تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(10)

ووجدت منقولا من خط سيدي عبد القادر الفاسي على هذا المحل ما نصه: في كتاب الأجوبة المرضية [عن أئمة] الفقهاء والصوفية للشيخ الشعراني ما نصه: "سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: من كمال العبد أن يعبد ربا منزها عن كل ما يخطر بالبال، فتكون عبادته على الغيبية لا على الحضور مع كنه الذات؛ فإن ذلك محال، ومن هنا قال المحققون في معنى حديث: (اعبد الله كأنك تراه)[1]، أنها حالة دون حالة عِلمِ العبد بأن الله تعالى يراه، وأن عبادة العبد ربه بأنه يرى ربه من درجات التعليم التي يرتقي منها إلى درجات الكمال، وهو أن يعبد العبد ربَّه على الغيب، وينزهه عن ما قام في تخيله من الأشكال، فيبقى العبد مع نظر ربه المحقَّق إليه لا مع نظره هو إلى ربه بحكم الوهم، وهنا أسرار يذوقها أهل الله تعالى لا تُسَطَّر في كتاب". انتهى. وانظر شفاء السائل لابن خلدون. انتهى.
والحاصل أن المشاهدة لا إحاطة فيها، فصار الإيمان بما هو [غيب] أبلغ من المشاهدة، فالمُفوِّض يلاحظ كل شيء قوةً، والآخر يلاحظ البعض فعلا، والله أعلم.
وقد استفيد من الخلاف في المقلد الخلاف في المعرفة، هل هي واجبة على الأعيان أو لا؟ وعلى الوجوب هل هي واجبة وجوب الفروع فيأثم تاركها أو وجوب الأصول فيكفر تاركها؟ وقد أشار ابن زكري إلى سبب الخلاف في الاكتفاء بالتقليد وعدمه، وأن كل من قال بقول ادعى الإجماع على نقيض ما ادعاه مخالفه، فقال:
فصل وقد وجب بالإجماع معرفة الله بلا نزاع
وفي وجوبها على الأعيان أو الكفاية لهم قولان
لا يكتفي الأول بالتقليد ويكتفي الثاني بلا ترديد
كلٌّ حكى الإجماع في نقض ما قد ادعاه خصمه مُلتزما
وقول الناظم: "على من كُلفا"؛ هو كقول الصغرى: "على كل مكلف"، وهو محتمل الوجوب العين أو الكفاية بناء على القول بأن المخاطب بفرض الكفاية الكل لا البعض، فيؤخذ منه القول بأن المقلد مؤمن غير عاص، لكن المتبادر منه القول بوجوبها على الأعيان، وبه شرح الشيخ زروق قول القرطبية:
اعلم بأن أول الوجوب أن تعرف الرب من المربوب
ونصه: "قلت: نص كلامه على أن أول الواجبات: المعرفة، وذلك فرع القول بوجوبها على الأعيان، وذلك أمر مختلف فيه، فذهب قوم إلى وجوب المعرفة على الأعيان، وذهب قوم إلى عدم وجوبها وأنه يكتفى بالتقليد في أصول التوحيد، وادعى كل منهما الإجماع على قوله". انتهى. وفي المراصد:
وقال من قد جوز التقليدا وما رأى في شأنه تفنيدا
أول واجب هو الإقرار بالحق مع جزم له إضمار
أنظر تمام كلامه.
وأما قول ابن عرفة: وفي وجوب المعرفة على الأعيان بالدليل إلخ، فحاصله والله أعلم أنه اختلف في المعرفة بالدليل التفصيلي هل هي مندوب إليها فقط، أو واجبة، والقائلون بالوجوب منهم من يقول: لا قائل بالوجوب على الأعيان وإنما هو كفاية كالفهري، ومنهم من يقول: في وجوبها به على الأعيان أو الكفاية قولان، فيتحصل أنه اختلف في جواز التقليد، فقيل: لا يجوز بل يجب النظر، لكن المعتبر النظر على طريق العامة كما أجاب الأعرابي للأصمعي عن سؤاله: بما عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام تدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير.
أما النظر على طريق المتكلمين من تجريد الأدلة وتدقيقها ودفع الشكوك والشبه عنها فهو فرض كفاية على المتأهلين له، أما غيرهم ممن يُخشى عليهم من الخوض فيه الوقوع في الشبه فليس له الخوض فيه، وهذا محلُّ نهْي الشافعي وغيره من السلف عن الاشتغال بعلم الكلام، فإن تَرَك النظر ولو على طريق العامة كان مومنا آثما بترك النظر، لكن [لو] كان اعتقادا جازما لا وَهم معه وإلا فلا يصح كما حققه في جمع الجوامع، وحُمل عليه ما نُقل عن الأشعري من عدم صحة إيمان المقلد.
فالكلام في المقلد الذي يُحْسِن العقائد وليس الكلام فيمن ليس كذلك من العامة الذين يعتنون بحضور مجالس العلماء ومخالطة أهل الخير، فإنهم يعتقدون التجسيم والجهة، وتأثير الطبيعة، وكونَ فعل الله لعوض، وكونَ كلامه جل وعلا حرفا وصوتا، ومرة يتكلم ومرة يسكت كسائر البشر، ونحو ذلك من اعتقادات أهل الباطل، وبعضُ اعتقاداتهم أجمع العلماء على كفر مُعتقِدها، وبعضها اختلفوا فيه، وكثيرٌ من أهل البادية يُنكر البعث، وبعضهم ينطق بكلمتي الشهادة من غير أن يعرف معناها ولا أن يميز الرسول من المُرسِل، وفي مثله وقعت أجوبة علماء بجاية وغيرهم من المحققين أن مثل هذا لا يُضرب له في الإسلام نصيب. ويأتي كلام السنوسي وغيره في ذلك عند قول الناظم: "وقول لا إله إلا الله"، وقد تقدم قولُ الإحياء أن من اعتقد في ذات الله وصفاته، فراجعه.
ولما رأى علماء السنة رضي الله عنهم أن أكثر العامة لا تحسن العقائد ولو بالتقليد، أَلَّفوا تواليف مختصرة اقتصروا فيها على سرد العقائد مجردة عن الأدلة؛ لتحفظها العامة ومن قَصُر عقله عن النظر خوف أن يكونوا على اعتقاد مجمع فيه على الكفر، ولعلها تكون سُلَّما إلى المعرفة، والله أعلم.
الهوامش:
[1]- جزء من حديث في مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، باب ما ذكر عن نبينا صلى الله عليه وسلم في الزهد، رقم: 35466. وباب ما قالوا في البكاء من خشية الله، رقم: 36847. وجزء من حديث في السنن الكبرى للنسائي، كتاب الرقائق، رقم: 11803.