الشيخ سيدي أبو زيد عبد الرحمن المكودي (ت807هـ)

هو الشيخ البركة، الإمام العالم، العلامة الهمام، الفقيه النحوي، التصريفي اللغوي، الناظم الناظر، الولي الصالح، العارف بالله تعالى، سيدي أبو زيد عبد الرحمن بن علي بن صالح المكودي، شارح ألفية ابن مالك في علم النحو، سمي بالمكودي نسبة إلى قبيلة بني مكود، إحدى قبائل هوارة الواقعة بين فاس وتازة، الفاسي الدار والمحتد والوفاة.
ولد سيدي عبد الرحمن بمدينة فاس ونشأ في بيت علم وتقوى وصلاح وجاه، فدرج على سنّة أهل بيته من طلب العلم والجد في تحصيله والاجتهاد في العمل به، وبيتهم يعتبر من أهم بيوت الفقه والكتابة والعدالة والجاه بفاس، ولهم زقاق بها يقال له قديما عقبة المكودي.
تلقى سيدي عبد الرحمن تكوينه على يد مجموعة من الشيوخ؛ أبرزهم الفقيه الأصولي أبو محمد عبد الله الوانقيلي الضرير، والشيخ أبو عبد الله سيدي محمد بن حياني. وبعد سنوات من الجد والاجتهاد في التحصيل العلمي والعمل الديني، أصبح لسيدي المكودي مكانة مرموقة في الوسط العلمي، وذاعت شهرته في حياته المشرق والمغرب، وكان مقدرا ومُجَلاّ من لدن العامة والخاصة، وذلك بفعل ما حصّله من معرفة كبيرة بالعلوم الشرعية، والعلوم اللغوية والنحوية على وجه التحديد، وأيضا بفعل ما عرف عنه من ورع وتقوى وصلاح، وقد كانت له شهرة واسعة بهذا الجانب أيضا، غير أنه وبفعل انتشار كتبه في النحو اشتهر بهذا البعد أكثر من غيره؛ أي بجانب كونه لغويا ونحويا دون أمر آخر من حياته، خاصة عند المتأخرين.
والحقيقة أن سيدي عبد الرحمن المكودي مثلما أنه كان من كبار العلماء هو أيضا يعدّ من كبار الأولياء والصلحاء في وقته وذلك بشهادة كل من ترجم له، وقد عدّه صاحب السلوة من كبار الصلحاء، والعارفين، بسبب ما حصّله من مكانة كبيرة في الصلاح والورع، فهو يعد من كبار العلماء والصلحاء في نفس الوقت.
أخذ عنه جم غفير، أبرزهم الشيخ أبو عبد الله محمد ابن مرزوق الحفيد، والشيخ أبو عبد الله الكاواني شيخ الإمام ابن غازي، والشيخ أبو زيد عبد الرحمن الجادري الفاسي، وغيرهم. توفي سيدي عبد الرحمن المكودي –رحمه الله- بفاس في الحادي عشر من شعبان سنة سبع وثمانمائة، وقيل سنة إحدى وثمانمائة، والأول أصح وأرجح، دفن بحومة الأصْدَع، من عدوة القرويين، قريبا من باب الجيسة، إحدى أبواب فاس، وقبره هناك بمسجد معروف.
