مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

تمحيض باب الريان لأهل الصيام

بسم الله الرحمن الرحيم

من بدهي معلوم الديانة أن الصوم لا عدل له، وأن جزاءه لا خطر له، عبادة استأثر الله بإضافتها لنفسه، وأعان عليها من وفقهم بفضله، فيسر لهم سبيل الإكثار منها، والاجتهاد في فرضها ونفلها، لإخراجها على الهيئة المرضية، ومحض لهم بابا تفردوا بهم يدعى الريان.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ ‌بَابِ ‌الرَّيَّانِ "، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ. فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»[1].

وللبخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ."[2]

ولابن ماجة عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنْ الصَّائِمِينَ دَخَلَهُ، وَمَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا"[3].

"قال الزين ابن المنير -رحمه اللَّه تعالى-: إنما قال: "في الجنّة"، ولم يقل: "للجنة" ليشعر بأن في الباب المذكور من النعيم والراحة ما في الجنة، فيكون أبلغ في التشوّق إليه"[4].

و مما يستوقف الناظر في ألفاظ الحديث وجه المخالفة بين فعل الصيام وبابه المعد لأهله، إذ كل باب سمي باسم عمله، إلا ما كان من باب  الصيام فإنه سمي باب الريان، ساق ابن بطال في تعليل ذلك قول المهلب فقال: "إنما أفرد للصائمين هذا الباب ليسارعوا إلى الري من عطش الصيام في الدنيا؛ إكرامًا لهم واختصاصًا، وليكون دخولهم في الجنة هينًا غير متزاحم عليهم عند أبوابها، كما خص النبي أبا بكر الصديق بباب فى المسجد يقرب منه خروجه إلى الصلاة ولا يزاحمه أحد، وأغلق سائرها إكراما له وتفضيلاً"[5].

ومن التأويلات اللطيفة في الباب أن الريان فعلان من الري، في مقابل العطشان، فروعيت المناسبة بين العمل وجزائه، ذلك أن الصائم المكثر من هذه الشعيرة يكون قد ارتوى من الفيوضات الرحمانية التي يغدقها سبحانه وتعالى على أهل هذه العبادة،فيكونوا قد ارتووا من التقوى، ومراقبة الله سبحانه، وشهود منزلة الشفوف التي صفت بها نفوسهم، وتزكت قلوبهم، وطهرت سرائرهم، وعرجت فيها أرواحهم إلى حيث القدس.. فناسب مجموع ذلك أن يفرد لهم باب هو من جنس ما جاءوا به ربهم، باب الريان الذي يفيض ريا وامتلاء بموعودهم في دار المقامة...

  ومعنى قوله: "زوجين" أي شيئين، كدينارين أو ثوبين، وشبه ذلك، فالمراد بالزوجين إنفاق شيئين، من أيّ صنف من أصناف المال، من نوع واحد، قال ابن بطال: "إن كان صاحب خيل ففرسين، وإن كان صاحب إبل فبعيرين، وإن كان صاحب بقر فبقرتين ، حتى عد أصناف المال، قال  والحجة لذلك ما رواه حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، وحميد، عن الحسن، عن صعصعة بن معاوية، عن أبى ذر، أن النبي عليه السلام، قال: "مَنْ أنفقَ زوجينِ من ماله ابْتَدرتْه حَجَبةُ الجنة ، ثم قال: بعيرين، شاتين، حمارين، درهمين ، قال حماد: أحسبه قال: "خفين".

فإن قال قائل: إن النفقة إنما تسوغ فى باب الجهاد وباب الصدقة، فكيف تكون فى باب الصلاة والصيام؟ وإنما نجد الفعل في هذا الباب نفقة الجسم لا غير؟. فالجواب: أن نفقة المال مقترنة بنفقة الجسم فى ذلك، لأنه لابد للمصلي والصائم من قوت يقيم رمقه، وثوب يستره، وذلك من فروض الصلاة، ويستعين بذلك على طاعة الله تعالى، فقد صار منفقًا لزوجين: لنفسه وماله، قال رحمه الله: والعرب تسمى ما يبذله الإنسان من نفسه واجتهاده نفقة، فيقول أحدهم فيما تعلَّم من العلم أو صنعة: أنفقت في هذا عمرى، وبذلت فيه نفسي"[6] والناس صنوف في الأعمال، فمنهم من يفتح الله عليه في طاعة ولا تنشط جوارحه لأخرى.

