العاهل المغربي ضامن لحقوق الأقليات الدينية – حالة الدار البيضاء المخزنية –

الدكتور مصطفى مختار
باحث بمركز علم وعمران
دأب العاهل المغربي، ابتداء من نشأة قصبة الدار البيضاء العلوية، على جعلها حاضرة مبنية على التعايش بين المسلمين واليهود والمسيحيين.
ومن أجل تحقيق التعايش المذكور، كفل أمراء المؤمنين العلويون للأقليات الدينية القاطنة بهذه الحاضرة عددا من الحقوق. نذكرها تباعا:
حق العدل المكفول :
كفل سيدي محمد بن عبد الرحمان العلوي لرعاياه من يهود المغرب حق العدل في الأحكام، بمن فيهم يهود الدار البيضاء، بحسب ظهير محمدي جاء فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نأمر من يقف على كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره وأطلع في سماء المعالي شمسه المنيرة وبدره من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر إيالتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحدا منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام، ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام، وأن لا يتعدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وأن لا يستعملوا أهل الحرف منهم إلا عن طيب أنفسهم وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، ونحن لا نوافق عليه لا في حقهم ولا في حق غيرهم، ولا نرضاه لأن الناس كلهم عندنا سواء، ومن ظلم أحدا منهم أو تعدى عليه فإنا نعاقبه بحول الله، وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقررا ومعروفا محررا لكن زدنا هذا المسطور تقريرا وتأكيدا ووعيدا في حق من يريد ظلمهم، وتشديدا ليزيد اليهود أمنا إلى أمنهم، ومن يريد التعدي عليهم خوفا إلى خوفهم، صدر به أمرنا المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام ثمانين ومائتين وألف"[1].
وفي رسالة حسنية، عام 1297 هـ، إلى العامل محمد الطريس مطالبة للحاج الكرواوي "بأداء ما بذمته من دين لبعض التجار الأمريكان، وإيداعه السجن"[2].
حق العمل المشارك :
يظهر أن بعض يهود الدار البيضاء المغاربة كلفوا بصيانة البنية التحتية الحضرية، بإشراف المحتسب، وتمويل مستفادات المجازر، بحسب ما يبدو[3].
وكان لليهود المغاربة أو المسيحيين القاطنين بالدار البيضاء حق ممارسة التجارة[4] والصناعة[5] والخدمات[6]. وسمح لهم، خلال ذلك، بكراء بعض أملاك المخزن[7] أو بناء مستودع للاستفادة من خصم الضرائب غير المباشرة[8].
حق السكن اللائق :
سمح ليهود الدار البيضاء اختيار سكنهم سواء داخل الملاح[9] أو خارجه. حيث تحدثت الوثائق عن دار بلبحر اليهودي المغربي المواجهة لدار القاضي سيدي مَحمد بن محمد افرج الرباطي قرب المسجد العتيق[10]، مثل ما تحدثت عن دار أو داريْ إبراهيم وشوميل التدغيين[11]، ودار اليهودي المغربي المحمي يوسف النجليزي [12]. وتحدثت عن دار اليهودي المغربي ولد حسيسو، بعرصة خارج البلد[13].
وأشارت وثائق أخرى إلى دور الأجانب[14]، مثل دار جريول أو فريول[15]، والدار التي اكتراها مفتش صحة بالسفن، ونزل بها ويسجيربير قرب موضع زنقة الكومندار بروفو أو التي اكتراها بزنقة أسفي[16]، ومثل الدار التي اكتراها قنصل اليونان[17]، ودار بها "دينك" الإسباني[18]، والدار التي اكتراها التاجر كوب قنصل أمريكا، الملاصقة لهري المخزن[19]، ودار قنصل إسبانيا قرب نوالات الأعراب والهري نفسه[20]، ودار وعرصة ودار الصابون التي بناها جورج الإنجليزي أمام باب مراكش، ودار كارلو المسيحي، بعرصة خارج البلد[21].
وقصد المولى الحسن الأول في بناءه السور الجديد "أن يتخذ قصبة تختط بها دور الأجانب الأوروبيين النازلين بذلك الثغر من قناصل وتجار وغيرهم سعيا وراء جلب الراحة إليهم وإبعادا لهم عمن يخالفهم في العوائد ويباينهم في الذوق إذ لا تتم الراحة للإنسان إلا بجعله مع مجانسه وملائمه وتمكنه مما اعتاد على الطرز الذي أُلف من غير منتقد ولا مشغب وكان بناؤه على يد الأمينين الرباطيين محمد ابن سعيد المعروف بالكدر ثم الحاج عبد الخالق فرج محتسب الرباط"[22].
حق العيش الكريم :
أسهم الرواج الاقتصادي بالدار البيضاء في انخفاض الأسعار، بشكل حقق العيش الكريم لقاطنة هذه الحاضرة. ونظرا لذلك انصرف كثير من المسيحيين بها إلى الاستجمام والترويح عن النفس داخلها أو بضواحيها[23].
حق التدين المختلف :
ظل يهود الدار البيضاء المغاربة متشبثين بديانتهم. ووهبت لأصحاب الديانة المسيحية أرض لبناء كنيسة قرب نوائل الأعراب وهري المخزن، بموضع شارع طنجة[24]، بحسب رسالة حسنية جاء فيها: "الحمد لله، ولما ورد أمر مولانا الشريف أسماه الله على خديمه القائد السيد عبد الله حصار بالثغر البيضاوي وعلى الأمينين بمرساه السيد عبد السلام بناني والسيد الحاج محمد الطريس بتعيين البقعة التي أنعم بها أعزه الله بالثغر المذكور على حضرة الفخيم سلطان إسبانيا لصلاة النصارى المطلوبة بواسطة المحترم باشدورهم.
حضر القائد والأمينان المذكوران، وعينوا لقنصل حضرة السلطان المذكور مانويل دي لبراليس بقعة طولها اثنان وأربعون متر وعرضها ثلاثون مترا، ويحدها قبلة سكة نافذة، وجنوبا نوالات الأعراب، وشرقا سكة نافذة، وغربا هري المخزن الذي بيد جرش الانجليزي، وحازها القنصل المذكور من القائد والأمينين المذكورين بما يحاز به الأنعام حوزا تاما، وذلك في ثاني عشر جمادى الأخيرة عام أربعة وتسعين ومائتين وألف (ألحق يمنته بما يحاز به الانعام) طابع القائد عبد الله حصار ومحمد الطريس وعبد السلام بناني"[25].
ومُنح للفرايلية المسيحيين شبه حصانة دبلوماسية، بحسب ظهير عزيزي جاء فيه: "خدامنا الأرضين أمناء مرسى الدار البيضاء المحروسة وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله وبعد فقد طلب من عَلِيِّ جانبنا الفريلية الصبنيوليون إتمام الإنعام عليهم بعدم بحث حوائجهم الخاصة بهم المسرح لهم دخولهم لها بدون أعشار واستظهروا بظهائر شريفة لأسلافنا الكرام مصرحة بعدم فتح صناديقهم التي ترد لهم وقد ساعدناهم على طلبهم ونأمركم أن تجروا حوائجهم مجرى حوائج القناصل في دخولها من غير فتح ولا تفتيش والسلام في 21 حجة عام 1325"[26].
حق الانتماء الترابي :
كان ليهود الدار البيضاء حق الانتماء إلى أرض المغرب، في حين منحت للجالية المسيحية بالدار البيضاء[27] حقوق تمثيلية بأربع قنصليات فرنسية[28]، وإسبانية[29]، وإنجليزية [30]، وألمانية[31]، تضم تمثيليات إيطالية، وبرتغالية [32]، وبلجيكية[33]، وهولندية، ونمساوية، وهنغارية، وسويدية، ونرويجية، ودانماركية، وبرازيلية[34]، ويونانية[35]، وأمريكية[36].
حق الدفن المكرم :
وهب أمير المؤمنين المولى عبد العزيز بن الحسن العلوي للمسيحيين القاطنين بالدار البيضاء أرضا لتصبح مقبرة تكريما لموتاهم، بحسب ثلاثة ظهائر[37]، جاء في أولها: "خدامنا الأرضين أمناء مرسى الدار البيضاء المحروسة وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله وبعد فقد أخبرنا باشدور الفرنسيس أن المقبرة المعدة لدفن الأجانب هنالك ضاقت عليهم وطلب زيادة بقعة أخرى بجوار المقبرة المذكورة وبمحل آخر يكون طولها خمسين ميترا وعرضها كذلك ليجعلوه مقبرة لذلك وقد ساعدناه ونأمركم أن تجتمعوا مع عمنا مولاي الأمين وأمين المستفاد والناظر وتتفاوضوا في تعيين بقعة هنالك تصلح لما ذكر في مجاورة المقبرة القديمة أو بمحل آخر وتبينوا قدرها وتوجهوا لشريف حضرتنا صورتها ليظهر وقد كتبنا لعمنا المذكور والخدام المذكورين بمثله والسلام في 11 قعدة 1325"[38].
وجاء في الظهير العزيزي الثاني قوله: "خديمنا الأرضى ناظر أحباس ثغر الدار البيضاء وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله وبعد فقد أخبر باشدور الفرنسيس أن المقبرة المعدة لدفن الأجانب هنالك ضاقت عليهم وطلب زيادة بقعة أخرى بجوار المقبرة المذكورة أو بمحل آخر يكون طولها خمسين ميترا وعرضها كذلك ليجعلوها مقبرة كذلك وقد ساعدناه ونأمركم أن تجتمع مع عمنا الأرضى مولاي الأمين والخديم المديوني وأمناء المرسى وأمين المستفاد وتتفاوضوا في تعيين بقعة هنالك تصلح لما ذكر في مجاورة المقبرة القديمة أو بمحل آخر وتبينوا قدرها وتوجهوا لشريف حضرتنا صورتها ليظهر وقد كتبنا لعمنا المذكور والخدام المذكورين بمثله والسلام في 11 قعدة عام 1325"[39].
وجاء في الظهير العزيزي الثالث قوله: "خدامنا الأرضين أمناء مرسى الدار البيضاء المحروسة بالله وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله وبعد وصل جوابكم عن أمرنا الشريف الصادر لكم بالاجتماع مع عمنا الأمين والخديم المديوني وأمين المستفاد والناظر المفاوضة في تعيين البقعة التي طلب باشدور الفرنسيس زيادتها لدفن موتى الأجانب بها بجوار مقبرتهم القديمة ثمه بأنكم اجتمعتم لذلك وبعد المفاوضة خرجتم لتعيينها صحبة القبطان نائب الفرنسيس ثمه وترجمان قنصلهم فاختاروا البقعة التي سميتم ونفذ لهم القدر المطلوب منها وميزوه وشرعوا في الدفن فيه وصار بالبال والسلام في 26 صفر 1326"[40].
وإذ استثمرت الأقليات الدينية، بالدار البيضاء العلوية، حقوقها المذكورة، قامت مقابل ذلك بأداء بعض من واجباتها الحضرية، بحسب ما سنتطرق إليه لاحقا.
والله الموفق للصواب والمعين عليه.
الإحالات :
[1] كتاب الاستقصا، ج9، أحمد الناصري، تحقيق: جعفر الناصري & محمد الناصري، دار الكتاب، 1997 م، ص113- 114.
[2] عبير الزهور، ج1، هـ. المعروفي، مطبعة النجاح الجديدة، 2013 م، ص120.
[3] نفسه، ص119.
[4] تاريخ الضعيف الرباطي ، ج1، تحقيق: محمد البوشيخي، مطبعة النجاح الجديدة، 1988 م، ص395؛ وج2، ص451، وص454، وص479، وص481، وص494، وص505، وص594، وص618؛ وكتاب الاستقصا، ج8، ص99؛ وج9، ص151؛ وإتحاف أعلام الناس، ج1، عبد الرحمان ابن زيدان، إيديال، 1990 م، ص422، وص442- 444؛ وج2، ص321؛ وعبير الزهور، ج1، ص118، وص120، وص152، وص170، وص178، وص186، وص187، وص227، وص241، وص250، وص255، وص280، وص288، وص290، وص291.
[5] الأخير، ص296؛ وإتحاف أعلام الناس، ج1، ص422، وص442- 444.
[6] إتحاف أعلام الناس، ج1، ص123، وص422، وص423، وص444- 445؛ وعبير الزهور، ج1، ص117، وص296.
[7] عبير الزهور، ج1، ص256.
[8] إتحاف أعلام الناس، ج2، ص321؛ وعبير الزهور، ج1، ص151، وص259.
[9] إتحاف أعلام الناس، ج1، ص423؛ وعبير الزهور، ج1، ص261.
[10] عبير الزهور، ج1، ص159.
[11] نفسه، ص254، وص255- 256.
[12] نفسه، ص292، وص293.
[13] نفسه، ص259.
[14] إتحاف أعلام الناس، ج1، ص423، بتصرف، وص428، بتصرف، وص431؛ وعبير الزهور، ج1، ص117، وص151، وص318.
[15] الاغتباط بتراجم أعلام الرباط، محمد بوجندار الرباطي، تحقيق: أحمد نجيب، دار المذهب، 2014 م، ص371؛ وعبير الزهور، ج1، ص117.
[16] عبير الزهور، ج1، ص149.
[17] نفسه، ص255.
[18] نفسه، ص294.
[19] نفسه، ص252، وص254.
[20] نفسه، ص256.
[21] نفسه، ص259.
[22] إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، ج1، ص431- 432.
[23] عبير الزهور، ج1، ص149- 150، وص153- 154.
[24] نفسه، ص148، وص256، وص282؛ وإتحاف أعلام الناس، ج3، ص493.
[25] عبير الزهور، ج1، 256.
[26] إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، ج1، ص435.
[27] نفسه، ج1، ص428، وص430، وص431، وص435؛ وعبير الزهور، ج1، ص117، وص151، وص241، وص326.
[28] إتحاف أعلام الناس، ج1، ص421، وص425، وص438، وص439؛ وج2، ص369؛ وعبير الزهور، ج1، ص151، وص281.
[29] إتحاف أعلام الناس، ج2، ص370؛ وج3، ص461؛ وعبير الزهور، ج1، ص119، وص149، وص151، وص170، وص172- 173، وص256، وص283، وص292، وص294، وص325.
[30] عبير الزهور، ج1، ص151، وص293.
[31] نفسه، ص151، وص288، وص289، وص290، وص291.
[32] نفسه، ص151.
[33] إتحاف أعلام الناس، ج2، ص386؛ وعبير الزهور، ج1، ص151،وص157، وص288، وص289، وص290، وص295.
[34] عبير الزهور، ج1، ص151.
[35] نفسه، ص151، وص255.
[36] نفسه، ص151، وص252، وص254؛ وإتحاف أعلام الناس، ج2، ص388.
[37] إتحاف أعلام الناس، ج1، ص437- 439. انظر: نفسه، ج3، ص493.
[38] نفسه، ج1، ص437- 438.
[39] نفسه، ج1، ص438.
[40] نفسه، ج1، ص438- 439.