يعتبر سيدي عبد الرحمن المكودي نموذجا للصلحاء الذين انخرطوا بفاعلية وأسهموا بتميّز في تنشيط الحركة العلمية، حتى صاروا يُعرفون ويُحسبون على تلك الميادين المعرفية التي أغنوها أكثر من كونهم صلحاء وأولياء، مما يُظهر البصمة الكبيرة التي تركوها في هذه الميادين المعرفية التي تصدّروها، وليس سيدي عبد الرحمن سوى واحد من هؤلاء الصلحاء الذين ينطبق عليهم هذا الأمر، فهو لنبوغه في علوم اللغة وفي النحو بشكل خاص، أصبح يُعرف بهذا الميدان أكثر من اشتهاره بالولاية والصلاح، والحق أن ما لا يعرفه كثير من المثقفين والجامعيين عن هذا الولي فضلا عن العامة، أنه كان من أبرز صلحاء وقته وأولياء عصره، فجُلّ معاصريه أثنوا على ورعه وتقواه، وأكدوا على ولايته وخصوصيته، بما فيهم تلامذته مثل الشيخ أبو عبد الله محمد ابن مرزوق الحفيد، الذي كان يثني كثيرا على علمه ودينه وصلاحه، وقال عنه الكتاني في السلوة: "وبالجملة فقد كان ذا قدم راسخ في العلم والولاية". وقد أثِرَت عنه مجموعة من الكرامات التي تدل على مكانته وعلو كعبه في سماء الولاية والصلاح، وقد كان مستجاب الدعوة، وهو مجرب عند العامة والخاصة، سواء بالخير أم بالشر عند وجود مظلمة في حقه، فقد أثر عنه أنه ألف شرحين لألفية ابن مالك، شرحا صغيرا وهو المتداول إلى الآن، وشرحا كبيرا قيل: إنه ألّفه وأُتلف وتعرض للضياع، وهو شرح نفيس، قيل: لو بقي ما التفت الناس إلى غيره، لكن أحرقه أعداؤه حسدا في بيت النار من فرن حومة الشطة، إلا أوله؛ فهو موجود بفاس كما ذكره في "نيل الابتهاج"، فدعا عليهم سيدي عبد الرحمن، –وكانت دارهم دار علم- فقطع الله منهم العلم، وكشف عنهم الستر وعن ذريتهم. ومن شعره في هذا الباب الذي يدل على صلاحه قوله مخاطبا لله تعالى ومتضرعا إليه:
إذا عرضت لي في زماني حاجة | وقد أشكلت فيها علي المقاصد |
وقفت بباب الله وقـفـة ضارع | وقلت إلهي إنني لك قاصد |
ولست تراني واقفا عـند باب من | يقول فتاه سيدي اليوم راقد |
لا يخفى ما أسهم به هذا الولي في الساحة العلمية، بسبب نبوغه الكبير في علوم اللغة والنحو والتصريف والعروض والشعر وغيرها، التي تصدر فيها تدريسا وتأليفا، فهو يعتبر إمام النحاة في وقته، وأعلم أهل زمانه باللغة، ويظهر ذلك من خلال لما تركه من مؤلفات متفردة في هذا الباب، فقد كان إماما بارعا في العلوم كلها، وقد تصدٍّر للتدريس –خاصة علم النحو- في أهم المدارس العلمية بفاس، فكان يدرّس كتاب سيبويه بمدرسة العطارين، وهو آخر من درّسه بفاس، كما ذكره الولي الصالح سيدي أحمد بن الحاج، ودرّس بغيرها كمدرسة الصهريج، وأما مؤلفاته فهي كثيرة، أبرزها شرحه على الألفية، الذي يعتبر من أحسن الشروح عليها، وقد كُتب له انتشار كبير وعمّ به النفع في المغرب والمشرق منذ تأليفه وإلى الآن. إلى جانب شرح المقدمة الأجرومية، وشرح المقصور والممدود لابن مالك، ثم البسط والتعريف في علم التصريف، ونظم المعرب من الألفاظ، والمقصورة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، في نحو ثلاثمائة بيت، وغيرها من المؤلفات الأخرى.
كان سيدي عبد الرحمن المكودي رحمه الله -كما وصفوه- إماما بارعا في العلوم كلها، عالما، عاملا، ورعا، زاهدا، صالحا، أحد الأعلام الأساتيذ والنحاة بفاس، وكان من الفاعلين الأساسين في الحياة المجتمعية ومن المؤطرين لها، سواء من خلال التدريس والتعليم، أو من خلال تقلده لمهنة العدالة، إلى جانب ما أثر عنه واشتهر به من حالة بهية، وأحوال سنيّة، وأخلاق فاضلة، إذ كان نموذجا للعالم العالم الذي يوجه الناس ويحثهم على الالتزام بمكارم الأخلاق ويدفعهم للتدين السليم المنبني على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال؛ بالرفق واللين والتدرج؛ على عادة العلماء الربانيين والمصلحين المتنوين.
تنظر ترجمته في:
سلوة الأنفاس، ج ، ص: 200.