باب في نعت طبقات أصحاب الحديث ورسمهم في النقل ومعرفة الحديث، وتخصيصهم بعلمه.

قال الشيخ أبو نصر السراج الطوسي في كتابه اللمع[1]:
قال الشيخ رحمه الله: فأما أصحاب الحديث فإنهم تعلقوا بظاهر حديث رسول الله ﷺ، وقالوا: هذا أساس الدين لأن الله تعالى يقول:﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾[2] فلما خوطبوا بذلك جولوا البلاد، وطلبوا رُواة الحديث، فلزموهم حتى نقلوا عنهم أخبار رسول الله ﷺ، وجمعوا ما رُوي عن الصحابة والتابعين، وضبطوا ما وصل إليهم من سيرهم وآثارهم ومذاهبهم واختلافهم في أحكامهم وأقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم وأحوالهم، وصححوا رواياتهم بسماع الأذن وحفظ القلب والضبط من أصول الثقات عن الثقات العدول عن العدول، فأتقنوا ذلك، وعرفوا أماكن الرواة في النقل والضبط، ودونوا أسماءهم وكناهم وموالدهم ووفاتهم، وأرخوا ذلك حتى عرفوا أن كل رجل من هؤلاء كم من حديث رواه؟ وعمن رواه؟ وعمن نقل إليه؟ ومن أخطأ منهم في النقل؟ ومن غلط منهم في زيادة حرف أو نقصان لفظة، ومن تعمد منهم في ذلك، ومن سومح له بغلطة أو هفوة، حتى عرفوا أسماء المتهمين منهم بالكذب على رسول الله ﷺ، وعرفوا من تصح عنه الرواية ومن لا تصح، ومن انفرد منهم بحديث لا يرويه غيره، أو انفرد بلفظة ليست عند غيره، فحفظوا أن كل حديث من ذلك كم من نفس رواه؟ وما العلة في ناقله؟ حتى جمعوا الأبواب، وبوبوا السنن، وميزوا ما يدخل في الصحيح وما يختلف في صحته، وما كان في رواية المقلين والمُكثرين، وفهموا أحاديث أئمة الأمصار، وطبقات الرواة: التابع من المتبوع، والكبير من الصغير، وأحاط علمهم بعلل اختلاف الرواة، وزياداتهم ونقصانهم، وأماكنهم، في رواية السنن والآثار، إذ كان ذلك أساس الدين.
وهم في ذلك متفاضلون حتى يستحق أحدهم بزيادة علمه وإتقانه وحفضه قبول الشهادة على العلماء في العدل والتجريح، والرد والقبول، وتكون شهادته مقبولة على رسول الله ﷺ فيما قال وفعل وأمر ونهى وندب ودعا؛ قال الله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾[3]، أي عدولا ﴿لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾[4]، يقال: إنهم أصحاب الحديث: يشهدون على رسول الله ﷺ، وعلى الصحابة والتابعين فيما قالوا وفعلوا ويكون الرسول عليكم شهيدا فيما شهدوا عليه من أفعاله وأقواله وأحواله وأخلاقه، قال النبي ﷺ:((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار))[5]، وقال النبي ﷺ((: نضر الله وجه امرئ سمع مني حديثا فبلغه.. )) [6] الحديث. يقال: إنه لا يكون واحد من أصحاب الحديث إلا وفي وجهه نضرة لموضع دعاء رسول الله ﷺ.
ولأصحاب الحديث في معاني علومهم ورسومهم مصنفات ولهم أئمة مشهورون كل منهم قد أجمع أهل عصره على إمامته، لفضل علمه وزيادة عقله وفهمه ودينه وأمانته؛ وشرح ذلك يطول، وفيما ذكرت كفاية لمن علم وبالله التوفيق.
كتاب اللمع لأبي نصر السراج الطوسي تحقيق عبد الحليم محمود طه عبد الباقي سرور طبعة 1423هـ 2002م
مكتبة الثقافة الدينية
الهوامش:
[1]- كتاب اللمع: لأبي نصر السراج الطوسي - ت 378هـ ص 24 تحقيق عبدالحليم محمود طه عبدالباقي سرور طبعة 1423هـ 2002م مكتبة الثقافة الدينية.
[2]-[الحشر: 7]
[3]-البقرة: [134]
[4]-[البقرة:134]
[5]-: الحديث اخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم، باب: إثم من كذب على النبي ﷺ، ومسلم في المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله ﷺ، من حديث أبي هريرة.
[6]-: أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب: فضل نشر العلم، والترمذي في كتاب العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وابن ماجة في المقدمة، باب: من بلغ علما، من حديث زيد بن ثابت.