مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكراسي العلمية بجامع القرويين ودورها في تقريب الـسيرة النبويـة المـشرفـة

           إن الناظر في تخطيط المدن الإسلامية، يلاحظ بلا شك أن كل حيّ فيها لابد وأن يضم ثلاث مكونات أساسية، المسجد واحد منها إلى جانب المدرسة    و الزاوية، هذا فضلا عن المسجد الجامع الذي يعتبر النواة التي تتمركز حوله المدينة، نظرا للوظائف والأدوار التي يلعبها في حياة الفرد و المجتمع، وذلك على مستويات عدة: دينية، توجيهية، تعليمية، اجتماعيه، سياسية ... ويعتبر جامع "القرويين" نموذجا للمسجد الذي جمع بين الوظيفة الأولى والمتمثلة في استقبال وفود المصلين لأداء صلواتهم، وبين وظائف أُخر مست جوانب متعددة من حياة أولئك المصلين أنفسهم، نظرا لانفتاحه على محيطه، ولعل الوظيفة التعليمية من أهم الوظائف التي أداها محتلا بذلك الريادة والصدارة في حياة البلاد والعباد لحين من الدهر ليس باليسير، فَتح خلاله حِصنه لكل طالب نهم شغوف بتحصيل مختلف العلوم، فكان ملتقى جلّة من العلماء النجباء والأدباء والشعراء يفدون عليه من كل حدب وصوب، ليصبح فيما بعد مركز إشعاع علمي مهم، فحقق الدور العلمي الريادي لجامعة القرويين، والإشعاع المعرفي والثقافي لمدينة فاس، التي أصبح لها فضل على باقي أرجاء المغرب، فما من فقيه وعالم إلا كان واردها، يقول العلامة المختار السوسي في مقدمة كتابه "سوس العالمة": "فاس الماجدة العظيمة التي هي فاسنا كلنا لا فاس سكانها وحدهم، لأن فاس، فاس العلم والفكر و الحضارة، لا فاس شيء آخر، وإن تاريخ المغرب الثقافي العام ليكاد كله يكون كجوانب الرحى حول قطب فاس، فها أنذا أعلن - يقول العلامة المختار السوسي- عن سوس هذه التي أولعت بها، أنّ أول عالم سوسي عرفته سوس فيما نعلمه هو وجّاك، وهل هو إلا تلميذ أبي عمران الفاسي، وأنا هذا الذي أحس مني بهذه الهمة، هل كنت إلا تلميذ علماء آخرين وأجلهم وأكثرهم تأثيرا في حياتي الفكرية العلماء الفاسيون، وليث شعري كيف أكون لو لم أقض في فاس أربع سنوات قلبت حياتي وتفكيري ظهرا لبطن، ثم لم أفارقها إلا وأنا مجنون بالمعارف جنون قيس بن ملاح بليلاه، حتى نسيت بها كل شيء"[1].

           تلك كانت مكانة وأهمية فاس وذلك كان دور جامع القرويين بعلمائه الأعلام، فرسان ميادين معرفية متعددة، اللذين لم يتوانو عن البذل والعطاء تعليما وتدريسا وتأليفا، والذين وصفوا بالموسوعيين، هم شيوخ لا ينضب معينهم ولا يفتر علمهم، شرفت الكراسي العلمية بهم وشرفوا بها، فتجلت أنوار العلم واشرأبت الأعناق لطلبه، وشخصت الأعين لاقتناص فوائده.

أ- مكانة سيرة خير البشر في حياة كل البشر

           تمثل السيرة النبوية العطرة، بوقائعها وحادثاتها المختلفة نبراسا لاستلهام أسباب الهداية والاستنارة بها واتخاذها القدوة والأسوة والمنهاج القويم الذي نسير عليه في كل صغيرة وكبيرة مصداقا لقوله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾[2]، لقد حظيت السيرة النبوية عبر مختلف حقب الزمن الإسلامي بعناية كبيرة من لدن علماء الأمة، لما حفلت به من هدي نبوي في الأقوال، و الأفعال، و التقريرات... يقول العلامة سيدي محمد بن حماد الصقلي: "إن علم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة أحواله وأحوال مغازيه، والوقوف على أبعاد كل ذلك و مراميه، لهو العلم النموذجي لعقيدة الوحدانية والمنهاج التطبيقي للسير بها في مناهجها الإصلاحية وإنه مع هذا لمِمّا تستجلي به أسرار التشريع و تستبان به حقائق الهدي الرفيع، فمنذ عصور الإسلام الأولى ورسول الله صلى الله عليه وسلم محط عناية أئمة الإسلام ومطمح التائبين فيما يتوالى من الشهور والأعوام لأنه الفيض الذي لا ينضب، والنور الذي لا يغرب، كم اغترف من ذلك الفيض المتعطشون، وكم استنار بهذا النور المستهدون، فالعارفون به وبأحواله وأحوال مغازيه وكذا أبعاد كل ذلك ومراميه، قد حطت برحاب أرواحهم رواحل درمكها[3]، ونزلت بساحة حواسهم الظاهرة و الباطنة قوافل تجارتها، فالأرواح تتغذى منه عليه السلام بأجود زادها والحواس تتغنى بأربح تجارتها، ومهما تغذت الأرواح واستغنت الحواس تجاوب العقل مع الوجدان، وتفجرت بتجاوبهما منابع العرفان لتنساب وهي متدفقة في مجاري رياض الملك والملكوت وجنان الكون المنصاع للحي الذي لا يموت، رياض وجنان تحيي في الفطرة ما قطعته ذريات بني آدم من عهودها، وأكدته لله عزوجل من صدق وفائها وحينئذ يؤدي المؤمنون مع الرضا العبادة التي من أجلها خلق الجن والإنس، والطاعة التي بسببها تعرف النفس الراحة والأنس ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾[4]، ويدركون كذلك مدى الرحمة المهداة من الله إلى الناس أجمعهم بإرساله لهم إمام النبيئين وخاتم المرسلين فهو عليه السلام قد حصر الرحمة فيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا الرحمة المهداة"[5]، أهداها الله لهم بإرساله وأكدها لهم على مقتضى مراده فقال سبحانه ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾[6]، فما من جانب من جوانب سيرته عليه السلام إلا وتنجلي فيه الرحمة المهداة، والفضيلة المستوفاة فالواقفون على أي جانب من جوانب سيرته، والمدركون لأي شأن من شؤون عيشته يفوزون بالمنى، وتتحقق لهم الرغائب ويسمو مقامهم عند الله إلى أعلى المراتب"[7].

       إن حاجتنا لمعرفة السيرة النبوية و الإطلاع عليها حاجة متجددة مهما توالت الأزمان واختلفت الأماكن و الأحوال، نعود إليها في كل مرة لنغترف من بحر زاخر ليس له حد وليس له قرار، ومالنا لا نعود وليس بيننا وبين سيرة الحبيب المصطفى حجاب فهي قريبة دنية، هي السيرة الطيبة المباركة التي تجلت في أكرم إنسان وهي النور الذي ينير بصائر الناس وطريقهم، كل حسب حاجته وهي النبع الصافي الذي: "شرب ومازال يشرب من سلسبيلها المفسرون والمحدثون وغاص ومازال يغوص في لجة بحرها الفقهاء المجتهدون، واهتدى ومازال يهتدي إلى حقائق رسول البشرية كتّاب سيرته عليه السلام والمؤرخون، واستنار وما زال يستنير بأنوار كماله البشري أهل المقامات والأحوال والمتصوفون، كله إلى الآن لم يستوعبوا ما في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكمالات ولم يستقطبوا ما في سيرته العطرة من الروائع والمنسيات وما ذلك إلا لكونها كما ذكرت الفيض الذي لا ينضب والنور الذي لا يغرب فسيرته عليه السلام أعلى وأسمى من أن تكون مجرد أحداث مسرودة أو مشاهد معلومة أو مواقف مضبوطة يبرز كل منها جانبا معينا من جوانب العظمة وشاهدا مخصوصا من شواهد البطولة والعبقرية..."[8]

ب- كراسي النور والمواد المدرسة بها: 

يقول سيدي أحمد بن شقرون رحمه الله:

قد كثرت به كراسي النور         من عالم لعالم مشهور[9]

لقد كانت هذه الكراسي فعلا من نور، منارات علم ومعرفة يهتدى بها، تخرج واردها من الجهل إلى النور، ولا شك أن جنبات هذا الجامع العظيم شاهدة على كثرة المجالس العلمية، وحلقات الدرس التي كانت تشمل مختلف العلوم، وقد استطاع الأستاذ سيدي أحمد بن شقرون أن يصور أجواء طلب العلم، وجهود علماء القرويين في إمداد طلابهم بكل ما حوته عقولهم، وحفظته صدورهم من مختلف العلوم والمعارف قال:

"والحلقاتُ في الصَّباح، والمَسَا           معقودةٌ لبَحْــرِ عــــلمٍ دُرسَـا

      وبين مغرب، ومن قَبْل عشـا          يُزِيح عالمٌ عنِ الفِكْر، العَـشَـا

      وقبل فجر، وطـلـوعِ شــمس          يجـود عــالم لــــنا بـــدرس

 وربـما اسـتــمـر للـــــــزوال               بــــعون مولانا عـلى المـقـال

بالعقل والنقل يـفــوه الـقائل              و بهمـا دومــا يفــوز الـسائل

وكـــل عــالم يجـــود أبـــدا                بعلمـه لمـن يَـهـــــِيم بالهـدى

وقبل فــجر وطـلـوع شمس              يجـود عـــالم لـنـــــا بـدرس[10]

           لقد تعددت العلوم التي دُرست في "القرويين" فهي لم تكن مقتصرة على العلوم الشرعية بل لقد احتضنت جلسات علمية متنوعة وفريدة من نوعها تبعا للعلوم التي درست فيها مما جعل المؤسسة تخرّج علماء موسوعيين ملمين بعلوم عدة، يقول سيدي أحمد بن شقرون رحمه الله في إشارة لمختلف العلوم التي كانت تدرس بالقرويين الجامعة من فقه وتصوف وعقيدة وأدب ومختلف العلوم التطبيقية بقوله:

بـجامـع جمـع كــل خـيـــر            لـيل نـهار زاخر كالبــحر

فبعضهم مـفسر مـشهــــور         وبـعـضهم محدث مشكور

وبعضهم مهنـدس مــفــيـد           والفـرضي بينـهم عــمـيد

وسـيرة النبـي في المـقـــــــام            لهـا التربع على الـســــنام

وفـقـــه مالك هو المعتمــــد          وكلهم فـيه فـقيه مرشــد[11]

ج- كرسي السيرة بجامع القرويين

فاسأل إن شئت القرويين بيت الرحمن

              تخبرك أن دروس السيرة ملأت كل الأركان

تناولها الدارسون والباحثون عبر الأزمان

              وخلفوا لنا تراثا مــن كــــتب عـظــــام

شفا القاضي عياض وشـوارق الأنوار

               للجزولي في الصلاة على النبي المخـتـار[12]

             لقد كان تأسيس الكراسي العلمية تقليدا متعارفا عليه، نظرا للإقبال الكبير من طرف الناس على طلب العلم، وكذلك حتى يتمكن كل المقبلين عليها من الاستفادة وسماع شروحات العلماء بكل سهولة ويسر، يقول العلامة سيدي عبد الهادي التازي مبينا ذلك: "لابد أن يكون علماء القرويين قد استعملوا الكراسي منذ الوقت المبكر للاستعانة بها على تلقين طلبتهم ولا سيما حين يكثر عددهم،... وقد عرفنا - يقول العلامة التازي - عن بعض مجالس العلم بجامع القرويين لهذا العهد ما كان يناهز عدد الحضور فيه آلافا من الناس،  فكان ضروريا للأستاذ أن يتخذ له كرسيا لإسماع كل هذا العدد وقد كان عدد كبير من المغاربة حضروا مجالس العلم ببغداد، وشاهدوا المشايخ والعلماء والأساتذة وهم يتربعون على الكراسي لإسماع المريدين فلِم لا يسن أولئك المغاربة هذه العادة لمجالس علمهم؟ وقد حضر الشيخ أبو مدين مثلا مجالس الشيخ الكيلاني التي كان يتبوأ فيها كرسيه فلابد أنه كما تأثر بالنواحي الروحية تأثر بالنواحي الشكلية ولابد أن تلامذته عملوا على نهج أساتذتهم. وقد عرفنا عن بعض مجالس العلم بجامع القرويين لهذا العهد ما كان يناهز عدد الحضور فيه آلافا من الناس فكان ضروريا للأستاذ أن يتخذ له كرسيا لإسماع كل هذا العدد وقد نقل الجزنائي وصفا لبعض مجالس الوعظ وهي طبعا شيء زائد على المجالس العلمية، فذكر أنه بعد تلاوة الحزب إثر صلاة الصبح مباشرة كان بعض الأئمة كثيرا ما يقرأ بين يديه في أول النهار تفسير للثعلبي وحلية الأولياء لأبي نعيم واعتاد آخرون أن يجلسوا في الجامع حلقا حلقا وقد رأى ذلك الإمام أن يجمع هؤلاء المحلقين فأمر قارئه أن يتخذ مجلسه قرب المحراب وهناك يقرأ من هذه الكتب فصولا لإسماع الناس وقد كان يجتمع إليه سائر من كان يقصد القرويين في ذلك الوقت، وبلغ عدد الحاضرين أحيانا آلافا من الناس فاستدعى ذلك الزيادة في عدد الكتب المتناولة وهكذا أضيفت إلى تفسير الثعلبي وحلية أبي نعيم قراءة الإحياء للإمام الغزالي ثم كتاب الشفا للقاضي عياض"[13].

             وكرسي السير[14] "الذي خلف ظهر الصومعة ذكره أبو إسحاق إبراهيم الكلالي في الفصل السابع من كتابه تنبيه الصغير من الولد على ما وقع في مسألة الفار مع الهاربة من الهذيان لزاعم الفتيا آجليان[15]، لما ترجم شيخه أبا العباس أحمد بن علي الزموري المتوفى سنة إحدى وألف، قال: "كان في القرويين كرسي السير خلف ظهر الصومعة فولاه لتلميذه سيدنا وبركتنا علي بن عبد الرحمن بن عمران"[16]، قلت: وهذا الكرسي اليوم بيد القضاة ولكن لم نر أحدا قرأ فيه السير من متأخريهم إلا القاضي النحرير الأبرع أبا محمد عبد الله بن خضرا السلوي، دفين فاس سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف، رحمه الله"[17].

            لقد عُرف كرسي السيرة بكرسي ظهر الصومعة: ويعد هذا الكرسي من أهم الكراسي العلمية التي تَعاقب عليها عِلية القوم بالقرويين وهو المعني بقولهم: "كرسي مابين باب الشماعين والباب الموثقين"، ومن أقدم من عرف من أساتذته اللامعين ابن جامع الأنصاري الجياني 546هـ، ثم أبو العباس أحمد بن علي الزموري الفاسي 1001هـ وهو شيخ للكلالي ثم كان تلميذه أبو الحسن علي بن عبد الرحمن ابن عمران السلاسي وكان أيضا بيد القاضي سيدي علي البوعناني الشريف الحسني وكذلك سيدي المهدي أبو عنان وسيدي العربي قصارة كذلك وصار لأبي الفضل أحمد بن الحاج ت 1109ه، ثم للأستاذ أبي محمد عبد الله بن يخلف الفاسي عام 1162هـ بالإضافة إلى كرسي التفسير بباب المحراب وكرسي الترغيب بالركن الجنوبي الغربي على ما سلف وفي صدر الذين تولوه أبو عبد الله محمد التاودي بن محمد الطالب بن محمد ابن سودة المري الفاسي ت 1209هـ وكان يقري فيه بين العشائين ومن آخر القضاة الذين تصدروا للتدريس فيه أبو محمد عبد الله بن الهاشمي بن خضراء السلوي، وقد أدركت فيه الشيخ مولاي أحمد العمراني يدرس الرسالة.

             والواقع أن هذا الكرسي كان محل تعاقب من السادة العلماء على ما يظهر، لأنه كان كرسيا للتفسير أحيانا، وللفقه أحيانا، وللتاريخ وللسير وللوعظ تارة أخرى، وقد خصصت أوقاف ليدرس عليه صحيح الإمام البخاري ورسالة ابن أبي زيد، وتفسير القرآن للثعلبي، وحلية الأولياء لأبي نعيم، والشفا لعياض، والتحبير للسمعاني والاكتفاء للكلاعي، والحكم العطائية، والروض الفائق للحريفش والتسهيل والتقريب للرصاع، وسائر الكتب الأخرى التي كانت موقوفة على كرسي المحراب بحيث كان هذا هنا يوازي ذاك هناك.

           وكما اشتهر هذا الكرسي مع كرسي المحراب فيما يلقى عليه، اشترك معه كذلك في العقارات الموقوفة فإن جل ما عرف لكرسي المحراب يشترك معه في كرسي الصومعة وجل ما عرف لهذا يشاركه الآخر فيه"[18].

           هذا وتجدر الإشارة إلى أن كتاب الشفا للقاضي عياض كان يدرس في كراسي أخرى كانت تعرف توافد طلاب كثر مثل كرسي المحراب القرويين، وباب الرواح الأدنى...

إن الحديث عن جامع القرويين وعن كراسيها العلمية حديث ذو شجون لا تكفيه بضع صفحات لبيان مكانته ومنزلته في المغرب بل وفي العالم الإسلامي، إذ لازال في النفس أشياء من حتى، وما ذكر إنما هو في حكم اليسير إذ لا يسعنا نحن اليوم إلا أن نقف وقفة إجلال وإكبار أمام أعلام جامعة القرويين العامرة، أعلام جهابذة نبغاء فقهاء وعلماء، و وقفة تأمل ونظر أمام التراث الزاخر الذي خلفه أولئك العلماء في مختلف المجالات والعلوم، إذ استطاعوا على مر عصور أن يثبتوا جدارة، وكفاءة، ونباهة، وذكاء، غير مسبوقين، يُعلم ذلك من خلال جهودهم التي بذلوها في التأليف، و التصنيف، و التدريس، و النظر، والاجتهاد مسخرين في ذلك كل ما يمكن أن يُسهم في خدمة العلم وأهله، ذلك أنهم أغنوا رصيدهم العلمي والمعرفي، إما بشد الرحال إلى مدن وبلدان أخرى، أو إلى علماء بعينهم اشتهروا بالعلم والفقه، أو باستقبال نظرائهم ممن اختاروا هم بدورهم أن يشدو الرحال إلى فاس وتحديدا لجامعة القرويين للنهل من علومها، والاستفادة من شيوخها، نظرا لاشتهارها وذيوع صيتها بين سائر البلدان والأقطار.

             كما أن وقوفنا أمام كل ذلك - وغيره كثير- يوقض بداخلنا إحساسا بالتقصير، كما يوقض شعورا بالعجز عن أن نوفي ذلك الجيل حقه، ولو بالتعريف بهم، خاصة أولئك الذين اندرست سِيَرهم مع مرور الأيام والحقب والأزمان، وأفلت نجومهم واندثرت معها عطاءاتهم وجهودهم.

         نحن اليوم مهما بذلنا من جهد في النظر في هذا التراث، تحقيقا ودراسة، فإن كل مجهوداتنا ستجعل منه منطلقا وأرضية لها، وسيكون دورنا متمثلا بالأساس في إيجاد طرق وسبل لإخراج تلك الجهود الطيبة، إلى حيز الوجود أولا؛ لأن الكثير من المخطوطات لا يزال حبيس المكتبات العامة والخاصة لا يعرف أصحابها قيمتها، فتبقى عرضة للأرضة، وبالتالي التلف والاندثار وهي بحاجة إلى من يخرجها لترى النور وتكون بين يدي الراغبين والمهتمين، أما ثانيا فالتيسير والتسهيل ما أمكن، وتسخير كل ما من شأنه تحقيق ذلك وتقديمه للمبتدئ في طلب العلم كالمنتهي أو المواصل في طلبه على حد سواء.

             لقد استطاع علماء القرويين رحمهم الله القيام بالمسؤولية المنوطة بهم على أكمل وجه، وأداء الأمانه التي حملوها أجمل أداء، لحبهم وشغفهم الشديد بطلب العلم، ولحسن نيتهم، وصدق قصدهم، وسلامة سريرتهم، فكانت جامعة القرويين العامرة جامعا يقصده المصلون لأداء صلواتهم، كما كان جامعة تجذب أولئك المصلين أنفسهم بعد أداء شعائرهم الدينية لحضور جلسات العلم والفقه بكل ضروبه وفنونه، خاصة أنها كانت تجعل من أوقات الصلاة جدولا زمنيا لحلقات الدرس، يقصده كل من عشق مجالسة العلماء، وأحب التردد على أهل العرفان.

******************************************************************

المصادر والمراجع:

- سوس العالمة، للعلامة المختار السوسي، المقدمة.

- أرجوزة من زهر الآس عن جامع القرويين بفاس عبر القرون للأستاذ أحمد بن شقرون، منشورات وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية.

- ماضي القرويين ومستقبلها، للشيخ محمد عبد الحي الكتاني ضبط وتعليق الدكتور عبد المجيد بوكاري، الطبعة الأولى 2006، دار الكتب العلمية، لبنان.

- الندوة الدولية "السيرة النبوية في الكتابات الإسبانية" التي نظمها فريق البحث في السنة والسيرة وقضايا الاعجاز التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس - فاس والمركز الثقافي الاسلامي بمدريد أيام 22-23-24 أبريل 2008.

- تاريخ جامع القرويين  المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري للدكتور عبد الهادي التازي، دار الكتاب اللبناني بيروت.

- لسان العرب لابن منظور، دار الحديث القاهرة.

- المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405هـ) تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة: الأولى، 1411 – 1990.

الهوامش:


[1]- سوس العالمة، للعلامة المختار السوسي، المقدمة.

[2] - الأحزاب: 21.

[3] - الدرمك: دُقاق كل شيء، وفي الحديث في صفة أهل الجنة: وتربتها الدرمك، هو الدقيق الحوّارى، وفي حديث قتادة بن النعمان: فقدمت ضافطة من الدرمك ويقال له الدرمكة وكأنها واحدته في المعنى ومنه الحديث: أنه سأل ابن صياد عن تربة الجنة فقال درمكة بيضاء مسك، قال خالد: الدرمك الذي يدرمك حتى يكون دقاقا من كل شيء الدقيق والكحل وغيرهما وكذلك التراب الدقيق درمك. لسان العرب مادة [درمك].

[4] - الذاريات 56.

[5]- أخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين، كتاب الإيمان، الحديث رقم: 100 بلفظ: حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر المزني حدثنا إبراهيم بن أبي طالب و محمد بن إسحاق بن خزيمة قالا: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني، وحدثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم حدثنا الحسين بن محمد بن زياد و إبراهيم بن أبي طالب قالا: حدثنا زياد بن يحيى الحساني أنبأ مالك بن سعير حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة".

[6]- الأنبياء 107.

[7]- أشغال الندوة الدولية "السيرة النبوية في الكتابات الإسبانية" التي نظمها فريق البحث في السنة والسيرة وقضايا الاعجاز التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس– فاس والمركز الثقافي الاسلامي بمدريد أيام 22-23-24 أبريل 2008، مداخلة العلامة سيدي محمد بن حماد الصقلي "من دواعي القرب والوصول: معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم" ص 32.

[8]  - نفسه ص 34

[9]- أرجوزة من زهر الآس عن جامع القرويين بفاس عبر القرون للأستاذ أحمد بن شقرون، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص 26.

[10] - أرجوزة من زهر الآس، ص 16.

[11] - أرجوزة من زهر الآس ص6.

[12] - قراءة شعرية للأستاذ إدريس الجامعي، قدمت في الجلسة الختامية لندوة الدولية "السيرة النبوية في الكتابات الإسبانية"، كلية الأداب سايس فاس ص373.

[13]- تاريخ جامع القرويين، للعلامة التازي  1/124.

[14]- وهو المعني بقولهم " كرسي ما بين الشماعين وباب الموثقين"،  جامع القرويين 2/376.

[15]- تنبيه الصغير من الولدان على ما وقع في مسألة الهارب والهاربة من الهذيان لمدعي استحقاق الفتوى آجليان: انظر قصة تأليف الكتاب عند محمد حجي، معلمة المغرب 1/65.

[16]- تنبيه الصغير من الولدان، ضمن مجلة البحث العلمي، تحقيق محمد المنوني، ع7س3 يناير - أبريل 1966.

[17]- ماضي القرويين ومستقبلها، للعلامة محمد عبد الحي الكتاني، ضبط وتعليق الدكتور عبد المجيد بوكاري، الطبعة الأولى، 2006ـ  دار الكتب العلمية لبنان 1971، ص: 71.

[18] - تاريخ جامع القرويين، للعلامة التازي 2/376.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق