الكِنايةُ بِـ«إِنْعَال الخَيْل»، وما قيل فيها:

من الكنايات اللطيفة في كلام العرب ما ورد في حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، حين سأل عمرَ بنَ الخطاب عن المرأتين اللتين قال الله تعالى فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، وفيه أن عمر، رضي الله عنه، قال: «وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا»(1).
قلت: وإنعالُ الخيل كنايةٌ عن التَّجَهُّز للحرب، فقد ذكرَ اللفظَ وأرادَ ما وراءه، ذكرَ إنعال الخيل، وأرادَ ما هو أبعد من ذلك، وهو التجهُّز لغزوهم، لأن مَن أنعلَ خيله النعالَ فقد جهَّزها. فكما يقال: فلان جَبان الكلب، وفلان كثير الرماد، كنايةً بهما عن الكرم، فكذلك يُقال مثلُ هذا فيمَن أراد التجهُّز للحرب، لأن جُبن الكلب وكثرة رمادِ القِدر لا يُراد على حقيقته، وإنما يُتوصَّلُ بهما إلى ما يكونُ بسَبب منهما، وهو الكرم.
وقوله: غسان، يُريد به ملكا من ملوك غسان، وهم الغَسَاسِنَة ملوك الشام، وإنما أنَّثَ الفعل على إرادة القبيلة، ويؤيِّده ما ورد في رواية أخرى لمسلم، قال عمر رضي الله عنه: «ونحن حينئذ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا من مُلوك غَسَّانَ ذُكِرَ لنا أنه يُريد أن يَسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه»(2).
وفائدة التعبير بمثل هذا أن عقلَ المخاطَب يذهبُ المذاهبَ في استعظام ما أراده المتكلم، لأن التكلمَ بشيءٍ وإرادةَ غيرِه، وهو الكناية، يُخلي المقامَ من التوصُّل إلى مُراد المتكلم أولَ الأمر، وإنما يبلغُ السامعُ إلى قصد المتكلم بعدَ إعمال العقلِ يسيرا في علاقة هذا بذاك، وكيف انتقل من التصريح بقصده مباشرَة، إلى الكناية عنه بألطف عبارة. فيُصَار إلى الثاني بعدَ إحكامِ أمرِ الأول والتدبُّر في أنه على تعلُّقٍ به.
وتقدير كلام عمر رضي الله عنه: وكنا قد تحدَّثنا أنَّ غسانَ تُنعل الخيلَ النعالَ لغزونا، فحذف المفعول الثاني تجَوُّزًا، لأن الفعل في أصله يتعدى إلى مفعولين، وإنما لم يُذكر للعِلم به عند السامع.
والإنعالُ إلباسُ الدوابِّ النعلَ، وهي ما وُقِيَ به حافر الدابة، قال ابن سيده: «ونَعَلْت الخُفَّ أَنْعَله نَعْلًا، وأَنْعَلته ونعَّلْته أَيْضا»(3)، فيُستعمل ثلاثيا ومزيدا بالهمزة ومزيدا بالتضعيف، فيقال: نَعَلَهُ نَعْلًا، وَأَنْعَلَهُ إِنْعَالًا، وَنَعَّلَهُ تَنْعِيلًا.
وقد ردَّ الجوهري الثلاثي المجرد، فقال: «ولا يُقال: نعلتُ»(4)، وصححه القاضي عِياض فقال: « وَلَا يُقَال عِنْد أَكْثَرهم: نَعَلَ، وَقد قيل فيهمَا نَعَلَ أَيْضا»(5).
وعلى المَزيد بالهمزة قولُ عمر، رضي الله عنه، وقولُ المتنبي(6):
فَقَدْ ضَمِنَتْ لَهُ الْمُهَجَ الْعَوَالِي /// وَحَمَّلَ هَمَّهُ الْخَيْلَ الْعِتَاقَا
إِِذَا أُنعلْنَ فِي آثَارِ قَوْمٍ /// وَإِنْ بَعُدُوا جَعَلْنَهُمُ طِرَاقَا
وكذلك ما جاء في السيرة من قولِ الآخر(7):
عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ وَالْجِيَادُ يَقُودُهَا /// خَيْلٌ تُقَادُ لَهُ وَخَيْلٌ تُنْعَلُ
ومنه أيضا قولُ المعتمد بن عباد(8):
لَعَلِّيَ يَوْمًا أَنْ أُوَفِّيَ حَقَّهُ /// فَأُنْعِلَهُ مِمَّنْ عَصَى أَمْرَكَ الْخَدَّا
وضدُّ الإنعال الإحفاءُ، ومنه قوله في لامية العرب(9):
فَإِمَّا تَرَيْنِي كَابْنَةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا /// عَلَى رِقَّةٍ أَحْفَى وَلَا أَتَنَعَّلُ
ومنه أيضا قولُ الأعشى في معلقته(10):
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا /// إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ
* * *
الهوامش:
(1) صحيح البخاري (7/28)، برقم 5191، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها.
ورواية مسلم: «وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُونَا»، صحيح مسلم (4/192)، برقم 1479، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن.
والحديث طويل، اجتزأتُ منه ما يقوم به الشاهد على ما نحن فيه من أمر الكناية. وقولُ عمر، رضي الله عنه، قاله لجاره الأنصاري الذي كان يتناوب وإياه النزولَ على النبي، صلى الله عليه وسلم، للمجيء بخبر ذلك اليوم وما يقع في مجلسه صلى الله عليه وسلم.
(2) صحيح مسلم (4/188)، برقم 1479، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن.
(3) المخصص لابن سيده (4/354).
(4) الصحاح للجوهري (نعل).
(5) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/17).
(6) انظر ديوانه (280).
(7) انظر سيرة ابن هشام (2/267)، والروض الأنف للسهيلي (6/273).
(8) انظر ديوانه (34).
(9) انظر ديوانه (68).
(10) انظر ديوانه (59).
* * *
المصادر والمراجع:
- ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس، تحقيق محمد حسين، مكتبة الآداب.
- ديوان الشنفرى، تحقيق إميل بديع يعقوب، الطبعة الثانية: 1417هـ/1996م، دار الكتاب العربي.
- ديوان المتنبي، تحقيق عبد الوهاب عزام، لجنة التأليف والترجمة.
- ديوان المعتمد بن عباد، جمعه وحققه حامد عبد المجيد وأحمد أحمد بدوي، مراجعة طه حسين، الطبعة الثالثة 1421هـ/200م، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
- الروض الأنف، للإمام السهيلي، تحقيق عمر عبد السلام السلامي، الطبعة الأولى: 1421هـ/ 2000م، دار إحياء التراث العربي.
- سيرة ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، الطبعة الثانية: 1375هـ/ 1955م، مصطفى البابي الحلبي.
- الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الرابعة: 1407هـ/ 1987م، دار العلم للملايين.
- صحيح البخاري، تحقيق جماعة من العلماء، الطبعة السلطانة الأميرية ببولاق - مصر، تصوير دار طوق النجاة.
- صحيح مسلم، تحقيق أحمد بن رفعت بن عمران حلمي القره حصاري وآخرين، دار الطباعة العامرة - تركيا، تصوير دار المنهاج ودار طوق النجاة.
- المخصص، لابن سيده، تحقيق خليل إبراهيم جفال، الطبعة الأولى: 1417هـ/ 1996م، دار إحياء التراث العربي.
- مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض اليحصبي السبتي، المكتبة العتيقة ودار التراث.