى أعماق ما تقرأ، وقادرة على تحليل المعلومات وإعادة التفسير والتركيب، وهي الأعمال التي ما كان لها أن تظهر لو لم يتوفر لصاحبها تلك الإرادة القوية التي تدفعه قدما بمعزل عن الشروط التي يفرضها العالم الخارجي، فقد أحجم وبإصرار كبير عن القيام بأي عمل يتناقض مع مشروعه الفكري أو يعوقه، فالمثقف الذي يمثله المسيري هو شخص راهن على حس نقدي نأى به عن الأفكار المبتذلة أو المتملقة، وكانت النزعة الإنسانية في داخله هي المحرك الأكبر لكتابات ما فتئت تقاوم كل أشكال الاستبداد والسيطرة والظلم[4].
يؤمن المسيري أن للإنسان فاعلية يستمدها من إمكانياته الذاتية والعقلية ومن الحرية التي يتصف بها، وبالتالي فهو مؤهل ليتحصل مرتبة المركز في الكون والاستخلاف في الأرض، كما أن الإنسان بناء على هذه المرتبة الشريفة، ليس كائنا مبنيا على السذاجة والرتابة، ليتلقى تأثيرات معطيات العالم ومكوناته بسلبية أو تلقائية، بل يعمد إلى تلقيها حضورا وبقصدية، فيؤلف بينها بوحي من مسبقاته النظرية عقلية كانت أو وجدانية أو عقدية، فينضدها بشكل خاص ومستقل لا يكرر الآخرين كما لا يتجاوزهم، فتبرز مبررات التميز وأصالة النظر[5].
إن مثل هذا الموقف النقدي لا يمكن أن يصدر إلا من مرجعية نظرية وتصورية تتسم بالتركيب والتجاوز، إنها مرجعية التوحيد، فهي المرجعية التي تمتلك مقومات للوقوف ضد كل أشكال العدمية التي تنكر انشداد الوعي الإنساني إلى أفق الغائية، والعودة بالضمير البشري إلى دائرة الغاية والهدف الأسمى، "فإذا كان للوجود معنى، تصبح لحياة كل إنسان معنى، وبالتالي يكون الإنسان كيانا مستقلا ومسؤولا، وعلى العكس من هذا لا يمكن تصور معنى لعالم تسود فيه الصدفة، وتتم فيه عملية الخلق بالصدفة المحضة[6].
فالتوحيد كما تبلور في منظومة المسيري الفكرية، هو تلك المرجعية المتجاوزة التي تشكل الكلي الناظم؛ أي بتعبيره هو ذلك "النموذج المعرفي" الذي يكمن وراء كل قول أو فعل أو ظاهرة إنسانية، وهذا النموذج هو مصدر الوحدة وراء التنوع، وهو الذي يربط بين كل التفاصيل، فتكتسب معنى ودلالة، وتصبح جزءا من كل، وليس معلومة جديدة أو طرفة فريدة فحسب، والنموذج هو تجل معين لرؤية الإنسان للكون، تلك الرؤية التي تدور حول المحاور الثلاثة: الله والإنسان والطبيعة.. وهي محاور مترابطة إلى درجة أنه يمكن استخلاص موقف النموذج من الله والإنسان من خلال دراسة موقفه من الطبيعة، وبهذا يتجلي أن مفهوم التوحيد هنا ليس بابا من أبواب العقيدة فحسب، نعالجه بطريقة مبتسرة جافة، حتى ليظنه الضان بابا مستقلا عن باقي أبواب المعرفة الأخرى، فلا هو يؤسس لها ولا هي تستند إليه[7].
و"النموذج عبارة عن شبكة تصورية تتحكم في مفردات الفهم وعناصره، وتوليد المعقولية إزاء العالم بمكوناته، سواء أأعلن المتبنى وأبرز، أم أضمر وأخفى، وفي كلتا الحالتين يصدر الوعي عن مشكاة نظرية وتصورية، تحفظ للوعي تحركه المتوازن قبالة الظواهر"[8].
تبين لنا مما سبق الملامح العامة للمستند المعرفي والتصوري الذي صاغ وفقه عبد الوهاب المسيري رؤيته النقدية ونماذجه التحليلية والتفسيرية وهي التي وصفها بالقول "عندما يتجه الإنسان إلى ظاهرة ما مستهدفا تفسيرها، فانه يقوم بعدة خطوات حتى يصل إلى هذا التفسير، وحينما يرى الإنسان ظاهرة ما، فعليه التعامل مع عدد كبير من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، وعندئذ يقوم العقل باستبعاد بعضها لأنه يعتقد أنها لا دلالة لها "من وجهة نظره" ويستبقي البعض الآخر "وهذا هو التجريد" وتأتي، بعد ذلك، خطوة الربط بين العلاقات والوقائع والحقائق التي أبقاها فينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح، حسب تصوره، مماثلة للواقع؛ أي أن تكون قادرة على تقديم صورة معبرة بشكل صحيح عن الواقع، وما ينتج عن عملية التجريد وتصور العلاقات بين عناصر الظاهرة يسمى "النموذج" فهو بناء يماثل الواقع لكنه افتراضي؛ أي متخيل ومع هذا تشبه العلاقات بين عناصره العلاقات الموجودة بين عناصر الواقع"[9].
الملاحظة الأساسية التي يسجلها الباحث حول التعريف السابق، تكمن في ذلك الحضور الملفت لمفردات نقدية كالاستبعاد والتجريد والدلالة والتنسيق والافتراض والتخيل، وهي مفردات تحيل على تصور مضمر لماهية العقل الذي يبشر به الرجل، إنه العقل النقدي التوليدي، فالعقل هنا ليس آلة فوتوغرافية صماء دورها الأساسي تسجيل الصورة ونقلها كما هي بدعوى الموضوعية، بدون أدنى عمليات التنسيق والربط، بل إن للعقل دورا فعالا في عملية إدراك الواقع.
وبالتالي فهم الظاهرة في حالتها الكلية، وذلك عبر مرحلتين أساسيتين: مرحلة الوصف، وتتحقق عبر تفكيك الظاهرة إلى مفاهيمها الأساسية. ثم، مرحلة التركيب، أي تركيب المفاهيم وكشف متغيرات الظاهرة وتفاعلاتها عبر الزمن، وتكون بذلك خلاصة هذه العملية اكتشاف النموذج الأكثر قدرة على التفسير، وذلك لا يتحقق إلا في إطار "الموضوعية النسبية"[10].
وعلى النقيض من هذا العقل، يرى المسيري أن السبب الأساسي للأزمة التي تعيشها الحداثة الغربية وما ينبثق منها من أنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية، يرجع إلى الهيمنة التي فرضها العقل الأداتي؛ أي ذلك العقل الذي يلتزم على المستوى الشكلي بالإجراءات دون هدف أو غاية؛ أي أنه يوظف الوسائل في خدمة الغايات دون تساؤل عن مضمون هذه الغايات، وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان، وهو على المستوى الفعلي؛ العقل الذي يحدد غاياته وأولوياته وحركته انطلاقا من نموذج عملي مادي بهدف السيطرة على الطبيعة والإنسان وحوسلتهما؛ أي تحويلهما إلى وسيلة[11].
والغاية الأساسية التي يطمح إليها هذا النمط من التفكير العقلاني الأداتي هي بلوغ درجة عالية من الموضوعية، التي تلغي كل العناصر الجوانية للظواهر، كما تلغي الفرادة التي يتميز بها الإنسان بحسب الشروط التاريخية والحضارية التي ينتمي إليها، ولذلك يسمي المسيري هذا النوع من الموضوعية بالموضوعية المتلقية، فهي تفترض أن الواقع بسيط وأن العقل سلبي وأن علاقة العقل بالواقع علاقة بسيطة، وهي تصورات وافتراضات ساذجة واختزالية[12].
الإنسان بين مرجعيتين
يعرف المسيري المرجعية بأنها "الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين والتي "لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها فهي ميتافيزيقا النموذج والمبدأ الواحد الذي ترد إليه كل الأشياء وتنسب إليه ولا يرد أو ينسب إليها. وهنا يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته والذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر. وهو الذي يمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه[13].
بناء على التعريف السابق يستند المسيري في مقاربته لقضايا الإنسان على التمييز بين مرجعيتين الأولى يطلق عليها تسمية المرجعية النهائية الكامنة، والثانية يسميها المرجعية المتجاوزة، ويرى أن المرجعية الكامنة التي تستند إليها العلمانية والحداثة الغربية أفضت إلى تفكيك الإنسان وانهياره، "ففي إطار هذه المرجعية الكامنة ينظر للعالم باعتباره يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، دون حاجة إلى اللجوء إلى شيء خارج النظام الطبيعي، لذا لابد أن تسيطر الواحدية المادية...
ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكون منها كل شيء، كما يرى المسيري أن كل النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، وفي إطار هذه المرجعية يصبح الإنسان كائنا طبيعيا وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي[14].
فالإنسان وفق رؤية المسيري التفسيرية يتنازعه اتجاهان: الأول؛ هو النزعة الربانية الإنسانية، والثاني؛ يسميه بالنزعة الجنينية، أما النزعة الربانية الإنسانية فهي حين يرى الإنسان انه يعيش في الطبيعة، ولكن لا يرد في كليته لها ولا يمكن تفسيره في كليته من خلال مقولات مادية محضة، فهو إنسان لا يذعن لحدود المادة رغم وجوده داخلها، وإنما يتحرك في إطار المرجعية المتجاوزة[15].
بينما تتمثل النزعة الجنينية تلك الرغبة في الهروب من عبء الهوية والتركيبية والتعددية والخصوصية والإنسانية المشتركة والأخلاقية العالمية والحدود والزمان والمكان والمقدرة على التجاوز حتى يعود الإنسان إلى عالم الطفولة الأولى والإنسان الطبيعي، بل إلى ما قبل الطفولة الأولى حينما كان جنينا، عالم سائل بسيط لا يوجد في أي حاجة للتجاوز[16].
يربط المسيري بين هذه النزعة الجنينية السائلة، وبين نموذجين للإنسان سادا في الحضارة الغربية الحديثة؛ إذ يعتبر أنهما تعبيران أساسيان للإنسان الطبيعي، هما الإنسان الاقتصادي الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والرغبة في تحقيق الربح والثروة، أو الإنسان المحكوم بعلاقات الإنتاج، والإنسان الاقتصادي يعبر عن مبدأ المنفعة بحيث لا يعرف الإنسان سوى صالحه الاقتصادي[17].
وإلى جانب هذا الإنسان الاقتصادي الذي عبرت عنه كل من فلسفتي آدم سميت الليبرالية وكارل ماركس الماركسية، يصطف الإنساني الجسماني أو الجنسي كما عبرت عنه كل من فلسفتي فرويدوبافلوف، وهو الإنسان الذي تحركه دوافع جنسية أو غدده العصبية، وهو يعبر عن مبدأ اللذة ولا يعرف سوى لذته ومتعته، إنه إنسان الاستهلاك والترف والتبذير، وهو أحادي البعد خاضع للحتميات الغريزية متجرد من القيمة لا يتجاوز قوانين الحركة[18].
تستند الرؤية الإنسانية في المرجعية المتجاوزة إلى نقطة خارج عالم الطبيعة والتاريخ والإنسان، هذه النقطة في النظم التوحيدية هي الإله الواحد المنزه عن الطبيعة والتاريخ، يحركهما ولا يحل فيهما، ووجوده هو ضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة لن تختزل ولن تلغى، ومن هنا يمكن أن نفهم كيف أن الإسلام بقي بعيدا عن حبائل العلمانية ومن إدراك ذات المصير الذي أدرك الفكر الغربي، رغم كل هذه التأثيرات الحلولية الباطنية، فالأمر، راجع إلى "تصور الألوهية القائم على مطلق التنزيه والتوحيد، إلى جانب مفهوم الاستخلاف، اللذان يتناقضان قي الصميم وأي توجه حلولي، وما يترتب عن ذلك من مسافات فاصلة بين الذات الإلهية وعالم الطبيعة والإنسان أو بين عالمي الخلق والأمر"[19]، ففي المرجعية المتجاوزة الإسلامية تحضر الثنائيات الفضفاضة، ويحضر الإنسان المركب المتوازن؛ أي أن الإنسان وفق هذا التصور المرجعي، يملك القدرة على التجاوز والتفاعل، فهو إنسان رباني متعدد الأبعاد، له من الحرية ما يجعله قادرا على اتخاذ القرارات الأخلاقية، كما أن له هوية محددة ولا يتمركز حول ذاته، ففي إطار المرجعية المتجاوزة يمكنه تأكيد إنسانيته لا بالعودة إلى ذاته الضيقة وإنما بالإشارة إلى النقطة المرجعية المتجاوزة[20].
"لا يكتفي الإسلام بترسيخ التوازن على المستوى الفردي، بل ينقله إلى المستوى الجماعي أيضا. فنجده تارة راغب في الحياة وملاذها وأخرى منصرف عنها ومتشوف إلى آخرة هي أفضل وأبقى، وهذا ما يفسر أيضا الثنائيات ”الفضفاضة“ أو المستوعبة التي يوفرها هذا الدين لاحتضان وترشيد الكائن البشري، بعيدا عن الواحديات الصلبة الحادة. ففي ثنائية "الدنيا/الآخرة" نقرأ قوله تعالى مثلا: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (آل عمران: 14) وبعدها مباشرة: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 15) كما نقرأ كذلك ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (الكهف: 45) وأنكر الحق، سبحانه وتعالى، على من يقتصر على القول ﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً﴾ (البقرة: 199) وأرشد إلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة معا: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة: 199)"[21].
وثمة جوانب كثيرة في حياة الإنسان، يظهر فيها الفرق بين المرجعيتين: المرجعية المتجاوزة والمرجعية الكمونية، يضرب الدكتور سعيد شبار مثالا بارزا على ذلك، يتجلى في فئة المسنين والمتقاعدين، هذه الفئة كان يعبر عنها في الأنظمة الشمولية بـ"الأفواه الآكلة غير المنتجة" والتي يعبر عنها في نظام العولمة الحالي الشمولي الكلي بـ"المواطنين الفائضين" عن الحاجة يقول: "الأنظمة الشمولية اعتمدت طريقة التسخين بواسطة الأفران والمحارق الغازية، كما حدث لقطاعات المسنين والمرضى الميؤوس منهم واليهود وأحيانا الجرحى الألمان أنفسهم إبان الحكم النازي، وتعتمد في الأنظمة الثانية طريقة التبريد بواسطة الملاجئ والمحاضن وبيوت العجزة والمسنين؛ أي التحييد والعزل المنهجي لإنسانية الإنسان وكينونته الاجتماعية... أما في المرجعية المتجاوزة. فما أجمل أن نقرأ في القرآن الكريم عن هذه الشريحة قوله تعالى ﴿êوَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ (الإسراء: 23)، بل ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (العنكبوت: 7)"[22].
وحينما خلق الله الإنسان من طين، نفخ فيه من روحه فأصبح إنسانا مختلفا عن المادة التي خلق منها كائنا له عقل قادر على التمييز وعلى الاختيار بين الخير والشر ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7-10) مما يعني وجود حيز إنساني مستقل عن الحيز الطبيعي/المادي، وهو ما يمكن تسميته بالإنسان الرباني في إطار النزعة الربانية التي "تفترض وجود عنصر في العالم لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة "الطين/الرحم". فهو الذي يمنح الإنسان تركيبه المتناهية، ويولد فيه وعيه بنفسه ككائن مسؤول مستقل لا يذوب في الكل، وهو ليس الكل (وليس بالإله)[23] ففي المرجعية المتجاوزة (الإسلامية) الله هو الخالق سبحانه والإنسان هو مخلوق مستخلف في الأرض، والمسافة بين الخالق والمخلوق محفوظة في إطار هذه الثنائية.
أساس المرجعية المتجاوزة، إذن، هو الحفاظ على الثنائيات الفضفاضة؛ أي ثنائيات "الخالق/المخلوق، الجسد/الروح، الدنيا/الآخرة، الله/الإنسان... الخ". فضمن هذه المسافة التي تفصل بين هذه الثنائيات يكتسب الإنسان فاعليته بما أودعه الله فيه من وعي و إرادة وحرية وقدرات عقلية استأهل بها منصب الخلافة في الأرض ومنحه مركزية في الكون.
أما في المرجعية الكمونية فإن هذه الثنائيات تلغى تماما ولا وجود لها. فالرؤية الحلولية المادية تقدم رؤية مادية للإنسان وللطبيعة وبالتالي تسقط في اختزالية مفرطة لعالم الإنسان بحيث يصبح مقولة مادية تتحكم فيه قوانين مطردة هي قوانين الطبيعة فهو جزء لا يتجزأ منها؛ وهو بذلك يعيش تحت سقفها المادي يربطه بها حبل سري[24].
والنتيجة الحتمية لمثل هكذا تصور أو الرؤية تكمن في المستوى العملي، بحيث يصبح منطق الحاجة الطبيعية المباشرة هو الذي يتحكم في المذهب الأخلاقي المؤطر للسلوك العملي، فالمذاهب المادية تذهب إلى أن الشيء الوحيد الذي يجدر بالإنسان أن يسعى إليه هو الخيرات المادية التي تجود بها الطبيعة والحياة، والشيء نفسه ينطبق على المعايير الجمالية، فالشعور والإحساس بالجمال وكل الأحاسيس الإنسانية يمكن فهمها بردها إلى المبدأ المادي الواحد، فهي مجرد تعبير عن شيء مادي يوجد في الواقع[25].
في نقد إنسانية الحداثة
تأسست الإنسية الحداثية الغربية معرفيا على العقلانية المجردة والتمركز حول الإنسان باعتباره مصدرا وحيدا وواحدا للمعرفة العلمية مع إسقاط كل الوسائط التقليدية في المعرفة الإنسانية، كما أشرنا في ذات السياق أن هذا المسار أدى إلى مأزق معرفي وحضاري مناقض للشعارات والأهداف الأولى التي رفعتها الحداثة .
من هذا المنطلق تعد المقاربة المعرفية التي قدمها المرحوم عبد الوهاب المسيري ذات أهمية فهو يبتغي دراسة أصول الممارسة المعرفية والبنية العلمية للخطاب الحداثي ولأبعاده الإنسية؛ أي أنه يقدم مشروعا للمراجعة بالكشف عن الأبعاد المرجعية الكامنة والمؤسسة لتشكلات الحداثة وسيرورتها وبالتالي تحقيق إمكان التقويم والتجاوز.
في سياق تحليله لتشكل الخطاب الإنسي في الغرب يموضع عبد الوهاب المسيري مسار هذا التشكل ضمن الصراع الحاصل بين نموذجين، يتأسس النموذج الأول على وضع الإنسان في مركز الكون، فهو الركيزة النهائية صاحب الإرادة الحرة الواعية والقوة المبدعة، وهو صاحب القدرات العقلية اللامتناهية، وحواسه قادرة على استنباط المعرفة من الواقع، وهذا النموذج يؤكد وجود الإنسان ككائن يتمتع بقدر من الاستقلالية على الطبيعة[26].
وإلى جانب هذا النموذج السالف الذكر، ظهر نموذج آخر مادي واحدي جعل من الطبيعة غير الواعية والتنويعات المختلفة عنها مركزا للكون، ومن تم فإن هذا النموذج ينكر مركزية الإنسان لصالح مركزية أخرى هي الطبيعة[27].
ويرى المسيري أن هذين النموذجين هما الإطارين الأساسيين المشكلان للرؤية الإنسانية الهيومانية، فقد تشكل النموذجان في نفس اللحظة التاريخية، والأهم من هذا أن كليهما يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، أي رؤية أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره. ولهذا نجد كثيرا من كتب التاريخ تصنفهما باعتبارهما جزءا من التراث "الهيوماني" "humanistic" ومعنى هذا أن كلمة "إنساني/هيوماني" تطلق على الفكر المتحيز للإنسان وعلى الفكر المعادي له في ذات الوقت"[28].
والإشكالية الأساسية التي يواجهها الفكر الإنساني الهيوماني كما يتصورها المسيري تكمن أساسا في ذلك السياج المادي الذي يحيط بهذا الفكر، فثنائية الإنسان والطبيعة ستنحصر داخل نطاق الطبيعة المادة وحدها وسيتحرك الإنسان داخل السقف المادي، كما ستكون مرجعيته النهائية شاء أم أبى، هي الطبيعة المادة، وبالتالي يرد الإنسان إلى ما هو دونه، كما سيتم تفكيكه إلى عناصره المادية الأساسية، ومن تم يرى أن ثنائية الإنسان والطبيعة داخل هذا الإطار المادي الذي يستند إليه الفكر الإنساني الهيوماني هي ثنائية واهية ليس لها أساس فلسفي، فأساسها وجداني، اختيار وجودي لا يتسق فلسفيا مع النموذج المادي الذي يشكل الإطار المرجعي[29].
المآل الوجودي والفلسفي لمثل هذه الرؤية الإنسانية لا يمكن أن تكون إلا عنصرية تنبني على مركزية حضارية غربية؛ أي على إنسانية الإنسان الغربي، "فهذا الفكر الذي يدور في إطار المرجعية الكامنة جعل الإنسان موضع الكمون ووضعه في مركز الكون دون استخلاف من الإله"[30]، وقد بينت الممارسة التاريخية أن الفكر الإنساني الهيوماني الذي يدور في إطار مادي لم يترجم نفسه إلى إيمان عميق بالإنسانية المشتركة، وإنما بإنسانية الإنسان الأبيض ومركزيته في الكون، فالإنسان هو مرجعية ذاته وهو الذي يؤله قيمه من داخله، ولذا بدلا من الإنسانية المشتركة، ظهرت الإنسانية الغربية الإمبريالية التي وظفت العالم لصالح الإنسان الغربي الذي قام بإبادة وتسخير الملايين واحتلال أراضيهم، وبدلا من حداثة إنسانية تستند إلى مفهوم الإنسانية المشتركة ظهرت الحداثة المادية الداروينية بكل وحشيتها وأنانيتها وأنيابها وأظافرها[31].
يضع المسيري هذه الخلاصة التي انتهى إليها في سياق نقده للنزعة الإنسانية الغربية ضمن رؤية نقدية تستحضر التاريخ الغربي في شموليته؛ أي ضمن مسار طبيعي لتطور العلمانية، فهذا التطور هو التعبير الأساس لهيمنة النموذج المتمركز حول الطبيعة، والتفكيك التدريجي للإنسان إلى أن ينتهي باختفاء الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية، فأنه ابتداء من فكر حركة الاستنارة بدأت هذه العملية في الاتساع التدريجي لنطاق الرؤية المادية الكمية الواحدية على حساب الرؤية الإنسانية الكيفية التي تفصل بين الإنسان والطبيعة، وقد أدت هذه العملية في نهاية المطاف إلى سيادة الفكر العدمي والتفكيكي وإلى سيادة الاتجاهات المعادية للإنسان في الحضارة الغربية الحديثة، وهي الاتجاهات التي ستصل إلى ذروتها وتكاملها النظري في فكر ما بعد الحداثة وما بعد الإنسانية الهيومانية[32].
فما بعد الحداثة بسماتها المعادية للإنسان ليست إلا لحظة من لحظات تطور النسق الفكري الغربي تحت السقف المادي، وكل محاولة للتفلت من القبضة الما بعد حداثية، لا يمكن أن تنجح ما لم يعلو العقل الغربي على السقف المادي، ومادام تحت هذا السقف فإن النقد ما بعد الحداثي للإنسانية الهيومانية سيبقى ذا مشروعية لا يمكن إنكارها[33].
فـ"الفكر الإنساني الهيوماني منح الإنسان مركزية في الكون ولكنه حين ألغى الإله أو همشه، أي حين ألغى ما وراء الطبيعة/المادة، فإنه لم يبق سوى السقف المادي، ولذا كان لا بد أن يتراجع النموذج المتمركز حول الإنسان، بل ويمكن القول إن نموذج التمركز حول الإنسان هو وهم من أوهام عصر النهضة الذي كان يطمح إلى أن يتحرر الإنسان تحررا تاما من أي إيمان ديني، وذلك بإنكار وجود الإله تماما أو جعل الإيمان الديني شأنا خاصا لا علاقة له بمعرفة العالم المادي، وبالتالي يكون بوسع الإنسان أن يركز على العالم ويدرسه دون أن تغشى عيونه أية غشاوة عاطفية أو إيمانية، وبذلك فإنه هو ذاته يصبح الإله ويسخر الطبيعة لصالحه..
ولكن الإنسان حين وقف بأقدامه على الأرض الطبيعة/المادة، دون أن ينظر إلى النجوم والملائكة، وحينما بدا يؤسس نماذجه التفسيرية وأنساقه الفلسفية على أساس القوانين المادية الخالصة وحسب، كان لا مناص له من أن يفسر ذاته كظاهرة تخضع لنفس القوانين المادية الطبيعية والكمية، فهي القوانين الوحيدة التي تسري على الكون. ومن هنا بدأ انتصار النموذج الهيوماني الثاني الطبيعي على النموذج الأول الإنساني حتى تحققت للنموذج الكمي السيادة شبه الكاملة في نهاية الأمر وأصبح هو النموذج الفعال[34].
انسجاما مع منطلقاته الفكرية المركبة، يعترف المسيري بأن في الفكر الغربي جيوب للمقاومة، ترفض هذا الهجوم الشرس على الإنسان وعالمه الداخلي، فرغم هذا التناقض داخل المنظومة الإنسانية الهيومانية، فإن كثير من الفلسفات ترى أن الإنسان يحوي داخله ما لا يمكن رده إلى الحركة المادية الصماء وأن عالمه ليس منفصلا عن القيمة.
"ولذلك فإن حملة هذا الفكر يؤمنون بأن المجتمع ليس مجرد غابة أو حلبة صراع، وليس خاليا من المعنى، وأن منظومات الإنسان المعرفية والأخلاقية و الجمالية تفرض على هذا العالم نظاما، وتزود الإنسان بأطر إدراكية ومعرفية يسبغ من خلالها المعنى والهدف على وجوده وكيانه، ولذا فإن حملة هذا الفكر يقفون ضد الإمبريالية وضد صناعة السلاح وتلويث البيئة، فهم يؤمنون بأن ثمة إنسانية مشتركة وثمة تاريخا مستمرا، وأن هذا الكون هو ميراث كل الأجيال ولابد من الحفاظ عليه، وأن الهدف من الوجود الإنساني هو تحقيق السعادة والرقي لكل أبناء الجنس البشري، والواقع أن تجليات هذه المقاومة كثيرة ومتعددة، ويمكن القول بأن الفلسفة الإنسانية الهيومانية في الغرب بتأكيدها القيم الأخلاقية المطلقة ومقدرة الإنسان على تجاوز واقعه الطبيعي/المادي، تعبير عن محاولة الإنسان الإفلات من قبضة العدمية وعن البحث غير الواعي من قبل الإنسان المادي عن المقدس غير المادي"[35].
وكثيرا ما يستحضر المسيري نماذج من الفكر الغربي التي تشكل رموز المقاومة الفكرية ضد الهجمة الشرسة على الإنسان في الفلسفة الغربية، ولعل أبرز نموذج يستحضره في هذا السياق هو الفيلسوف الإيطالي فيكو Giambatistia Vico (1668-1744)، الذي تعد أعماله من أبرز ما كتب في نقد العقلانية في القرن الثامن عشر، وبالخصوص نقد العقلانية الديكارتية، يمكن القول إن النموذج الكامن في كتابات فيكو هو رفضه للواحدية المادية التي طرحها ديكارت ثم الثنائية الصلبة التي حاول أن يفرضها، بعد ذلك، من خلال مفهوم الذات الواعية المستقلة، وأخيرا مفهوم الإله كمحرك أول.
وهكذا فإن فيكو يرفض الفكرة المحورية التي يستند إليها الفكر المادي الغربي الحديث والعلوم الإنسانية في الغرب، وهي وحدة العلوم والتي تفرض وحدة الإنسان والطبيعة/المادة، ووحدة الإنسان والأشياء. وإذا أردنا أن نلخص فلسفة فيكو بالمصطلح الحديث لقلنا إنه يعتبر أن نموذج ديكارت المعرفي والبحثي نموذج متشيء، ولذلك ففيكو يرفض رؤية الإنسان باعتباره جزءا من الطبيعة وأنه يرى أن ثمة ثنائية أساسية بين الإنسان والطبيعة، وأن الإنسان مختلف عن الطبيعة بسبب أصله الإلهي[36].
ويرى المسيري هذا النقد الذي قدمه فيكو، استمر في الحضارة الغربية بقدر ما ازدادت القبضة المادية في النسق المعرفي الغربي، ولعل أبرز المدارس الفلسفية الغربية اقترابا من فلسفة فيكو النقدية، مدرسة فرانكفورت[37] مع فارق وحيد لكنه أساسي وهو رفضهم تأسيس ثنائية الطبيعة/الإنسان على أساس غير مادي، ولذا فقد انتهى كل مفكري هذه المدرسة برؤية تشاؤمية عميقة تكاد تكون عدمية[38].
والواقع أن المسيري حين يبحث في المنظومات الفكرية الفلسفية المدافعة عن الإنسان في السياق الغربي فإنه في حقيقة الأمر يبحث عن أرضية للمشترك الإنساني؛ أي ما يمكن أن يؤسس للإنسانية المشتركة كأرضية لحداثة إنسانية تنطوي على رفض الحداثة المادية التي لا تؤمن بإنسانية الإنسان، والتي تذهب إلى أن العالم إن هو إلا مادة استعمالية يوظفها القوي لصالحه، ولذلك تطرح الإنسانية المشتركة بدلا من ذلك، فكرة التوازن مع الذات ومع الطبيعة[39].
هذا التأكيد على مفهوم الإنسانية المشتركة هو في حقيقة الأمر رغبة في استعادة الفاعل الإنساني وتركيبيته، بوصف هذا المفهوم "الإنسانية المشتركة" بديلا لمفهوم الطبيعة البشرية الجامدة والإنسانية الواحدة، فهو مفهوم تستوي فيه الإنسانية جمعاء وفق قيم معينة، ويقترح المسيري إمكانية توليد قيم معيارية انطلاقا من هذه الإنسانية المشتركة، تستوي أمامها كل الإنسانية مع الحفاظ على هوية كل شعب وخصوصياته الحضارية... غير أن هذه الإنسانية ليست مثالا أفلاطونيا جامدا يتجاوز الواقع تماما، بحيث يصبح الواقع مجرد ظلال له، وإنما هي إمكانية بشرية، فالإنسان يتمتع بطاقة إبداعية كامنة، تتيح له إعادة صياغة ذاته حسب وعيه الحر، وما يتوصل إليه من معرفة من خلال تراكم التجارب، فضلا عن تطويره منظومات أخلاقية وجمالية وغيرها من الأشكال الحضارية[40].
لقد راهن المسيري، رحمه الله، على هذا الخطاب المدافع عن الإنسان، رغم اختلاف المرجعيات الثقافية والحضارية لمن اعتبرهم حاملي لواء الإنسانية في الفكر المعاصر بشقيه الغربي والإسلامي، فقبل وفاته تبلورت لديه رغبة شديدة في إنجاز دراسة شاملة تعيد اكتشاف النزعة الإنسانية من جديد، "وهو ما يذكرنا بتلك الدعوة الفكرية التي كان قد طرحها الفيلسوف الفرنسي "روجي جارودي" قبل سنوات، مشيرا إلى نوع من التضامن بين ما أسماه "شبكات المعنى" في الثقافات والحضارات المختلفة على المستوى العالمي في مواجهة تلك النزعات المادية والوضعية التي فصلت الحياة والأفعال البشرية عن أي معنى أو قيمة كلية مطلقة تضفي عليها قيمتها ومغزاها وتجعلها تتجاوز مجرد الوجود المادي المحض والمصالح النفعية المباشرة للإنسان، أو تلك النزعات الإنسانية المفرطة التي جعلت الإنسان في حد ذاته مرجعية نهائية دونما حاجة لأي مرجعية مطلقة خارجة"[41].
الهوامش
[1] المسيري عبد الوهاب، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية، ط1، دار الشروق 2005، ص177.
[2] يشير المسيري إلى أن قضية التحيز في المنهج والمصطلح تشكل أكبر عائق أمام الإبداع النقدي، وهي قضية تواجه المثقف في العالم الثالث بحدة، فهو ينشأ في بيئة حضارية وثقافية لها نماذجها الحضارية والمعرفية المختلفة، ولكنه مع ذلك يجد نماذج أخرى تحاول أن تفرض نفسها على مجتمعه وعلى وجدانه وفكره.
- راجع: المسيري عبد الوهاب، إشكالية التحيز، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ونقابة المهندسين، ط1، 1995، ج1، ص9.
[3] راجع: دواق حاج أوحمنة، المنهج التوحيدي عند عبد الوهاب المسيري: مدخل إلى الإبستيمولوجيا التوحيدية، ضمن مجلة إسلامية المعرفة العدد 68، السنة 17، 2012، ص73.
[4] رزان محمود إبراهيم، رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية؛ دراسة في المقاصد والمنهج، ضمن مجلة إسلامية المعرفة العدد 68، السنة 17، 2012، ص34.
[5] دواق حاج أوحمنة، المنهج التوحيدي عند عبد الوهاب المسيري: مدخل إلى الإبستيمولوجيا التوحيدية، م، س، ص79.
[6] المسيري عبد الوهاب، العلمانية الجزئية والشاملة العلمانية، المجلد الأول، القاهرة: دار الشروق، ط1، 2002، ص456.
انظر أيضا: دواق حاج أوحمنة، المنهج التوحيدي عند عبد الوهاب المسيري: مدخل إلى الإبستيمولوجيا التوحيدية، م، س، ص101.
[7] مرزاق عبد القادر، كتابات عبد الوهاب المسيري: المداخل الكبرى لولوج فكره، ضمن مجلة إسلامية المعرفة العدد 68، السنة 17، 2012، ص15.
[8] دواق حاج أوحمنة، المنهج التوحيدي عند عبد الوهاب المسيري: مدخل إلى الإبستيمولوجيا التوحيدية، م، س، ص81.
[9] عبد الوهاب المسيري، الموسوعة الموجزة، اليهود واليهودية الصهيونية، دار الشروق، ط1، 2003، المجلد الأول، ص21.
[10] إدالكوس عبد الله، في نقد الخطاب الحداثي، المسيري ومنهجية النماذج، المركز الثقافي العربي، ط1، 2014، ص36-37.
[11] المسيري عبد الوهاب، رحابة الإنسانية والإيمان: دراسة في أعمال مفكرين علمانيين وإسلاميين من الشرق والغرب، دار الشروق، ط1، 2012، ص65.
[12] المسيري عبد الوهاب، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 2006، ص323.
[13] المسيري عبد الوهاب، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دمشق: دار الفكر، ط1، 2002، ص36.
[14] الشيخ ممدوح، عبد الوهاب المسيري: من المادية إلى الإنسانية المشتركة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2008، ص216.
[15] المسيري عبد الوهاب، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مكتبة الشروق، ط1، 2006، ص22.
[16] المرجع نفسه، ص23 (بتصرف).
[17] المسيري عبد الوهاب، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، م، س، ص24.
[18] المرجع نفسه ص24 (بتصرف).
[19] المرجع نفسه، ص339.
[20] المسيري عبد الوهاب، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، م، س، ص22.
[21] شبار سعيد، قيمة الإنسان وتكريمه بين المرجعية المادية الواحدية والمرجعية المتجاوزة، ضمن: في عالم عبد الوهاب المسيري، م، س، ص394-395.
[22] شبار سعيد، قيمة الإنسان وتكريمه بين المرجعية المادية الواحدية والمرجعية المتجاوزة، ضمن: في عالم عبد الوهاب المسيري، م، س، ص397.
راجع أيضا: إدالكوس عبد الله، في نقد الخطاب الحداثي: المسيري ومنهجية النماذج، م، س.
[23] عبد الوهاب المسيري، اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، دار الشروق، ط1، 2002 ص229.
[24] دوبورينيه، إنسانية الإنسان: نقد علمي للحضارة المادية، ترجمة: نبيل صبحي الطويل، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1984، ص11.
[25] المسيري عبد الوهاب، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، م، س، ص17.
[26] المسيري عبد الوهاب، رحابة الإنسانية والإيمان: دراسة في أعمال مفكرين علمانيين وإسلاميين من الشرق والغرب، م، س، ص30.
[27] المرجع نفسه، ص31.
[28] المرجع نفسه، ص33.
[29] المرجع نفسه، ص39.
[30] المسيري عبد الوهاب، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر، ط1، 2002، ص180.
[31] المسيري عبد الوهاب، رحابة الإنسانية والإيمان، م، س، ص40.
[32] المسيري عبد الوهاب، رحابة الإنسانية والإيمان"، م، س، ص 35.
[33] نحيل في هذا الصدد النقد الذي قدمه الفيلسوف الالماني مارثن هايدغر، وقد بينا معالمه في الفصل الثاني من الباب الأول من هذا البحث.
[34] المسيري عبد الوهاب، "رحابة الإنسانية والإيمان"، م، س، ص 37.
[35] المرجع نفسه، ص 38.
[36] المرجع نفسه، ص 44.
[37] راجع الفصل الثاني من الباب الأول من هذا البحث، وقد أشرنا فيه إلى النقد الذي قدمه رواد مدرسة فرانكفورت لأسس اغتراب الإنسان المعاصر
[38] مسيري عبد الوهاب،" رحابة الإنسانية والإيمان" م، س، ص 49.
[39] المرجع نفسه، 41.
[40] راجع: رحماني ميلود، "الإنسان في المرجعية المتجاوزة عند عبد الوهاب المسيري"، ضمن " مجلة إسلامية المعرفة" العدد 68 السنة 17، 2012، ص 130/131.
[41] المسيري عبد الوهاب، "رحابة الإنسانية والإيمان"، م، س، ص 8.