مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

انفرادات القراء: مدارسة وتوجيه(1)

قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتاب التهذيب: «قرأ ـ يعني الإمام نافعا ـ في البقرة [58] ﴿يغفر لكم﴾ بالياء مضمومة وفتح الفاء»([1]).

يشير رحمه الله إلى قوله سبحانه:﴿وَإِذْ قُلْنَا اَ۟دْخُلُواْ هَٰذِهِ اِ۬لْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداٗ وَادْخُلُواْ اُ۬لْبَابَ سُجَّداٗ وَقُولُواْ حِطَّةٞ يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْۖ وَسَنَزِيدُ اُ۬لْمُحْسِنِينَۖ ٥٧﴾

وهو أول انفراد في تهذيب الحافظ أبي عمرو الداني للإمام نافع براوييه قالون وورش،  ومحله التذكير في ﴿ يُغْفَرْ ﴾، أما ضم حرف المضارعة وفتح الفاء فلا انفراد فيه؛ لموافقة  الشامي إياه، فهو استطراد من الحافظ وزيادة بيان، ولو قيل: «قرأ نافع ﴿يغفر﴾ بالتذكير» لوفى بشرطه، لكنه بحاجة إلى شرح وبيان، فتفضل رحمه الله بعد الوفاء بشرطه بمزيد بيان؛ ولذلك قال الشاطبي رحمه الله في الحرز:

«وذكر هنا أصلا..»

وحاصل ما فيها للسبعة ثلاث قراءات وهو ما يسره في التيسير بقوله: «نافع: ﴿يغفر لكم﴾ بالياء مضمومة وفتح الفاء، وابن عامر بالتاء، والباقون بالنون مفتوحة وكسر الفاء»([2])

ووجه قراءة التذكير ـ بعد الرواية والاتباع ـ جملة أمور يعضد بعضها بعضا 

أولها الأصالة؛ إذ التذكير أصل، والتأنيث فرع تابع له وداخل فيه، ولهذا أشار الشاطبي بقوله «وذكر هنا أصلا»، قال الفاسي في اللآلئ: «ويقوي التذكير أنه الأصل، وإلى ذلك أشار بقوله: «وذكر هنا أصلا..» وقال مكي في الكشف: «لأن التذكير هو الأصل، والتأنيث داخل عليه أبدا»([3])

ويؤيده قول الشاطبي في المقاصد منكتا على قول ابن مالك في شأن تاء التأنيث :

والحذف مع فصل بـ«إلا» فضلا

بالقول: «إنه مشاحة لفظية، وذلك أن لفظ «الحذف» إنما يستعمل عرفا فيما كان ثابتا ثم حذف، وهذه التاء لم تكن في الأصل ثابتة ثم حذفت، بل الأصل القياسي عدم لحاقها الفعل، ألا ترى أنها لا تلحق مع المذكر؛ لأنه أصل، فيعرض لحاقها إذا عرض إسناد الفعل إلى المؤنث، وكان ذلك هو الموجب للحاق، وأما عدم اللحاق فرجوع إلى الأصل، فكيف يعبر عنه بـ«الحذف»، وأحسن من لفظ «الحذف» «ترك التاء» كما قال قبل:

وقد يبيح الفصل ترك التاء اهـ([4])

وهو تنكيت عاضد لما نحن بسبيله، ولا يضيره جواب الشاطبي عنه، ولا كونه في تاء التأنيث.

والثاني الأثر على ضعفه، فهو يزيد الأصالة تأييدا؛ فقد روي عن ابن مسعود وابن عباس قالا: «إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء». وعن أبي عبيد عن ابن مسعود: «ذكروا القرءان، وإذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء»([5])

والثالث الكثرة، وهي معتبرة شرعا، وقرينة قوية عقلا، ولهذا راجح بها العلماء في قضايا التعارض، وصير إليها في مسائل الاختيار فقها وأصولا وحديثا ولغة، وكذلك هـهنا؛ فإنه أكثر ما جاء في القرءان من هذا النوع أتى مذكرا بإجماع من القراء، قال الله عز وجل:﴿قد كان لكم ءاية﴾ [آل عمران:13] وقال: ﴿قد جاءكم بينة﴾ [الأنعام:153]، ﴿وأخذ الذين ظلموا الصيحة﴾ [هود67]، وقال: ﴿لولا أن تداركه﴾ [القلم49]، وهو كثير..» ([6]) 

والرابع القياس على محل الإجماع، فقد أجمع القراء على  تذكير قوله سبحانه:﴿ وقال نسوة﴾ [يوسف:30]  وقوله: ﴿وإن كان طائفة﴾ [الأعراف:87] وهو كما ترى بلا فصل، فمسألتنا أولى بذلك على ما سيأتي.

والخامس أنه إذا جاز عربية التذكير مع الظاهر الحقيقي التأنيث بلا فصل؛ لقول ابن مالك في تاء التأنيث صنو مسألتنا:

والحذف قد يأتي بلا فصل

قال سيبويه: «وقال بعض العرب: قال فُلانةُ»، فأحرى مع الفصل، قال سيبويه: «وكلما طال الكلام فهو أحسنُ، نحو قولك: حضر القاضي امرأةٌ؛ لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل، وكأنه شيءٌ يصير بدلا من شيء..» ([7]) وهو ما انتزعه الشيخ مكي فقال: «إنه لما فرق بين المؤنث وفعله، قام التفريق مقام التأنيث، وحسن التذكير»([8]): فإذا حسن في الحقيقي مع الفصل فهو أحسن وأجمل مع التأنيث المجازي، وجمع التكسير مطلقا.

فهذا وجه اختيار نافع رحمه الله، وسياق الآية له ظهير؛ لأن التذكير يلمح الفاعل الأصلي الذي ناب منابه ﴿خَطَٰيَٰكُمْۖ ﴾ وهو الفاعل المختار سبحانه جل جلاله، فهو الغفار للذنوب، الحاط للأوزار،  والستير للخطايا، فتذكير الفعل أحظى، والكل نقل مأثور، وسنة متبعة، ورواية متقبلة.

إضافة: وافقه من العشرة شيخه أبو جعفر، ومن الشاذ قتادة والحسن وأبو حيوة رحمهم الله([9]).

فائدة: قال الطبري رحمه الله: «فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات، موسعا عليكم بغير حساب، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه، ونحط أوزاره عنه، وسنزيد المحسنين منكم إلى إحساننا السالف عنده إحسانا»([10]).

 

([1])  التهذيب لما تفرد به كل واحد من القراء السبعة:25

([2])  التيسير:279 شغدلي

([3])  الكشف:1/238 تح رمضان. الرسالة العالمية

([4])  المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية:2/576.

([5])  الكشف لمكي:1/238

([6])  الكشف لمكي:1/239

([7])  الكتاب:2/38

([8])  الكشف لمكي:1/238

([9])  ن البدور الزاهرة للشيخ عبد الفتاح القاضي:1/32، ومعجم القراءات للخطيب:1/106

([10])  جامع البيان عن تأويل آي القرءان:1/722 تح التركي. دار هجر

Science

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق