ثلاث رسائل مغربية وأندلسية إلى المقام النبوي الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
كلما دخلت الأشهر الحرام، وهبت نسائم العشر الأوائل من ذي الحجة، طارت القلوب شوقا إلى الديار المقدسة، طواف بيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي عليه السلام، وقد تعلقت أفئدة قطر الغرب الإسلامي، فكتبوا الرسائل شوقا إلى الديار المقدسة، وفي ذلك قال العلامة المقري: "هذا مقام طمحت إليه همم الرجال، وتسابقت جياد أفكارهم في مضماره بالروية والارتجال، وسارت أرواحهم مع الرفاق، وإن أقامت الأشباح وطارت قلوبهم بالأشواق، ولم لا وهو سوق تعظم فيه الأرباح"[1].
وهذه ثلاث رسائل مغربية وأندلسية صادرة من ثلاثة علماء، وهم: ابن أبي الخصال، وعياض، وابن الجنان إلى المقام النبوي الشريف، مع ترجمة موجزة لكل عالم، ومصادر ترجمته، ونص رسالته بتمامها.
الرسالة الأولى: رسالة ذو الوزارتين ابن أبي الخصال إلى المقام النبوي الشريف:
ابن أبي الخصال، هو: أبو عبد الله محمد بن مسعود بن خلصة بن فرج بن مجاهد الغافقي، المتوفى عام: 540هـ[2]، فقد أثنى عليه المقري فيمن كتب إلى المقام النبوي والحجرة الشريفة، فقال: "فممن حاز في ذلك قصب السبق، وانتشى من حمياه، وأفنى عمره في اصطباح واغتباق: ذو الوزارتين ابن أبي الخصال، عليه من الله رحمة دائمة الاتصال"[3]، وقد روى رسالته هذه ابن خير في فهرسته[4].
ونص رسالة ابن أبي الخصال إلى المقام النبوي الشريف: "إلى الرؤوف الرحيم، الرسول الكريم، ذي الخُلق العظيم، والحَسب الصميم، والصفح الجميل، والمَنِّ الموفى على التأميل، صريح الصريح، ورقود دم الذبيح، المخصوص بالمقام المحمود، والحوض المورود، وخطيب الأنبياء، وإمامهم في اليوم المشهود، المكين الأمين الذي ليس على الغيب بضنين، النازل عن خير الظهور إلى خير البطون، والمتردد من الأب الأقصى إلى الأب الأدنى بين كل مصونة ومصون، الذي تسلمه الآتي عن الماضي أمانة حملها من كل سلف خياره، ونورا عُرفت في جباه السؤدد سیماه وآثاره، إلى أن أذن الله سبحانه، فظهرت أسراره الكامنة، وأدته إليه صلوات الله عليه الطاهرة آمنة، الذي جُعلت له الأرض مسجدا وطهورا، وأُحلَّت له الغنائم، وكانت حجرا محجورا، ونُصر بالرعب سنين شهورا، وأوتي جوامع الكلم، فانتظمت لفظته سطورا، وبعث إلى الأحمر والأسود فضلا کان له مذخورا، ونُسخت بملته الملل إما مؤمنا وإما كفورا، وأُنزل عليه الفرقان هدى ونورا، فأحيا نفوسا وشفى صدورا، الذي وجبت نبوءته وسِتْرُ الغيب عليه منسدل، وآدم صلوات الله عليه في طينته منجدل، لبنة التمام، التي انعقد بها التأسيس، ويتيمة النظام التي ادخر لها الوضع النفيس، إمام وفد الرحمن، وفرط وراد الإيمان، الذي نکلت عن بسالته الضراء، وسلمت له في الخفر العذراء، واعترفت لواقح الرياح ليمينه، واغترقت لوائح الصباح من نور جبینه، الآخذ بالحجرات، الوارد بالمعجزات، الذي سَلَّم عليه الحجر، والتأم إليه الشجر، وانشقَّ لبرهانه القمر، وحنَّ إلى حضرته الجذع المنقعر، وأنبأه بسورته السم المستعر، ونبع من بين أنامله الماء، وأجابت بدعوته ثم انجابت السماء أبي القاسم خيرة الخير، وسيد البشر، المصطفى من أكرم العتر، جاشم المجاشم، وذؤابة هاشم، هامة العرب، ومنتهى مجد الأبعد والأقرب، الحاشر العاقب، ذي المجد الثاقب، وزهر المآثر والمناقب، الذي فاز المحسنون بطاعته، واستنقذ المذنبون بشفاعته صلى الله عليه، حساب كرامته لديه، وكفاء ما يدنى منه ويقرب إليه، من عتيقه المعلن بتصديقه، الداعي في قربه، المستشفي بريح تربه، المستشفع به إلى ربه، المؤمن بما آمن به من رسله وكتبه: فلان بن فلان.
كتبته يا واضع الإصر والأغلال، ورافع رايات الهدى على الضلال، ومبدلنا بالظل من الحرور، ومخرجنا من الظلمات إلى النور، ومُرْوينا من الرحیق المختوم، والحوض الذي آنيته بعدد النجوم، ومحظينا بالنظر إلى الحي القيوم عن دمع يسفح، ونفس تلفح، وصدر بأشواقه من يطفح، وعَرْف عليك من الصلاة والتسليم ينفح، وأسف إليك يتلهب، وزفرة بأحناء الضلوع تجيء وتذهب، وحُشاشة بعوائق البعد عنك تنهب.
وكيف لا أَقضي حزنا، ولا أُرسل دموع الوجد والتلهف مزنا، أم كيف ألذ حياة، وأؤمل نجاة، ولم أعبر إلى زيارتك لجة ولا موماة، ولا أخطرك في قصدك نفسا أنت منقذها ومنجيها، ولا مَثلْتُ بمعاهدك المشهدة، ومشاهدك المطهرة أحييها، ولا نزلت عن الكُور كرامة للبقعة المقدسة التي ثوَيْت فيها.
فوا أسفا ألا إلى ذراك مسقبلا، ولا أكب على ثراك مُقَبِّلا، ولا أصافح من تلك العرصات مدارس الآيات، ومهبط الوحي والمناجاة، حيث قُضي فرض الصوم والصلوات، وحيث انتشر التنزیل، وسفر بالوحي جبريل، وبرزت خبية الدهر، وأورثت بليلة خير من ألف شهر، أسفا لا يعفو رسمه، ولا يمحو ندبه ورسمه، إلا الوقوف بحرم الله وحرمك، والتوسل هناك إلى كرمه بكرمك .
اللهم كما جعلتني من أمته، واستعملتني بسنته، وشوقتني إلى آثاره، وشغلت قلبي بتخيله وتذكاره، وأريتني تلك المعالم المنية خيالا، وخططت منها في الضمير مثالا، وأشهدتنيها ملء السمع والفؤاد جمالا، فاشف بمرآها بصرا ضريرا، واكحله بسناها يرتد بصيرا، واجعل لي فيها معرسا ومقيلا، وضع عني من شوقها إصرا ثقيلا.
اللهم يسرني إلى قصده، وأعدني بالقرب على بعده، واعم ربي ما بين قبره ومنبره، ومبداه ومحضره، ومصلاه ومنحره.
اللهم شرفني بقضاء الفريضة، ومضاء في تلك الأرض الأريضة، اللهم لا تحرمني طيب طيبة، وأنخ هذه الشيبة بباب بني شيبة، واغسلها هناك من ذنوبها وخطاياها، وفِرْ من ثوابك الجزيل حظوظها وعطاياها، وعُج إلى خاتم أنبيائك صدور مطاياها، وهب لي عزمة من أطاع، وبسطة من استطاع، وادفع عني الضرر والضرورة، ولا تمتني حِلْسَ البيت صرورة.
لو أوتیت یا رسول الله سوْلي، لسبقت إليك كتابي ورسولي، لكن قلَّ الوفر، واستقل السفر وغادروني حرضا، ولسهام الأسى والوجد غرضا، أُتبعهم نفسا لا يؤوب، وقلبا يستخفه القلق والوُثوب، وأتشبث بهم تشبث الأسير بالطليق، وألحظهم لحظ السقيم للمفيق، وأتعلق تعلق الغريق، فلم أملك یا رسول الله إلا رقعة تشكو بث التبريح، وتحية خفيفة المحمل طيبة الريح، تتأرجح بأرجائك وتتدرج إلى قبولك ورجائك، فأتوسل بك یا رسول الله إلى مصطفيك بالرسالة والوسيلة، ومختصك بالدرجة الرفيعة والفضيلة، ومؤتمنك على إقامة حقه، ومبتعثك بالهدى والنور إلى جميع خلقه، ليسعدني بجوارك، ویکرمني بحلول دار هجرتك وأنصارك، وأفرغ بعد حقوقه من حقوقك ، وألم بصديقك وفاروقك، وأعرج على الصهرين: أبي عمرو ذي النورين، وأبي السبطين، الحسن والحسين، وأندب المقتول، وأعزي الزهراء البتول.
وأوقف بحواريك المودود، وأسد الأسود، وبابن عبيد الله ذي الجود والفضل المبين، وبالأمين حق الأمين، وبقريعي زهرة في التقى والدين، وبسعيد ذي الفضل المبين.
وأقضي حق الأمهات والأزواج الطاهرات، وسائر أهل الكرامات، وأتقرَّى منازل السعداء، ومشهد سید الشهداء، وأدعو ربك في جبل أحببته وأحبك، وأحط بوارث الرأي والراية، وصاحب السقيا والسقاية، وحائز العقبي والغاية، وأعتمد عصمة الهُلَّاك، وأبا أبي الأملاك، حبر العلم والتأويل، وفاتح أغلاق التنزيل، وبحر الندى الجزيل.
طالعتُك يا رسول الله بنيتي، وأعملت في قصدك أمنيتي، واستأنست برجاء يُعمل إليك مطيتي، ويحل عِقال عزمتي وطيتي، وغير عزيز على من شفَّعك في القيامة، وأقطعك دار المقامة، وأعطاك لواء الحمد والكرامة، أن يجمع لي بك بين الشفاعتين، ويؤتيني في الدنيا بلقياك، وفي الآخرة بسقياك الحسنيين.
اللهم بلغ عني المبلغ الأمين، والرسول القوي المكين، ما أُظهره من محبته وأبطنه، وأُسره وأُعلنه، وبيِّن عني ما لا أستطيع أُبينه، اللهم أشهد بصلاتي عليه وسلامي، ومحبته فيه وإلمامي، واشدد وسيلتي لديه وذمامي.
وصل اللهم عليه وعلى أصحابه أعلام الإسلام، ومصابيح الظلام، وعلى أهل قرباه ، ومن نصره وآواه، وعلى أزواجه الصالحات الصابرات السائحات العابدات، صلاة تباري وتفاوح ثناءهم وتغادي وترواح فناءهم، يتضوع شذاها بقبورهم، ويسطع نشرها عليهم إلى يوم نشورهم، مشفوعا عبقها بالدوام والتمام إلى دار السلام.
ثم سلام الله عدد خلقه، ورضى نفسه، علی نبي رحمته، وولي عصمته، المخصوص بتمام نعمته، المكين عند ربه، المغفور له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، ورحمة الله وبركاته، وأنهاره وجناته، وروْحه وريْحانه، ومغفرته ورضوانه، صلى الله عليه وسلم"[5].
الرسالة الثانية: رسالة القاضي عياض إلى المقام النبوي الشريف:
القاضي عياض، هو: أبو الفضل عياض بن موسى بن عمرون بن موسى اليحصبي السبتي، المتوفى سنة: 544هـ[6]، وقد قال في حقه الذهبي: "استبحر من العلوم، وجمع، وألَّف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق"[7].
ونص رسالة القاضي عياض إلى المقام النبوي الشريف: "إلى سيد ولد آدم، وشفيع العالم، البشير النذير، السراج المنير، الرسول الكريم، الرؤوف الرحيم، ذي الخلق العظيم، والفضل الباهر الجسيم، ودعوة أبيه إبراهيم، وبشرى المسيح، وابن الذبيح ابن الذبيح، المنبأ وآدم بين الجسد والروح، الصادق الأمين، الحق المبين، المطاع عند ذي العرش المكين، نبي الرحمة، وهادي الأمة، والعروة الوثقى والعصمة، وقدم الصدق ودار العلم والحكمة، وسيلة الوسائل، وثِمَال اليتامى والأرامل، حبيب الله وخليله ومصطفاه، ورسوله المجتبى، المنتخب من خِيَارِ الأخيار، وصميم الحَسَبِ النُّضار، الطاهر المطهر المختار أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، منتهى الشرف، وَمُنْقطع الفَخَار.
من الشائق لزيارته، الراجي في دعوته، المدخرة في شفاعته، المؤمن بنبوءته ورسالته، المعترف بتقصيره في طاعة الله وطاعته، عياض بن موسى بن عياض.
بسم الله الرحمن الرحيم، وأفضل الصلوات وأزكى التسليم، على المصطفى محمد نبيه الكريم، سيد المرسلين، وإمام المتقين، وشفيع المذنبين، وقائد الغر المحجلين، وأكرم الآخرين والأولين ورسول رب العالمين، ووسيلتهم إليه أجمعين، النور الساطع، والشفّيع المشفع الشافع، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، والوسيلة والفضيلة والكوثر، ورافع لواء الحمد يوم المحشر، المُرْسَل إلى الأسود والأحمر، الآتي بالآيات والنذر ، المتحدي بالمعجزات جميع البشر، المبعوث بجوامع الكلم، الشهيد على جميع الأمم، منير الأفئدة بأنوار الحكم، الذي شرح صدره فَمُلئ إيمانًا وحكمة، من لم يجعل الله به علينا في الدين من حرج، وأسرى به من الفرش، واستسقي الغمام بوجهه فانهمع، وانشق القمر لتصديقه نصفين ثم اجتمع، وعاد نور الشمس بدعائه لشروقه بعد الأفول ورجع، وانفجر الماء من بين أصابعه ونبع، وسجد البعير لهيبته وخضع، وسكن ثَبِير لركضته حين تزعزع، وحَنَّ الجذع حنين العشار لفرقته وخشع، المؤيد بروح القُدس جبريل، المُبَشر به في التوراة والإنجيل، المنزلِ عليه مُحكَم الكتاب والتنزيل، الصادع بالحق كما أمر، المصدق في جميع ما أخبر، المُظَلَّلِ بالغمام، الممدود بالملائكة الكرام، المنصور بالرعب، المطلع على الغيب، من أقسم الله بِعُمُره، ورفع ذكره مع ذكره، عليك من صلوات الله وسلامه، وزلف بركاته، وتحف إكرامه، كفء محلك الشريف لديه وقدره، وعداد نجوم الأفق وقطره، وجزاء ما كابدت، وقاسيت في إظهار دين الله ونصره، وثواب ما دعوت إلى صراط الله وامتثال أمره.
وبعد: فإني كتبت إليك، صلى الله عليك، يا خاتم الرسل، وهادي أوضح السبل، ورحمة العالمين، ونعمة الله على المؤمنين، وشارح القلوب والصدور، ومخرجها من الظلمات إلى النور، فإني عبد من أهل ملتك، المتحملين لأمانتك، منهاجك وشرعتك، والملتزمين للحنيفية ملة أبيك ابراهيم المؤملين النجاة بالدعوة دعوتك التي خبأتها شفاعة لامتك، ممن أشرق فؤاده بشعاع أنوارك، واهتدى قلبه بعلم منارك، وتاه عقله بحسرة فوات رؤيتك وأبصارك، وهام قلبه لبه في حبك، وتوقير عظيم مقدارك، وعدته العوادي عن التشفي بقصد قبرك ومزارك، وقَطَعَتْ به القواطع عن التشرف بمشاهدة مشاهدك الكريمة وآثارك، مصافح بالإيمان بك وتصديقك، شاهد الجوارح بالتقصير عن أداء حقوق الله وحقوقك، فهو طليح ذنوب ومآثم، وأسير تباعات وخل آثم، أثقلت ظهره مع العاصين خطاياه وآثامه، وانقطعت في التمني مع العادين لياليه وأيامه، وقصرت به عن جد المخلصين أوزاره وأجرامه، فلا رجاء له إلا في عفو الله واستشفاعك، ولا خلاص له إلا بالتعلق بحقوقك يوم يكون آدم ومن ولد تحت لوائك ومن أبتاعك، فيا محمداه طـال شوقي إلى لقائك، ويا نبياه، عليك مني أفضل الصلوات والبركات والتسليم، ويا حبيباه اذكرني عند ربك، في مَقَامِكَ المحمود الكريم، ويا شفيعاه اشفع لي وَلِوَالِدَيَّ في ذلك الموقف العظيم.
اللهم إني أسألك بحقه عليك الذي آتيته، وبِقَسَمِكَ بِعُمُرِهِ الذي شَرَّفتهُ به وفضلته، وبمكانه منك الذي اختصصته واصطفيته، أن تجازيه عنا بأفضل ما جازيت نبياً عن أمته، وتؤتيه منا الفضيلة والوسيلة والدرجة الرفيعة فوق أمنيته، وتعظم عن يمين العرش نوره بما يوريه من قلوب عبيدك، وتضاعف في حضرة القدس حبوره، بما قاسى من الشدائد في الدعاء إلى توحيدك، وأن تجدد عليه من شرائف صلواتك، ولطائف بركاتك، وعوارف تسليمك وكراماتك، ما تزيده به في عرصات القيامة إكراما، وتعليه به في عليين مستقرا ومقاما.
اللهم واطلق لساني بأبلغ الصلاة عليه، واسبغ التسليم، واملأ جناني من حبه وتوفية حقه العظيم، واستعمل أركاني بأوامره ونواهيه في النهار الواضح والليل البهيم، وارزقني من ذلك ما يُبوئني جنة النعيم ، وَيُشعرني رُحماك وفضلك العميم، ويقربني إليك زُلفى في ظل عرشك الكريم، ويُحلّني دار المقامة من فضلك، ويزحزحني عن نار الجحيم، ويقضي لي بشفاعته يوم العرض، ويوردني مع زمرته على الحوض، ويؤمنني يوم الفزع الأكبر، يوم تبدل الأرض غير الأرض، وارفعني معه في الرفيق الأعلى، واجمعني معه في الفردوس وجنة المأوى، واقسم لي أوفر حَظ من كماله الأوفى وعيشه المهني الأصفى ، واجعلني ممّن شفا غليله بزيارة قبره، وأناخ ركابه بعرصات حرمك وحرمه قبل أن يُتَوفَّى .
ثم السلام الأحفلُ الأكملُ مُردّداً، عدد القطر والحصى كثرة وعددا، عليك يا نبي الهدى المنقذ من الرَّدى، وعلى ضريحك المقدس سرمدا، ويصعد إلى عليين مع رُوحك صعدًا ، ويمده رضوان الله ورحماه مددا، ما تطارد الجديدان وتطاول المدى، ورحمة الله وبركاته أبدا، تحية أدخرها عهدا عندك وموعداً، وأجدها إن شاء الله لعقبات الصراط معتمدا، وفي عرصات الفردوس معهدا، وأخص بأثرها الخليفتين ضجيعيك في تربك، وأخص الناس في محياك ومماتك بقربك، وكافة المهاجرين والأنصار، وعامة صحبك الذين عزروك ونصروك، وآووك ووقروك، وكان بعضُهم لبعض ظهيرا، والطيبين ذريتك، والطاهرات أمهات المؤمنين أزواجك، وأهل بيتك الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "[8].
الرسالة الثالثة: رسالة ابن الجنان إلى المقام النبوي الشريف:
ابن الجنان، هو: أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري المرسي ثم البجائي، المتوفى سنة: 610هـ[9]، وقد قال في حقه ابن المقري: "ترجمة ابن الجنان واسعة جدا، وكلامه في النبويات نظما ونثرا جليل"[10].
ونص رسالة ابن الجنان إلى المقام النبوي الشريف: "السلام العميم الكريم، والرحمة التي لا تبرح ولا تريم، والبركة التي أولها الصلاة وآخرها التسليم، على حضرة الرسالة العامة الدعوة والنبوة، المؤيدة بالعصمة والأيد والقوة، ومثابة البر والتقوى فهي لقلوب الطيبين صفا ومروة، مقام سيد العالمين طرا، وهاديهم عبدا وحرا، ومنقذهم من أشراك الهلاك وقد طالما ألفوا العيش ضنكا والدهر مرا، ومقر الأنوار المحمدية، والبركات السرمدية، أمتع الله تعالى الإسلام والمسلمين بحراسة أضوائها، وكلاءة ظلالها العلية وأفيائها، وأقر عين عبدها بلثم ثراها، والانخراط في سلك من يراها.
السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا أحمد، السلام عليك يا أبا القاسم، سلام من يمد إليك يد الغريق، ويرجو الإنقاذ ببركتك من نكد المضيق، ويتقطع أسفا ويتنفس صعدا كلما ازدلف إليك فريق، وعمرت نحوك طريق، ولا يفتر صلاة عليك له لسان ولا يجف ريق.
كتبته يا رسول الله وقد رحل المجدون وأقمت، واستقام المستعدون وما استقمت، وبيني وبين لثم ثراك النبوي، ولمح سناك المحمدي، مفاوز لا يفوز بقطعها إلا من طهر دنس ثوبه، بماء توبه، وستر وصم عيبه، بظهر غيبه، فكلما رمت المتاب رددت، وكلما يممت الباب صددت، وقد أمرنا الله تعالى بالمجيء إليك، والوفادة عليك، ومن لي بذلك يا رسول الله والآثام تنئي وتبعد، والأيام لا تدني ولا تسعد، وبين جنبي أشواق لا يزال يهزني منها المقيم المقعد، ولئن كنت ممن خلفته عيوبه، وأوبقته ذنوبه، ولم يرض للوفادة وهو مدنس، على ذلك المقام وهو المطهر المقدس، فعندي من صدق محبتك، وحب صحبتك، والاعتلاق بذمتك، ما يقدمني وإن كنت مبطئا، ويقربني وإن كنت مخطئا.
فاشفع لي يا رسول الله في زيارتك فهي أفضل المنى، وتوسل لي إلى مولى بين فضيلتك، وتقبل وسيلتك، في النقلة من هناك إلى هنا، واقبلني وإن كنت زائفا، وأقبل علي وإن أصبحت إلى الإثم متجانفا، فأنت عماد أمتك جميعا وأشتاتا، وشفيعهم أحياء وأمواتا. ومن نأت به الدار، وقعدت بعزمه الأقدار، ثم زار خطه ولفظه، فقد عظم نصيبه من الخير وحظه، وإن لم أكن سابقا فعسى أن أكون مصليا، وإن لم أعد مقبلا فلعلي أعد موليا، ووحقك وهو الحق الأكيد، والقسم الذي يبلغ به المقسم ما يريد، ما وخدت إليك ركاب، إلا وللقلب إثرها التهاب، وللدمع بعدها سح وانسكاب، ويا ليتني ممن يزورك معها ولو على الوجننتين، ويحييك بين ركبها ولو على المقلتين، وما الغنى دونك إلا بؤس وإقلال، ولا الدنيا وإن طالت إلا سجون وأغلال، والله تعالى يمن على كتابي بالوصول والقبول، وعلي بلحاقي ببركتك ولو بعد طول.
ثم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته عليك يا سيد الخلق، وأقربهم من الحق، ولمولاه بإحراز قصب السبق، ومن طهر الله تعالى مثواه وقدسه، وبناه على التقوى والرضوان وأسسه، وآتاه من كل فضل نبوي أعلاه وأسناه وأنفسه، وعلى ضجيعيك السابقين لمهاجريك وأنصارك، الفائزين بصحبتك العلية وجوارك، وعلى أهل بيتك المطهرين أوائل وأواخر، الشهيرين مناقب ومفاخر، وصحابتك الذين عزروك ووقروك، وآووك ونصروك، وقدموك على الأنفس والأموال والأهل وآثروك، وأقرئك سلاما تنال بركته من مضى من أمتك وغبر، ويخص بفضل الله تعالى وجاهك من كتب وسطر، إن شاء الله تعالى.
كتبه عبدك المستمسك بعروتك الوثقى، اللائذ بحرمك الأمنع الأوقى، المتأخر جسما المتقدم نطقا، فلان، والسلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا ورحمة الله تعالى وبركاته "[11].
هذه الرسائل الثلاثة وغيرهما مما ساق نصوصها العلماء في كتبهم، إنما هي دلالة على تعلق علماء المغرب والأندلس في القديم بالديار المقدسة، وشوقهم إلى تلك البقاع، وحبهم لله وتعلقهم بالجناب النبوي الشريف، ونجد هذا التعلق ممتد إلى عصرنا هذا.
*******************
هوامش المقال:
[1]) أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض 4 /20.
[2]) انظر ترجمته في: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ق3، م2 /786_809، الإحاطة في أخبار غرناطة 2/ 388_418، أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض 5/ 156_173.
[3]) أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض 4/ 20.
[4]) الفهرسة ص: 513.
[5]) الرسالة منشورة ضمن رسائل ابن أبي الخصال ص: 362_370، وانظر: أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقري 4/ 21_29.
[6]) انظر ترجمته في: التعريف بالقاضي عياض لابنه محمد بن عياض، وأزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقري.
[7]) سير أعلام النبلاء 20/ 214.
[8]) مسالك الحنفا إلى مشارع الصلاة على المصطفى للقسطلاني ص: 349_353، وأزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقري 4/14_20، والرسالة منشورة في آخر كتاب: الدرة الضوية في الأحكام السنية والأحوال الرضية في هجرة خير البرية ص: 165 فما بعدها.
[9]) انظر ترجمته في: عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية ص: 349_351، الإحاطة في أخبار غرناطة 2/348_359، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري 7 /424_502.
[10]) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري 7 /431.
[11]) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري 7 /424-426.
*****************
جريدة المراجع
الإحاطة في أخبار غرناطة لمحمد بن عبد الله بن سعيد ابن الخطيب الغرناطي، تحقيق: محمد عبد الله بن عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة- مصر، الطبعة الثانية: 1393/ 1973.
أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض لأحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى المقري التلمساني، تحقيق (ج4): سعيد أعراب، محمد بن تاويت، صندوق إحياء التراث الإسلامي، المشترك بين المملكة المغربية، والإمارات العربية المتحدة، (د-ت).
التعريف بالقاضي عياض لمحمد بن عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، تحقيق: محمد بن شريفة، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة فضالة، المحمدية- المغرب، الطبعة الثانية: 1982.
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لعلي بن بسام الشنتريني، تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت- لبنان، 1417 /1994.
رسائل ابن أبي الخصال، تحقيق: محمد رضوان الداية، دار الفكر، دمشق- سوريا، الطبعة الأولى: 1408/ 1988.
سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد بن عثمان. الذهبي، تحقيق: جماعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، ، الطبعة الثانية عشر: 1435 /2014.
عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية لأحمد بن أحمد بن عبد الله الغبريني، تحقيق: عادل نويهض، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت- المغرب، الطبعة الثانية: 1979.
فهرسة محمد بن خير بن عمر بن خليفة الإشبيلي، تحقيق: بشار عواد معروف، محمود بشار عواد، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الأولى: 2009.
مسالك الحنفا إلى مشارع الصلاة على المصطفى لأحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني، تحقيق: بسام محمد بارود، إصدارات المجمع الثقافي، أبو ظبي- الإمارات العربية المتحدة، 1420 /2000.
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب لأحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت – لبنان، 1408 /1988.