قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي(790هـ):
قد يسوغ للمجتهد أن يحمّل نفسه من التكليف ما هو فرق الوسط، بناء على ما تقدم في أحكام الرخص، ولما كان مفتياً بقوله وفعله كان له أن يُخفى ما لعله يُقتدى به فيه فربما اقتدى به فيه مَن لا طاقة له بذلك العمل فينقطع وإن اتفق ظهوره للناس نبّه عليه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل؛ إذ كان قد فاق الناس عبادةً وخلقاً، وكان عليه الصلاة والسلام قدوة؛ فربما اتبع لظهور عمله؛ فكان ينهى عنه في مواضع؛ كنهيه عن الوصال، ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم. وقد قال تعالى:(واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) [الحجرات: الآية 7].
وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين.
وأنكر على الحولاء بنت تُويْتٍ قيامها الليل. وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. ولهذا - والله أعلم - أخفى السلف الصالح أعمالهم لئلا يتخذوا قدوة، مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء؛ لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه.
فصل: إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح؛ فلينظر المقلِّد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالإتباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد؛ فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرِقُ في القياس إلا يفارق السنة، فإن كان ثم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله، والله أعلم.
المصدر: كتاب الموافقات، لأبي إسحاق الشاطبي (5/278-279)، طعة دار ابن القيم / دار ابن عفان، الطبعة الثانية 1427هـ/2006م، تحقيق أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان.
انتقاء: د. مصطفى عكلي.