 "فمن كان من أهلِ الصلاةِ" أي من كان الغالب من أعماله الصلاة النافلة، وهكذا في الجهاد، وما بعده و لعل هذا ما استحضره "مالكٌ بن أنس العمري لما أجاب العابدَ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وكان قد كتب إليه  يحضه على الانفراد والعمل وترك مجالسة الناس في العلم وغيره، فكتب إليه مالك: إن الله تعالى قسم بين عباده الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح الله له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام وقد علمت أن نشر العلم وتعليمه من أفضل الأعمال، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه وقسم لي منه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه من العبادة، وكلانا على خير إن شاء الله"[7].

وقوله: "هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم"، يريد أن من كان من أهل الصلاة والجهاد والصيام والصدقة أنه يدعى منها كلها، فلا ضرورة عليه في دخوله من أي باب شاء، لاستحالة دخوله منها كلها معا، ولا يصح دخوله إلا من باب واحد، ونداؤه منها إنما هو على سبيل الإكرام والتخيير له فى الدخول من أيها شاء.

"قال ابن سيد الناس: الذي ذكره العلماء في فتح أبواب الجنة والدعاء منها ما فيه من التشريف في الموقف والإشادة بذكر مَن حصل له ذلك على رؤس الأشهاد، فليس مَن يؤذن له في الدخول من باب لا يتعداه كمن يُتَلَقَّى من كل باب، ويدخل من حيث شاء، هذا فائدة التعدد في فتح أبواب الجنة"[8]

وذكروا أن في الجنة أبوابا غير ما ذكر في الحديث، وقد صح الأثر أن فيها أبوابا ثمانية، وإن كان مفهوم العدد عندهم لا يفيد حصرا، ولا يصح في الاحتجاج، قال في المجتبى: "في هذا الحديث ذكر أربعة أبواب من أبواب الجنّة، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبواب الجنّة ثمانية، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: وبقي من الأركان الحج، فله باب بلا شك، وأما الثلاثة الأخرى: فمنها: باب الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس. رواه أحمد بن حنبل، عن روح بن عُبادة، عن أشعث، عن الحسن، مرسلاً: "إن للَّه بابًا في الجنّة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة"، ومنها: الباب الأيمن، وهو باب المتوكّلين، الذي يدخل منه من لا حساب عليه، ولا عذاب، وأما الثالث، فلعله باب الذكر، فإن عند الترمذي ما يومئ إليه، ويحتمل أن يكون باب العلم، واللَّه أعلم، ويحتمل أن يكون بالأبواب التي يُدعى منها أبوابٌ من داخل أبواب الجنّة الأصليّة؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عددًا من ثمانية. واللَّه أعلم"[9].

وإنما القصد هنا إظهار مزية الصيام، و تبريز ما خُصَّ به أهله من كرامة، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن صام هذا الشهر فاتقى، وطهرت فيه نفسه فارتقى.

[1] رواه مالك في الموطإ، باب ما جاء في الخيل والمسابقة بينها، والنفقة في الغزو، رقم:49. وأحمد في المسند حديث أبي هريرة، رقم، 7633، والبخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب الريان، رقم: 1897، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، رقم: 1027.

[2] كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، رقم:1777

[3] سنن ابن ماجة، أبواب الصيام، باب ما جاء في الصيام وفضله، رقم: 1638.

[4] ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، لمحمد بن علي بن آدم الإثيوبي، 21/107.

[5] شرح ابن بطال: 4/15.

[6] شرح ابن بطال، 4/16.

[7] الاستذكار لابن عبد البر، 5/146.

[8] ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، 3/391.

[9]  نفسه،  21/112

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق