
"الإبستيمولوجيا" أو "نظرية المعرفة" مصطلح إشكالي مختلف فيه، ابتداء من تعريفه ومرورا بتحديد ميدانه وموضوعه وغايته، وانتهاء بعلاقته الملتبسة أو المتداخلة مع فلسفات العلوم. إن اختلاط وتداخل مفهوم "نظرية المعرفة" مع غيره من الحقول المعرفية وتراوح مدلولات المصطلح سعة وضيقا بين لغة وأخرى، وتباين وجهات النظر في تحديد موضوعاته يعد مؤشراً على عدم وضوحه الكافي، وحاجته الدائمة إلى تحديدات إضافية. ومرد ذلك أن البحث في المعرفة ومنهجها والعلوم المتصلة بها، يعدّ بحثا جنينيا نسبيا. إذا ما قورن بعلوم ومعارف أخرى كالفلسفة والمنطق...
ثم ما لبثت نظرية المعرفة أن اتخذت وضعا جديدا يتفق واستقلالها بموضوعها الخاص، واهتمت بمسائل جديدة؛ مثل العلاقة بين الذات العارفة والموضوع المعروف، وبين العقل والشيء الخارجي، وأثر كل منها في عملية الإدراك، وكذلك العلاقة بين الماهية والوجود، والنظر في حدود المعرفة الإنسانية، وأهمية الأدوات التي تحصل بها المعرفة، كالحواس والعقل والحدس والذوق، ومن ثم كانت أبحاث نظرية المعرفة الرئيسة تتمثل في:إمكان المعرفة؛ أي البحث في مدى قدرة الإنسان على تحصيل المعرفة،ومصادر المعرفة المتمثلة في الحواس والعقل والوحي والعلاقات القائمة فيما بينها؛وطبيعة المعرفة التي تقوم أبحاثها على بيان طبيعة العلاقة بين الذات العارفة والشيء المعروف وقيمة المعرفة؛ ووظائفها وحدودها.
وبالرغم من أن مفهوم المعرفة يمتد ويتشعب في مختلف حقول وأنساق الكسب البشري من فلسفة وعلوم اجتماعية وإنسانية وطبيعية وأديان وفنون وجماليات، فإن الدارس يلحظ المكانة المركزية التي تحتلها القيم، ويحتلها الدين، في نظرية المعرفة ومناهج بنائها لحاجة الإنسان الدائمة إليهما، وللنزاع والاختلاف الدائر فيهما وحولهما.
وفي ظل التغيرات التي يعرفها المجتمع المعاصر، وسيولة المعلومات التي تؤثث حياتنا فوق هذا الكوكب، تطالعنا المادة التحليلية بهيمنة نموذج الفصل بين القيم والدين والمعرفة لأسباب ترتبط بالنموذج الحداثي الذي قام على مبدأ عزل القيم والأخلاق عن العلوم والمعارف، مما أورث علوما مأزومة إبستيمولوجيا. الأمر الذي بات يقتضي تجديد منهج النظر في الصلة الممزقة بين القيم والمعرفة. خصوصا وأن السند الديني في بناء المعرفة، في صفته التوحيدية الخاتمة، قد أثبت أنه قادر على تجاوز القطيعة بين المرجعيتين الدينية والعقلية، وعلى استيعاب المنظور الصراعي والتقابلي في نسق تكاملي تعارفي. وفي جملة على اقتراح منظورات معرفية ومنهجية بديلة للعلوم والقيم في اتجاه نزع فتيل الخصومة والصراع الناشئين من سوء التداول التاريخي.
ولقد رصدت في فكرنا الإسلامي المعاصر لهذا الموضوع كتابات على قدر كبير جدا من الأهمية والجدة، بيد أنها لم تنل حظها من العناية، وذلك بسبب عدم احتلال موضوع المعرفة ومناهجها وعلاقتها بالعلوم والصياغات النظرية المتجددة، محلها المطلوب في مدونات ومقررات البحث ولدى كثير من الباحثين.
وسيكون من جملة أهداف هذه المقالة الإسهام في التعريف بمحاولة، نحسبها رائدة في التأسيس لنظرية معرفية توحيدية. وهي محاولة طه جابر العلواني. أما الهدف الرئيسي فعلاوة على أنه يخدم نفس القضية فهو أكثر طموحا: إن التحليل الذي قدمه العلواني في متنه الفكري عن المعرفة وأنواعها، والعلوم وأصنافها، ينطوي في نظرنا على ابستيمولوجيا كاملة، بالمعنى الحديث للكلمة بوصفها نظرية في العلوم، وبعبارة أوضح بوصفها: "دراسة نقدية لمبادئ العلوم وفروضها ونتائجها وأصنافها لبيان أسسها المنطقية وحصيلتها الموضوعية"[1].
إن الخطاب الإبستيمولوجي للعلواني منظورا إليه من هذه الزواية سيكون بالضرورة خطابا يسعى من خلاله إلى التأسيس لنظرية معرفية توحيدية، قادرة على إعادة الاعتبار للإنسان باعتباره إنسانا، وإنقاذه بإخراجه من حياة الاغتراب واللامعنى إلى حياة الغائية والقصدية.
أولا: الوعي الإبستيمولوجي في المتن الفكري لطه جابر العلواني
أود في بداية هذه المقالة الحديث عن جانب مهم في فكر طه جابر العلواني، إنه الجانب المتعلق بآرائه في العلوم والمعرفة، وهو جانب يكتسي عنده أهمية كبيرة.حيث إن آراء العلواني في العلوم والمعرفة وأصنافها، لم تكن مجرد استطرادات ولا مجرد أفكار جاءت نتيجة تداعي المعاني، بل إنها جزء لا يتجزأ من مشروع العلواني ككل يكتسي من الأهمية داخل مشروعه مثل ما يكتسيه أي جانب آخر منه، كنظرياته في الاجتهاد والتجديد الأصولي والفقهي، أو موقفه من الدراسات القرآنية كالنسخ والمحكم والمتشابه ولسان القرآن والوحدة البنائية...
ومما يدل على الوعي الإبستيمولوجي للعلواني؛ تأسيس مقاربته لإشكالية المنهجية المعرفية بنقده للنظريات المعرفية السائدة في الحضارة المعاصرة، معتبرا أن المنهاج العلمي لحياة البشر أو الذي كرست الحضارة الأوربية تطبيقه حياتيا، قد أدى ويؤدي وسيؤدي إلى نتائج وخيمة؛ أقلها انسحاق الإنسان في عالم الأشياء وارتباطه بالجبرية المادية. وتحوله إلى كائن بلا تاريخ وبلا حاضر وبلا مستقبل، كائنا مستلبا ومنفعلا.
ويحتل هذا الاستنتاج أو بالأحرى التفكير النظري النقدي حول المعرفة مكانة مركزية ضمن المتن الفكري لطه جابر العلواني. إذ يؤكد، في مناسبات عدة، أن الحضارة الغربية لازالت أسيرة التقدم التكنولوجي، وهي، نتيجة ذلك، "تعاني تدهورا اجتماعيا وحضاريا وقيميا بشكل متواصل، فالرقي التقني لم يؤد إلى رقي إنساني بل قابله ولا يزال يقابله انهيار إنساني. ولم تستطع الحضارة الغربية،حتى الآن، حل هذا الذي يبدو لها وكأنه لغز حضاري؛ فالتقدم الحضاري كان يجب أن يكون أفقيا ومتصاعدا، وبذات الوقت يفترض أن يتطور الإنسان بموجبه قيميا وأخلاقيا كما تتطور تقنيته بقدر حاجته إلى ذلك التطور. غير أن الذي يحدث في الحضارة الغربية هو العكس تماما العلوم تتقدم والإنسان ينهار، وقيمه تتلاشى وعذابه واستلابه ومآسيه تتزايد"[2].
ولأن إشكالية المنهجية المعرفية لا بد أن تتجاوز أساسا بمنهج مطلق، فإن اهتماما مضاعفا بنقد سياقات المنهج الغربي المعاصر كان لابد أن يجد سعته من البسط والتفسير والتحليل في مختلف أبحاث ودراسات العلواني، وأهم هذه الانتقادات ما أثاره عن العقل الفطري والعقل الوضعي، أو عن ملابسات التطور والتحكم في العلوم الطبيعية والرياضية، أو عن طبيعة التفكير والعقل والانحياز المادي[3]، كما أنه وجه نقدا مهما لأزمة الانحراف في تسخير العلم والمعرفة، وأزمة المنهج العلمي التجريبي[4].
وبهذا الصدد يشير العلواني إلى أن "العقل الوضعي" قام بتهميش "العقل الوضعي الفطري" وتحديد دوره، فهو عقل يأخذ مدركاته بواسطة الحواس؛ فأثبت له "العقل الوضعي" أولا، عدم سلامة هذا الاتجاه. ثم أكد ذلك العقل العلميّ أن الحواس تعرض لها عوارض لا تسمح لها بإعطاء دلالات معرفية دقيقة مضبوطة، وأمّا المقولات الفطرية القبلية أو "مسلمات ما قبل المنهج" فلا ترقى إلى مستوى المدركات الحسية فما الحل إذن؟ يجيب "العقل العلمي": إن التجربة هي التي يمكن أن تقدم لطالبي المعرفة دلالات معرفية منضبطة؛ ولا تكفي التجربة لإعطاء ذلك إلا إذا تمَّ نقدها. فإن "التجربة" التي يتم نقدها واختبارها هي التي تعطي لنا "قواعد مشتركة" تستطيع البشرية أن تلتقي عليها.
وهنا نجد انفصالا بين العقلين؛ الفطري الوضعيّ، والوضعي المجرد. فالأول استسلم "للتجربة" وأخذ يقوم بتأويل ما توصَّل إليه أو مقاربته، أو قياسه إلى مسلَّماته الفطرية التي تشبث بها، والعقل الوضعي سار مع "التجربة" بدون تأويل أو تعطيل حتى بلغ الوضعيَّة المحضة وتبنَّاها وتقبَّل النتائج[5].
إن اطلاع العلواني الواسع على الفكر الفلسفي الغربي، وامتلاكه لأدوات النظر والاجتهاد وأساليب الفهم والتحليل والتفسير، مكنه من إدراك تطور دلالات مفهوم العقل في الفكر الغربي، وكيف انعقدت الغلبة في الفلسفة الغربية للعقل الوضعي الذي أنتج مذهب الوضعيّة، و كيف أن الوضعيّة، فتحت الباب على مصراعيه نحو العقليّة العلميّة، عبر عمليّات هدم وتفكيك أدّت إلى بروز العقلية العلميّة، التي قادت البشريّة نحو القواعد المنهجيّة المشتركة للتفكير، ثمّ تكرّس انتصار العقليّة العلميّة ونجحت وبهرت الناس في منتجاتها القائمة على هذه القواعد المنهجيّة المشتركة، فكلُّ من يستعمل هذه القواعد يحصل على نفس النتائج، ودون أثر للعقائد أو المسلَّمات القبليَّة أو الأجناس أو الألوان[6].
ينفي العلواني وجود منهج علمي محايد مستقل عن الفلسفة التي انبثق عنها؛ فمناهج البحث قد تم توظيفها لدى المذاهب المعاصرة لتكرس تصوراتها وتعبر عن رؤيتها الكلية حول العالم والإنسان والحياة، والمناهج السائدة كلها قد استبعدت الوحي والدين ولم تسمح بحال أن تكون للرؤية الدينية، ظاهريا، أي تأثير على المنهج؛ وإن كنا نؤمن، عن خبرة وتجربة، بالتأثير غير المباشر للتصورات والرؤى التوراتية والتلمودية في مناهج العلوم الاجتماعية المعاصرة؛ فهي في نظرنا وفي خبرتنا وتجاربنا إسرائيليات العصر الراهن التي لا يسهل اكتشافها؛ وإن كانت تجري في العلوم الاجتماعية مجرى الدم خاصة في علوم مثل التاريخ والجغرافيا والاجتماع والأنثروبولوجيا وفي علم النفس وما إليها.
تعبر الوضعية عن نظرة فلسفية متكاملة إلى الكون والحياة والإنسان، وقد اتسمت الوضعية بتكريس العلمانية وتكريس مبدأ عزل التصورات والمفاهيم الدينية عن القضايا العلمية؛ ولذلك فقد أكدت على ضرورة ارتباط المنهج في العلوم الإنسانية بالنموذج الطبيعي التجريبي، واعتبار ذلك وسيلة وحيدة للكشف عن الحقائق العلمية في مجال الطبيعة أو مجالات الإنسان وإبعاد الفكر الديني الميتافيزيقي عن المنهج في الإطار المعرفي الوضعي إبعادا تاما.
ومنذ ذلك التاريخ والوضعية تعني المقابل المضاد أو النافي لوجهة النظر الدينية بصفة عامة، فالدين بكل ما يمثل ومصادره الموحاه من كتاب ونبوة يفترض أن تبعد عن مصادر المعرفة؛ وقد أدى ذلك إلى استبعاد منظومات القيم الدينية من المجالات العلمية والمعرفية وحاولت الوضعية أن تقدم نظرية معرفة بديلة، وعلوم أخلاق وجمال، ورؤية للإنسان والكون، وتفسيرا للعقل الإنساني ومهامه الإدراكية، وتفسيرا للواقع وما إلى ذلك؛ لتعلق سائر المجالات في وجه التصورات الدينية وتقدم بدائل عنها.
لا غرابة في ذلك فإن الموضوعية قد ظهرت في إطار مجموعة من التناقضات الفكرية، والصراعات التي برزت بين النزعات الإنسانية والمنظوم الفكري الكنسي؛ فاتسمت أطروحات كثيرة مما قدمته الوضعية بردود الأفعال أكثر من اتسامها بخطوات علمية مدروسة بعيدة عن المؤثرات السلبية.
ومع أن المنهجية الوضعية قد قدمت إنجازات كثيرة في مجالات عديدة؛ لكن هذه السمة السلبية كانت من أسباب بروز كثير من الأعراض الجانبية لهذه المنهجية؛ لعل منها أو في مقدمتها الانحصار والتوقف والعجز عن الامتداد عند الوصول إلى قضايا معينة.
فالعالمية التي أدى إليها التقدم العلمي والتقني السريع والهائل، بدأت تتوقف عند النهايات والإحساس بالعجز عن الامتداد فتبدأ أطروحات نهاية التاريخ، نهاية الله، نهاية الدين، نهاية الإنسان، نهاية الحياة، ومع وجود افتراض أن هذه النهايات لو استفادت من البعد الغيبي ومن الدين لاستطاع الإنسان أن يخرج من الجدل المحصور بين الإنسان والطبيعة إلى جدل يفتح أمامه مجالا واسعا لسلوك سبيل الكونية والامتداد فيها بإضافة جدل الغيب.
بحيث لو حدث هذا لما حدث الانحصار والتوقف عن سلوك سبيل العالمية في اتجاه الكونية، والارتداد إلى حالة عولمة قاصرة تنطوي على عولمة الاقتصاد والشركات المتعددة الجنسيات وفرض الديمقراطيات المصطنعة لفتح الأسواق على مستوى العالم والحصول على أرخص الخامات وأرخص الأيدي؛ لينتحر الإنسان في العالم المقسم إلى عالم أول وثاني وثالث، وينحصر إن لم ينته فيه الفقر والجوع والمرض والجهل والأمية والصراع والتمييز بكل أنواعه وتجارب ونفايات أسلحة الدمار الشامل بالعالم الثالث بدل أن يفسح المجال فيه أمام أسلحة مضادة للفقر والجهل والجوع والمرض والحروب والصراعات وما إليها[7].
يظهر من خلال تتبع المتن الفكري للعلواني أن مجهوده لم يقف عند حدود التقاط عناصر الانسداد الفلسفي والوجودي الذي تعيشه الحضارة الغربية، ومنهجيتها المعرفية، بل حاول تقديم بديل حضاري، يتجاوز التأويل الفلسفي للعلم الذي كرسته الحضارة الغربية، وجنة الجحيم التي اندحر إليها الوجود الشخصي للإنسان الأوربي. هذا البديل يشكل القرآن الكريم جوهره ومنطلقه؛ إذ يعتبر القرآن الكريم وحده يملك التصور المنهجي والمعرفي البديل على مستوى كوني، وهو "وحده الكتاب الكوني الذي يستطيع أن يستوعب المنهجية العلمية، ويقوم بتنقيتها وترقيتها، ووضعها باتجاه "المنهجية الكونية"، وهو وحده الذي يستوعب المنهج العلمي ويستطيع أن يقوم بتنقيته وترقيته وإخراجه من أزمته، ويحميه من تهديدات ومخاطر النسبية والاحتمالية والنهايات"[8].
أكثر من ذلك، فالعلواني يعتبر "أن منهجية القرآن من شأنها تحل "إشكاليات العلم المعاصر" نفسه، وترقية لبحوثه المنهجية، وجعلها قادرة على أن تنتج فهما كونيا جديدا لفلسفة العلوم الطبيعية، فهما يرتبط من خلال العلم بعقيدة التوحيد حيث يتأهل ويتضح معنى الآية: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28)[9]. إذ "لا تقتصر منهجية القرآن على دراسة الظواهر الطبيعية التي تستمد مؤشراتها الكونية من القرآن، إنما تمضي لتمد نطاق البحث إلى الظواهر الإنسانية التي تتفاعل مع الظواهر الطبيعية.
فإذا كان العلم المعاصر يتفادى البحث في هذا الإطار الكوني أو يتفادى البحث في الظواهر المعقدة، فإن مهمة "منهجية القرآن" من خلال جهود العلماء والباحثين المسلمين الواعين بها كسر هذا الحاجز. وبهذا تصل إلى البشرية بالطريق العلمي في دائرة النسق الحضاري، فهذا الدين قائم على كتاب منهجي مطلق، ودعوة شاملة"[10].
ثانيا: المحددات الابستمولوجية للمنهج المعرفي التوحيدي وإعادة بناء الوعي الإنساني عند العلواني
تقتضي هذه النقطة؛ البحث عن التأسيس؛ أي إيجاد المعالم النظرية والمنهجية والأفق المعرفي، الذي على ضوئه يتم تحديد المعالم الابستمولوجية للمنهج المعرفي التوحيدي، بما يمكن من تأسيس نظرية شاملة توازن بين الثوابت والمتغيرات عبر الزمان والمكان،وتضع أسسا وقواعد لمسار تفكير العقل المسلم، وإطارا مرجعيا لحركته، بما يكفل له تجديد نفسه دوما، وشحذها بطاقات تفسيرية خلاقة. وبما يمكن من الهيمنة على المناهج المعرفية المعاصرة، وتجاوزها.
لقد استهدف العلواني من خلال متنه الفكري، الكشف عن منهج القرآن الكريم ومنهجيته،إيمانا منه بأن القرآن الكريم ليس كتابا دينيا يمكن أن يتعلم الناس منه العقيدة والشريعة وأخبار الماضيين من الأنبياء وأممهم وأخبار الآخرة فحسب؛بل هو كتاب يمثل مصدرا لمنهج علمي يقود حركة الفكر الإنساني في مجالات الفكر المختلفة، وفي البحث العلمي الجاد انطلاقا من قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة: 48).
يعترف العلواني بخطورة ومشاق مهمته، إذ يشير إلى أن الشرعة مبسوطة مفصلة في سور كثيرة من القرآن المجيد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المنهاج،لكن العثور على معالم المنهج القرآني،وتحديد صفات الآيات الكريمة التي تحملها في ثنايا القرآن المجيد يتطلب جهدا واجتهادا كبيرين، وذلك الجهد والاجتهاد أشق وأعمق بكثير من الجهد والاجتهاد اللذين يقتضيهما البحث عن الشريعة،فعلماء أصول الفقه قد قدموا لنا أدوات ووسائل كثيرة لتقود حركتنا ونحن نتدبر لبلوغ آيات الشريعة ،ولكن فيما يتعلق بالبحث عن المنهج لم نجد طريقا ممهدا كتلك الطريق التي مهدها علماء أصول الفقه للوصول إلى شريعة القرآن؛ فكان لابد من العمل على رسم منهج للوصول إلى "معالم المنهج القرآني" ودلائله فيه. وهو الأمر الخطير على حد تعبير العلواني[11].
وفي استهدافه الكشف عن معالم المنهج القرآني يرفض إضافة مسعاه إلى ما شاع مؤخرا من وجود "إعجاز علمي في القرآن"،فإن ذلك خلاف ما يرمي الباحث إليه؛لأن قصارى ما يمكن أن يقدمه "الإعجاز العلمي والتفسير العلمي"، هو إسقاط ثقافة العصر على القرآن المجيد، وتحكيمها عليه،وتحويلها شواهد على صحته وعلو قدره.وهذا أمر يرفضه الباحث ولا يتبناه[12].
إن الهدف الأساسي الذي يتغيا العلواني تحقيقه عبر متنه الفكري المتنوع،هو التدليل على قدرة المنهج القرآني في تحدي المناهج المعاصرة، والإقرار بأن المنهج العلمي التجريبي ذاته في أزمة،وفي حالة بحث عن مخارج تتجاوز هذه الأزمة. لهذا يقدم العلواني القرآن المجيد ومعالم منهجه التوحيدي، ليستوعب بها أزمة المنهج العلمي ويتجاوز بها تلك الأزمة،والتهديدات التي تنذر بها لو استمرت "أزمة المنهج" بدون علاج[13].
كما جرى التنويه، فإن العلواني، لم يقفا عند مستوى النقد المنهجي للحضارة الغربية، وإنما تجاوزه إلى محاولة بلورة منظور منهجي معرفي مختلف. لقد أفضى نقد العلواني لواقع الحضارة المعاصرة، وكذا نقده للمناهج المعرفية الغربية إلى بلورة منهجية معرفية إنسانية استنباطا من المنهجية المعرفية القرآنية. وهي منهجية لا تغفل عن اللحظة التاريخية التي يمر بها الإنسان العربي، ولكنه واثق من أنها المرحلة التي سيكشف فيها القرآن عن مكنونات المنهج الإلهي الكلي في الحركة والطبيعة والتاريخ البشري، وهي العملية التي ستحمل للإنسان كله البديل الحضاري الذي يرسي دعائم السلام كما هي حقائقه الكونية الإلهية والعلمية والفلسفية، بديلا عن فلسفة الصراع التي يغرق فيها العالم اليوم.
لقد شكلت هذه النتيجة منطلق العلواني؛ إذ يعتبر منهجية القرآن المعرفية دعامة أساسية وضرورة معرفية وحضارية لا على المستوى الإسلامي وحده، بل على المستوى العالمي كله للخروج من المأزق المعرفي المعاصر والأزمة الفكرية العالمية المعاصرة[14]"[15].
ويعني العلواني بـ"منهجية القرآن المعرفية"؛ المنهج الذي يقدمه لنا القرآن المجيد في شكل محددات وسن قوانين يمكن استنباطها من استقراء آيات الكتاب الكريم؛ تلاوة، وتدبرا، وترتيلا، وتنزيلا، وتفكرا، وتعقلا، وتذكرا، ثم التعامل مع هذه المحددات تعاملا يسمح لنا بأن نجعل منها محددات تصديق وهيمنة، وضبط لسائر خطواتنا المعرفية، ومنها: تصحيح مسار المنهج العلمي، وإخراج فلسفة العلوم الطبيعية والاجتماعية من مضايق النهايات التي تتوقف عندها الآن"[16].
ويأتي في مقدمة هذه المحددات؛ التوحيد، فالجمع بين القراءتين، ثم الوحدة البنائية للقرآن.
المحدد الأول: التوحيد؛ يعتقد العلواني أن الفارق الجوهري بين النظامين المعرفيين الإسلامي والغربي هو بالأساس الرؤية العقدية لكل نظام ولكل معرفة، معتبرا التوحيد محور الرؤية الكلية القرآنية، وهو عنده: "مدخل تفسيري ذو قابليات هائلة، وقدرات متنوعة لتفسير آلاف الظاهرات النفسية والسلوكية والنظمية والمعرفية في مختلف المستويات، والتفسير الذي يقدمه القرآن المجيد يؤدي إلى الفهم العميق لتلك الظاهرات، ويمكن من صياغة الأسئلة المعرفية، وتعليم الإنسان طرق الإجابة عنها، كما يمكنه من وضع المقدمات بأدق ما يستطيعه العقل البشري، وتجنيبه الخطأ؛ فتصبح عملية الوصول إلى النتيجة منضبطة تستوعب "التنبؤ المنهجي" وتتجاوزه...وبذلك أسس القرآن للعقلانية التوحيدية[17].
والتوحيد في المتن الفكري للعلواني، إضافة إلى أنه تجربة دينية، يشغل فيها الخالق وضعا مركزيا، فإنه كذلك تصور عام للحقيقة، بما فيها الدنيا والحياة والتاريخ، والتوحيد يوضح حدود وأبعاد الدور الإنساني في الكون والحياة، وفي الوقت نفسه يحقق قدرة كبيرة على صياغة المفاهيم الضرورية لبناء فاعلية الإنسان، وتشكيل دافعية العمران والتسامي فيه، وإيجاد المنطلقات المعرفية والثقافية السليمة لدى الإنسان[18].
وفق هذا الفهم؛ تصبح المعرفة التوحيدية مشروعا منهجيا طموحا يستهدف استعادة الذاكرة الإنسانية، لتصحيح مسيرة العلوم والمعرفة، كما تعد ترياقا يمنع العلوم والمعرفة من مسار الانحراف والبغي.
المحدد الثاني: الجمع بين القراءتين؛ قراءة الوحي، وقراءة الكون، وهو محدد يربط بين الغيب والواقع ويمكن من استخلاص محددات يقرأ الواقع بها، ويمكن من الصياغة الدقيقة لإشكاليات الواقع والعروج بها إلى القرآن المجيد في "وحدته البنائية" للوصول إلى هديه في معالجتها[19]. ويعتبر العلواني أن الجمع بين القراءتين أهم خطوة منهجية وأبرز محدد منهاجي يساعد على كشف وتحديد بقية المحددات المنهاجية القرآنية[20].
المحدد الثالث: الوحدة البنائية للقرآن الكريم والاستيعاب الكوني؛ ومن هذا المنطلق يدعو العلواني إلى اعتبار القرآن الكريم "مصدر المنهجية الكونية، فلا تجوز تجزئته بحال، ولا يجري تجاوز شيء منه"[21].
ويؤكد العلواني أن المنهجية المعرفية القرآنية المستندة إلى المحددات الثلاثة، بإمكانها بناء وتأسيس "الإطار الكوني الشامل للفكر الإنساني"، ويصدق على العلم ومنهجه ومنطقه، ويهيمن ويوجه الجهود الإنسانية بشكل جماعي لتطوير الأرض وإعمارها وإنماء ما فيها، ويمكنها من مواجهة الأزمات العالمية الراهنة"[22].
والمنهجية القرآنية سوف تعيد صياغة فلسفة العلوم الطبيعية في بعدها الكوني الذي يتضمن غاية الحق من الخلق في الوجود وفي الحركة، وبذلك يحرر القرآن " المنهجية المعاصرة والعلوم" التي انبثقت عنها من التأويلات الوضعية والمادية التي أصابتها بقصور مناقض للأصول التي تكونت بمقتضاها وبنيت عليها بحيث صارت الحتمية العلمية سبيلا إلى الاغتراب الإنساني، فالقرآن المجيد بمنهجيته الكونية سوف يساعد البشرية على إعادة بناء منهجيتها بعد أن يخرج هذه المنهجية من أزمتها، كما سوف يساعدها على إعادة فهم مدلولات القوانين الطبيعية وهذه قضايا أساسية إذا لم تعالج بدقة وبمنهج كوني فإن الإنجازات التي بلغتها البشرية تصبح في خطر حقيقي.
إن القرآن يتبنى عالمية الانتماء والتفاعل والتداخل بين البشر، والقرآن المجيد بوصفه كتابا كونيا أكد ذلك بكل الصيغ، وعالمية القواعد المشتركة للتفكير الإنساني كانت ولا تزال هدفا ثابتا من أهدافه التي سعى ويسعى إلى تحقيقها، والمنهج القرآني قادر على ترشيد العلم وإنقاذ البشرية، وتصحيح مساريها العلمي والعملي، بل لا منهج سواه يستطيع تحقيق ذلك لأنه منهج كوني منبثق من كتاب كوني.
إن القرآن المجيد قد أوجد ضوابط وقواعد لتأسيس الفهم المشترك بين البشر، وفسر بها كل التجارب التاريخية التي تناولها، كما أن القواعد المشتركة تؤدي إلى تأسيس إطار عالمي للفكر الإنساني تصب فيه جهود الإنسان في إطار الوفاء بمهمة الاستخلاف وتسخير عالم المشيئة. والمسخرات خاصة لتحقيق العمران، وبهذه القواعد يمكن أن تؤسس قواعد العمران المختلفة، فتؤدي إلى عمران حقيقي لا إلى تأسيس حضارات للدمار واستلاب الإنسان والطبيعة معا، وتزعم أنها لا تتجاهل اللاهوت.
بحسب العلواني، فإذا لم نقدم الخطاب القرآني العالمي في مستوى يستوعب هذه الثلاثية: "المنطق والمنهج وقواعد الفهم والتفكير الإنساني المشترك" التي فرضت أن يكون الخطاب المفيد خطابا عالميا، والعالمي، هنا، ليس الخطاب المصدر بــ: "يا أيها الناس" عند الأصوليين أو: "يا عمال العالم" كما نادى "الماركسيون"؛ بل الخطاب المستوعب للعناصر الثلاثة المتقدمة: "المنطق والمنهج، وأصول وقواعد الفهم، والتفكير المشترك بين البشر"، وإلا فسيكون خطابا حصريا خاصا بشعبك أو أمتك أو قومك أو إقليمك، وهو على بلاغته وفصاحته وعمومه اللغوي وادعاء عالميته، فإنه لا يمكن تقديمه باعتباره خطابا عالميا، لأنه سيعد خطابا نابعا عن عقل فطري ومسلمات قبلية تم تجاوزها، وإذا بدا عليها شيء من "الموضوعية" فهي انعكاس ناجم عن مقاربات وقياسات إلى وضعية تم تجاوزها كذلك.
ومن هنا، فإنه لابد من مرور الخطاب بالأقنية الثلاثة الضابطة لقضايا المعرفة التي ذكرناها، ومضامين الخطاب، أيا كان ذلك الخطاب، وما من خطاب غير الخطاب القرآني مؤهل لذلك لكونيته،واشتماله على الأصول الثلاثة المذكورة.
ثالثا: مداخل المنهجية المعرفية التوحيدية في ابستيمولوجيا العلواني
تعد دراسة "الجمع بين القراءتين" جهدا فكريا معاصرا لفهم مداخل المنهجية المعرفية التوحيدية عند العلواني؛ من خلال تأكيده على بعدين اثنين في الجهاز المعرفي،بعد يتحدد بالوحي، كتاب منزل متلو معجز وهو القرآن. وبعد ثان يتحدد بالكون: مخلوق مفتوح وهو الخلق والكون والتجارب البشرية فيه ومنه التعامل مع الإنسان نفسه، فهو جزء من الخلق وابن شرعي للطبيعة.والعقل بينهما وسيلة وأداة معرفة واستنباط وحدس وإدراك بل وتوليد لأبعاد أخرى في الوقت ذاته[23].
وبذلك تكون القراءة المأمور بها قراءتين: قراءة في الكون المخلوق، وكل ما يتعلق به من عالم الخلق، والتشيؤ بما في ذلك تراث الأمم الذي دونته وآثارها، وقراءة في الكتاب المسطور الوحي المنزل المتمثل في الكتاب الكريم، المحدد لغاية الحق من الخلق، والمنبه على السنن الحاكمة لهذا الوجود الموضح للمنهج والشرعة والحقائق الأساسية.
فبالقراءتين تدرك الفروق بين الأمم التي استفادت بالوحي واتبعته، واستنارت به، وبين الأمم التي تجاهلته، وتعاملت مع الطبيعة أو الكون، وحده، دون استنارة بهداية الوحي، أو أهملت الكون أو التجارب البشرية وعبر التاريخ ودروسه.
وفي هاتين القراءتين تتمحور القوامة المعرفية للمنهج القرآني حول قراءة الوحي وقراءة الكون. وهما قراءتان تتأسس أحداهما على الأخرى، لكن الأمر بينهما دائماً ما يستلزم نوعاً من الاعتدال والموضوعية والتوازن ولا يتطلب طغيان إحداهما على الأخرى، أو الاكتفاء بواحدة منهما، وإلا أحدث ذلك خللاً وقصوراً حاداً في طرائق الفكر يعد منبثقاً من نقصان المعطيات المعرفية. لكن ظهور الاثنتين مجتمعتين إنما يعني وجود حضارة حقة.
لقد صمم العلواني دراسته بحيث تستجيب لتغطية موضوعات في التاريخ والأخلاق والاجتماع والمعرفة، جاعلا من القراءة باسم الله، من أهم المحركات الموضوعية المؤثرة في اتجاه وإفراز الدواعي والقوى المحركة للمعرفة وتحديد مضمونها.
تتمثل أهمية الجمع بين القراءتين في إبستيمولوجيا العلواني؛ في أن المعرفة سيعاد صياغتها في ضوء المبادئ الآتية:
المبدأ الأول: يتعلق بوحدة المعرفة والصورة التي تظهر عليها المعرفة، فالمعرفة في حقيقتها واحدة، لأن الحقيقة واحدة، ولكنها غالبا ما تظهر في مجالات وحقول معرفية وفروع، فهناك مثلا: علم السياسة، وعلم الاجتماع، وعلم التربية، وعلم الفيزياء، وكل هذه حقول، ومجالات معرفية تكونت بسبب أن المعرفة تتعلق بظاهرة أو حقيقة، وهذه الظاهرة أو الحقيقة الواحدة لها جوانب مختلفة؛ طبيعية واجتماعية ونفسية، وأن دراسة هذه الجوانب تقتضي مثل هذه التقسيمات الإجرائية.
فما قد نراه من العلوم والمعارف المستقلة في الظاهر بعضها عن بعض، ليس في الواقع إلا أجزاء وأعضاء مترابطة؛ فهي في الحقيقة ليست مستقلة عن بعضها البعض، حتى إنه بوسع كل من أراد أن يتجه إلى واحد منها بالدراسة والاختصاص دون أن يعبأ بالعلوم الأخرى.بل إن بينها من التمازج والتداخل ما يجعل الباحث لا يحيط علما بأي منها إلا بمقدار ما يبصره المجموع الكلي للهيكل الكوني الشامل.
والمبدأ الثاني: يقول إن وحدة المعرفة تعنى بترجمة مبادئ التوحيد في المجال المعرفي، إذ يناط بها تحويل التوحيد من مجرد علاقة تصورية لثنائية عالمي الخالق والمخلوق، إلى محتوى معرفي يصل الإنسان بربه. فمبدأ الثنائية في نظام الخلق والتكوين (كمثل: عالمي الغيب والشهادة، والروح والجسم والعقل والقلب)، اقتضى أن تستمد المعرفة من مصدرين مختلفين هما: الوحي الإلهي، وعالم الخلق.
غير أن هذه الثنائية في مصادر المعرفة ليست ثنائية تضاد، وبمقدور الإنسان تصور الوحدة الكلية التي تعكسها وإحداث تكامل بين طرفيها، وذلك عن طريق تعقله للوحي واكتشافه لسنن الخلق بشرط انقياده لأمر الله سبحانه.
أما المبدأ الثالث: فيتعلق بالغاية من اكتساب المعرفة، التي تفسح مجالا واسعا لربط المعرفة بالأخلاق، في إطار التفاضل القائم، بين القيم الأخلاقية والقيم النفعية.
والمبدأ الرابع: يتعلق بتطبيقات المعرفة وانعكاسات العلم على السلوك الإنساني، بحيث لا ينظر للمعرفة فقط من زوايا الإدراك الحرفي المهني البحث الذي يحصر المعرفة في حدود التخصص الضيقة، فيتم استيعاب المعرفة الإنسانية ضمن مهام الاستخلاف والأمانة.
ووفقا لهذه المبادئ العامة،فإن المعرفة كي يتسنى لها تجاوز الإحالات الوضعية التي التصقت بها حديثا، وكي يتم بناؤها في ضوء التحديات الفكرية، والعقدية المعاصرة، لابد لها أن تتشكل وفقا للمبادئ الآنفة الذكر على المستويين النظري والتطبيقي. إذ لا يكفي التأصيل النظري لفكرة التكامل المعرفي، بل لابد من صياغة المعرفة والسير بتطبيقاتها في ضوء تلك المبادئ، حتى تظهر نتائج عملية التكامل المعرفي كما يراد لها أن تظهر.
وفي سعيه لتأكيد أهمية الجمع بين القراءتين، يقدم لنا العلواني أخطاء القراءة المنفردة وسلبياتها، إذ يقول: "فمن تجاوز القراءة الأولى في الوحي النازل إلى النبيئين، واستغرق استغراقا كليا في القراءة الثانية التي تمثل علم الكون أو معارف الطبيعة، منقطعة عن الله، تعالى، فقد العلاقة بالله، وتجاهل الغيب، وانطلق بفلسفة إنسانية مستقلة وضعية منبتة عن الله، عوراء قاصرة في مصادرها، تحاول أن توحد بين الإنسان والطبيعة بإطلاق. وتعد الخالق والغيب كله مجرد ما ورائيات أو ميتافيزيقا تجهلها أو تجاوزها.
فيتخذ الوجود شكل القوى المتصارعة المتنابذة، ويتخذ الإنسان الغافل، من نفسه وهواه، شكل المتأله المسيطر بالعلم على كل شيء، فيمجد ذاته ويتخذ إلهه هواه، ويتوهم أن له أن يستمد قيمة من ذاته ومن الطبيعة. والدين والإيمان، نفسه، قد يتحول في إطار هذه القراءة المنفردة العوراء إلى شيء يوظفه من شاء ساعة لتلبية رغبة، أو لأداء خدمة. وهنا يحق عليه القول، فيقع في الاستبداد والطغيان على أخيه الإنسان. وتحدث كوارث البيئة، ويختل التوازن وتظهر أمراض الانحراف والشذوذ في المعمورة، فقارات يعمها الجوع وأخرى تعمها الأمراض بكل أشكالها، والجرائم بكل أنواعها، وتسود المعيشة الضنكة: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه: 124).
أما إهمال القراءة الثانية في الكون والطبيعة المسخرة، أي إهمال قراءة الوجود والكون والاقتصار على قراءة الوحي وحده منقطعا منبتا عن الوجود، فإنه يؤدي إلى نفور من الدنيا، واستقذار لها ولما فيها، يشل طاقات الإنسان العمرانية والحضارية، ويعطله عن أداء مهام الخلافة والأمانة والعمران، ويحول بينه وبين التمتع بنعمة التسخير. ويعطل فكره، وينقض من قيمة فعله، بل قد يلغي إدراكه لفعله فلا يرى الإنسان نفسه فاعلا في شيء، ولا يرى لوجوده في الحياة معنى عمرانيا، وكل هذه الأفكار منافية تماما لمنهج القرآن العظيم.
إذن لابد من الجمع بين القراءتين؛ قراءة الوحي، وقراءة الوجود، وبناء العقل الإنساني بهما، معا، لئلا يقع الإنسان في أي من ذينك الطرفين الذميمين[24].
ما يميز العلواني، أنه لا يكتفي بمجرد التشخيص والوصف، ولكن ميزته قوته الاقتراحية، والتي تبرز في بيانه لكيفية الجمع بين القراءتين، إذ يشير إلى أن المدخل الأساس للجمع بين القراءتين يبدأ باكتشاف العلاقة المنهجية بين الناظم المنهجي لآيات القرآن الذي أعطى القرآن "وحدته البنائية" وإعجاز "نظمه"، وبين السنن والقوانين المبثوثة في الوجود، والمهيمنة على حركته للكشف عن الناظم المنهجي الذي يربط بينهما.
فالقرآن وحي إلهي نتعقل به ونتفهم به هذا الوجود انطلاقا من أن القرآن مطلق، ومحيط شامل. وبقدر ما تتسع معرفتنا للاثنين معا، بقدر ما تتكون لدينا القدرة على "الجمع بين القراءتين"، واكتشاف التداخل المنهجي بين منهجي الوحي والكون، فمنهجية القرآن موازية لمنهجية الوجود، ولاينبغي الاقتصار على قول ذلك نظريا أو إدراجه في دائرة "فضائل القرآن"، ولكن ينبغي اكتشاف ذلك تطبيقيا.
فالقول النظري قد لا يتجاوز حالة تسير بفرضية قد تكون غير صحيحة أو مما يمكن الطعن فيه، ولهذا يكون التحدي الأول والأهم للمسلم المعاصر وهو الكشف عن التداخل المنهجي بالجمع بين القراءتين؛ أي بين الوحي الإلهي والعلوم الطبيعية والإنسانية القائمة على السنن الإلهية في الكون والحياة والإنسان، أما الحديث عن عظمة القرآن وفضائله، فإن القرآن عظيم حقا ومعجز فعلا وذو فضائل لا يمكن حصرها، وقد كتب الناس عن عظمته وإعجازه وفضائله آلاف الصفحات، بل ملايينها، لكن تلك الكتابات لم تستطيع أن تكتشف للناس عن منهجيته المستوعبة للكون وحركته، والمتجاوزة لها، والقادرة على إقامته على قواعد الهدى ودين الحق. كما لم تؤد إلى الكشف عن التداخل المنهجي بين قراءة القرآن في وحدته البنائية، وقراءة الكون في وحدته القائمة على سننه وقوانينه. فقد بقيت آيات كريمة كثيرة ومقولات دينية كثيرة عرضة لتأويلات شتى. وفي كثير من تلك التأويلات تبدو الإسقاطات الإسرائيلية ونحوها واضحة.
كذلك بقيت في المعارف الإنسانية والاجتماعية الحديثة، بل وفي العلوم الطبيعية كذلك أبعاد غائبة، وأسئلة كثيرة لا تجد من مدارس تلك العلوم المختلفة إجابات شافية، لأنها لم تكتشف ذلك التداخل المنهجي بين القراءتين إلا في حدود جزئية تمثلت في محاولات انتقائية يغلب على بعضها التلفيق الذي يجعلها تبدو مفتعلة، إلى حد كبير، كتلك المحاولات التي تبدو فيما عرف أخيرا بـ"الإعجاز العلمي".
فتأكيدنا الدائم على ضرورة وجوب الجمع بين القراءتين، وحسبان ذلك شرطا مسبقا للخروج من الأزمة الفكرية والمعرفية في مستوياتها العالمية والمحلية يحمل توكيدا على وجوب الالتفات إلى ذلك الارتباط المنهجي بين القرآن والكون والإنسان؛ فالقرآن ضم قواعد "الوحي الإلهي" الذي جاء به المرسلون كافة. والكون مجال كلمات الله ومظهر إرادته ومشيئته. والإنسان مستخلف للاهتداء بالوحي في إعمار الكون. بذلك تكتمل حلقات التصور الإنساني، وتظهر سائر مقوماته، وتبرز علاقة الغيب بالطبيعة والإنسان. ويتخلص الإنسان من مأساة الفصام بين اللاهوت والناسوت والملكوت، أو بين الدنيا والآخرة، أو بين التنزيل الإلهي والفلسفات الوضعية البشرية، وما جره ذلك الفصام النكد من مشكلات.إن هذه القواعد لا يستطيع النهوض بها إلا من أوتي القرآن وحظا من العلوم والمعارف كافيا لاكتشاف ذلك التداخل المنهجي بين القرآن والكون والإنسان[25].
بناء على كل ما سبق؛ نستنتج أن مقاربة العلواني لمنهجية القرآن المعرفية، تتميز بزخم نظري ومعرفي عميق، وتبقى محاولته في الكشف عن منهجية القرآن المعرفية، من بين أعمق ما قدم، بنظري وحسب اطلاعي. فمجهودات الرجل تروم توضيح أن القرآن الكريم العظيم يشتمل على منهجية معرفية متكاملة، وأن هذه المنهجية المعرفية تنسجم تمام الانسجام، بل تهيمن على منهجية العلوم الطبيعية، وتستطيع أن تقودها وتعطيها نهاياتها الفلسفية التي تجعل منها منهجية معرفية متجاوزة لكل المنهجيات المعرفية الوضعية.
في الختام نؤكد أن المنهج المعرفي التوحيدي، قادر على جمع شتات الظاهرة الكونية والإنسانية والدينية في نظام متسق، موحد، منسجم العناصر، متكامل البناء، يقدم إجابات عن الأسئلة الكلية والنهائية، تمكنه من تجاوز حالة التأزم في الفكر الفلسفي المعاصر، ويؤهله للانفتاح على المناهج المعرفية الأخرى، بالنظر إلى ما يتوافر من مقومات وخصائص، وعلى ما يقوم عليه من مكونات وعناصر.
وأعتقد أننا أمام تحد كبير ومهمة صعبة تتجلى في الكشف عن منهجية القرآن المعرفية والكشف عن جوانبها الكثيرة والبناء عليها وضرورة تفعيلها؛ بما يمكن من إنقاذ البشرية ويدخل الناس في السلم كافة، سالكين طريق القرآن. فهل علاقتنا الحالية بالقرآن تمكننا من تحقيق مقصدنا هذا؟.
الهوامش
[1] محمد عابد الجابري، ابستيمولوجيا المعقول اللامعقول في مقدمة ابن خلدون، مجلة أقلام، ط1، 1964م، ص2.
[2] طه جابر العلواني، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الهادي، بيروت، ط1، (1424هـ/2003م)، ص81-82.
[3] طه جابر العلواني، معالم في المنهج القرآني، دار السلام، القاهرة، ط1، (1431هـ/2010م)، ص34-37.
[4] طه جابر العلواني، أفلا يتدبرون القرآن: معالم منهجية في التدبر والتدبير، دار السلام، القاهرة، ط1، (1431هـ/2010م)، ص191-194.
[5] العلواني، معالم في المنهج القرآني، م، س، ص25.
[6] نفسه، ص 25.
[7] نفسه، ص 28-29.
[8] نفسه، ص77.
[9] طه جابر العلواني، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، م، س، ص106.
[10] نفسه، ص 106.
[11] العلواني، معالم في المنهج القرآني، م، س، 20.
[12] نفسه، ص 22.
[13] العلواني، معالم في المنهج، م، س، ص 22.
[14] طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، (1427هـ/2006م)، ص27.
[15] وفي السياق ذاته يؤكد أن: "والقرآن وحده هو الذي يستطيع تخليص الاتجاهات العلمية والضوابط المنهجية وإعادتها إلى جادة الهدى والحق من جديد لتحقيق عالمية القيم: الهدى، والحق، والتوحيد، والتزكية، والعمران، والعدل، والحرية، والإحسان، وتحمل أداء الأمانة، ونبذ الخبائث، ووضع الإصر والأغلال عن البشرية، واعتبار الأرض منزلا واسعا للبشرية يتسع لها كلها، فلا تحتاج إلى الحروب، بل تدخل في السلم كافة. وبذلك يحقق القرآن المجيد "عالمية الانتماء الإنساني والتفاعل" و"عالمية القواعد المنهجية المشتركة الضابطة للتفكير الإنساني" طه جابر العلواني، معالم المنهج القرآني، م، س، ص78-79.
[16] طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م، س، 27.
[17] طه جابر العلواني، معالم المنهج القرآني، م، س، ص83.
[18] العلواني، التوحيد والتزكية والعمران، م، س، ص65.
[23] طه جابر العلواني، التوحيد، التزكية والعمران، دار الهادي، بيروت، ط1، 2003م، ص66.
[24] طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م، س، ص22-24.
[25] نفسه.