وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي و بعض الإضاءات حول كتابه ” الفتوحات الإلهية”

 

ولد سيدي محمد بن عبد الله  بمكناس سنة 1134 هـ ، ونشأ نشأة علمية شرعية على يد جدته خناثة بنت بكار، وحج معها سنة 1143هـ، وأخذ الطريقة الناصرية عن شيخه أبي العباس الشرادي أوائل نزوله بمراكش، وتتلمذ أيضا على الفقيه عبد الله المنجرة، والمحدث أبو العلاء إدريس بن عبد الله العراقي الحسني  وغيرهما .... فقام بحماية الشواطئ المغربية، وتحرير مدينة الجديدة من يد البرتغال، وانتصر في معركة العرائش على الجيش الفرنسي، وهو أول رئيس دولة عربية إسلامية اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية،  وله عدة مؤلفات وأهمها كتاب "الفتوحات الإلهية  في أحاديث خير البرية"، وهي أشهر مؤلفاته، اعتنى بها المغاربة والمشارقة تدريسا و شرحا، كما أكد هذه العناية السلطان المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه الذي أمر بطبع هذا الكتاب ونشره.

  تربى السلطان سيدي محمد بن عبد الله في أحضان جده المولى إسماعيل، وقد اعتنى بتعليمه على قاعدة الملوك العلويين الذين يولون العلم اعتماما كبيرا، فكان أول من أخذ عنه جدته السيدة خناثة بنت بكار، التي رضع منها صحيح العلم والمعرفة، ولما بلغ التاسعة من عمره صاحب جدته المذكورة إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج…

  وبعد الرجوع من الحجاز تابع تعلمه، وممن أخذ عنهم كذلك، أبو محمد بن عبد الله بن إدريس المنجرة، وكان له على صغر سنه ولوع بالعلم وإقبال كبير عليه، حتى صار له باع طويل في كل فنونه العقلية والنقلية.

  وهكذا يمكننا أن نقول إن السلطان سيدي محمد بن عبد الله ولد ونشأ في أوج عظمة الحكم العلوي، ونشأ بين خيرة العلماء والأدباء الذين كان يزخر بهم البلاط الإسماعيلي …

  وفي سنة 1171هـ، بويع ملكا للمغرب بعد وفاة والده، وكان عمره آنذاك سبع وثلاثين سنة، وعلى عظم وخطورة المسؤولية التي تكلف بها، فإنه استمر على عادته في الأخذ عن أهل العلم ومذكراتهم، بل كان من أول الأعمال التي قام بها بمجرد بيعته ودخوله إلى فاس، هو اتصاله بأهل العلم، وتقريبهم و إكرامهم [1].

  كان السلطان محمد بن عبد الله قوي الشكيمة منصرفا عن اللهو والعبث، نشأ نشأة دينية في كنف جدته لأبيه خناثة بنت بكار، فحفظ القرآن وأمهات الكتب الفقهية وتربى على يد صفوة علماء وأدباء عصره، ولعل هذا من أهم الأسباب التي حفزت همته لإنقاذ الأمة من الفوضى، ففي الوقت الذي كان والده يترقب أن تضع الفتنة أوزارها وأن ينتصر العبيد على البربر أو البربر على العبيد أخذ محمد بن عبد الله زمام المبادرة، وكان حكيما في تدبير الخلاف الذي استشرى بين مكونات المجتمع حينها، وقد استشعر العبيد خطورة مخططه فبايعوا ابنه يزيدا وأعادوا البلاد سيرتها الأولى، لكنه تمكن منهم بالحيلة ولم يبطش بهم، إذ دعاهم إلى الاجتماع بدار عربي في بلاد سفيان ثم أمر قبائل الغرب فأخذتهم للخدمة عنوة، ولما تأدبوا أرجعهم للجيش وكون منهم شوكة قوية للبلاد لا عليها. أما ابنه الذي ما فتئ يؤلب الناس عليه فقد تبرأ منه وكتب البراءة في مناشير علقها في الكعبة ووزعها في المدن وأرسلها لمعاصريه من السلاطين حتى لا يؤويه في بلاده منهم أحد. و بعد أن تم الأمر للسلطان محمد بن عبد الله واستقرت البلاد اتجه إلى بناء جيش قوي يحفظ البلاد من الأطماع الخارجية وبادر إلى تحرير الثغور ورد عدوان المستعمرين [2].

وقد ركز السلطان على صناعة السفن لما لها من دور في الحرب يومئذ، فبنى مصنعا للسفن بالعرائش، فبلغ أسطوله البحري ستين قطعة وعدد بحارتها ستة آلاف، واهتم بأسباب تقوية الجيش أيما اهتمام، يقول الضعيف الرباطي: «وأعظم من هذا كله ما فيه من الوجهة للجهاد وجمع آلاته وجميع ما يحتاج إليه من عدة وعدد، وقد جمع من ذلك ما لا يتفق لأحد ممن تقدمه وسخر الله له السفن في البحر من أهل سلا ورباط الفتح وغيرها…

  ولما فرغ أمير المؤمنين المولى محمد رحمه الله من أمر الوفود أخذ في الاستعداد للنهوض إلى الغرب فخرج من مراكش في عسكر الحوز حتى انتهى إلى مكناسة فدخل دار الملك … [3].

  ثم لما قضى إربه من مكناسة ارتحل إلى فاس ولما نزل في عساكره بالصفصافة خرج لملاقاته الودايا، وأهل فاس فهش للناس وألان جانبه لهم واختلط بهم فكانوا يطوفون به ويقبلون أطرافه ولا يمنعهم أحد وفرق المال والكسوة والسلاح في الودايا وعبيد السلوقية وأعطى الفقهاء والأشراف وطلبة العلم وأهل المدارس والمكتبيين والأئمة والمؤذنين والفقراء والمساكين وأزاح علل الجميع ولم يحرم أحدا [4].

  قال صاحب البستان: " فورد علينا أمر السلطان بالعرائش أن نخرج إلى لقائهم في الجند وقبائل الحوز يعني حوز العرائش قال فوافيناهم على وادي سبو فتولى أهل الغرب جر تلك المدافع والمهاريس إلى أن أوصلوها إلى وادي الدردار قرب تاجناوت ثم جرها أهل العرائش وقبائل حوزها إلى المدينة وكان يوم دخولها مهرجانا عظيما أخرجت فيه المدافع والمهاريس والبارود وتسابقت القبائل على الخيول ولعبوا بالبارود إلى المساء ثم رجع المولى يزيد ومن معه من الرؤساء والبحرية والطبجية إلى حضرة السلطان بمكناسة، وقد تم الغرض المقصود" [5].

  قال الكاتب أبو العباس أحمد بن المهدي الغزال في رحلته ما ملخصه:" إن السبب في بناء مدينة الصويرة هو أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله كان له ولوع بالجهاد في البحر واتخذ لذلك قراصين حربية تكون في غالب الأوقات بمرسى العدوتين ومرسى العرائش وكان سفرها في البحر مقصورا على شهرين في السنة زمان الشتاء لأن المراسي متصلة بالأودية وفي غير إبان الشتاء يقل الماء ويعلو الرمل بأفواه المراسي فيمنع من اجتياز القراصين بها ويتعذر السفر ففكر السلطان رحمه الله في حيلة يتأتى بها سفر قراصينه في سائر أيام السنة فبنى ثغر الصويرة واعتنى به لسلامة مرساه من الآفة المذكورة" [6].

  قام السلطان سيدي محمد بن عبد الله بجولة لتفقد الثغور سنة 1173 هـ - 1759م، فانطلق من مراكش إلى مكناس، ومنها إلى تطوان، حيث أشرف على بناء برج مارتيل؛ ومن ثم عرج على سبتة… وهكذا ولى العاهل المغربي وجهته شطر البريجة أولا، ومليلية ثانيا، وفي جولته المذكورة، مر بضواحي طنجة لاستقبال وفودها وسلطاتها، وزار العراش التي كانت خالية من السكان تقريبا، مع حاجتها إلى حامية كافية، فقام بتزويدها بمائة من جيش مكناس، وعين عليها واليا، هو عبد السلام بن علي وعدي، ثم توجه نحو الرباط وسلا حيث أمر ببناء برج بكل منهما، وبإنشاء سفينة لكل منهما… [7].

  ومن جانب آخر، فإن العناية التي أولاها السلطان سيدي محمد بن عبد الله للمجالس الحديثية، كان له أثر بالغ على حركة التأليف الحديثي، سواء في مجال التأليف المستقل، أو في مجال الشروح والحواشي والمختصرات، كما أنه كان يوجه بعضهم إلى التأليف في مجال معين، ويملي على من كلفهم التعليمات التي يراها مناسبة لذلك التأليف… [8].

  فكان فرط اهتمام السلطان سيدي محمد بن عبد الله وولعه بكتب الحديث، جعله يبحث على النسخ الجديدة منها، فهاهو الزياني يخبرنا عن رحلته إلى إسطنبول وجلبه لبعض نسخ كتب الحديث بأمر من السلطان، فنجده يقول: " … ولما قضيت الغرض واشتريت الكتب التي أوصاني بشرائها أمير المؤمنين، وهو مسند أبي حنيفة النعمان، ومسند الإمام الشافعي، ومسند الإمام أحمد، والطريقة المحمدية والمختصرة من الإحياء، التي اقتصر فيها على ما هو مشهور، وبين أعلام الأمة يدور، أعطاني الوزير الأعظم اختصار المواهب الأربع في سفر، وكتاب الغرر المتداول عندهم في الفقه الحنفي كخليل عند المالكية، وشرحه المسمى بالدرر على الغرر في سفرين كالزرقاني [9].

  وجاء في كتاب إتحاف أعلام الناس :  "ورتب أوقاتا لسرد الأحاديث النبوية والتفهم في معانيها مع قادة علماء وقته وضبطها ضبطا محكما لا يكاد يتخلف وقت منها، وانتقى جماعة من أعيان فحول علماء دولته لسمره ومجالسته، فكان يملى عليهم الحديث النبوى ويؤلفونه على مقتضى ما يشير عليهم به، منهم العلامة الحجة أبو عبد الله محمد بن أحمد الغربى الرباطى، وأبو عبد الله محمد بن المسير السلوى، وأبو عبد الله محمد الكامل الراشدى، وأبو زيد عبد القادر بوخريص، وأبو محمد بن عبد الصادق، وأبو الحسن على بن أويس الفيلالى، وأبو محمد عبد السلام بن بوعزى حركات السلوى، هؤلاء هم المخصوصون من أهل مجلسه بالتأليف والدراسة والخوض في جمع ما يملى عليهم، ويأمر بتدوينه طبق ما يريد.

  وجلب المحدثين من فاس ومكناس لمراكش، كالعلامة الشريف مولاى عبد الله المنجرة أخ مولاى عبد الرحمن، والفقيه الأديب أبى عبد الله محمد بن الشاهد، نقلهما إليها من فاس، وأبى العباس أحمد بن عثمان مار الترجمة نقله إليها من مكناس، والسيد محمد بن عبد الرحمن الشريف نقله إليها من تادلا، وأبى الفضل الطاهر السلوى، والشيخ الطاهر بن عبد السلام فرقهم على مساجد مراكش لتدريس العلم ونشره بين العباد، ثم يحضرون مجالسه بعد صلاة الجمعة للمذاكرة في الحديث والتفهم في معناه، وكان له اعتناء خاص بمولاى عبد الله المنجرة، وأخيه مولاى عبد الرحمن". [10].

يعرف المترجم بمؤلفات السلطان سيدي محمد بن عبد الله ، وهي :

- "مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه الصبيان"، إذ جمع فيه "مسائل مهمة من علم أمور الدين، قريبة المقاصد شهيرة، الموارد، مقتصراً فيها على الضروري ليسهل حفظه على الصبيان وهي أيضاً نافعة لمن اقتصر عليها في دينه من الشيوخ والكهول والشبان، طبق الأرطاب، فيما اقتطفناه من مساند الأئمة وكتب مشاهير المالكية والإمام الحطاب، وهو ثمرة إعادة جلالته النظر في مؤلف له آخر وهو الفتح الرباني فيما اقتطفناه من مساند الأئمة وفق الإمام الحطاب والشيخ ابن أبي زيد القيرواني" الذي كان في أصله تتمة لمؤلفه. بغية ذوي البصائر والألباب في الدرر المنتخبة من تأليف الحطاب، الذي كان قد اقتصر فيه على عقيدة ابن أبي زيد وكتابي الطهارة والصلاة الجامع الصحيح الأسانيد المستخرج من ستة أسانيد" و هو كتاب استخرجه من الصحيحين والموطإ  ومسند أحمد والشافعي وأبي حنيفة، ورتبه على أبواب الفقه من عبادات ومعاملات.

- الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية، وهو الكتاب الذي سنسلط عليه بعض الأضواء في هذا المقال.

مخطوط الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية

 

   في مقدمة هذا المخطوط الحديثي،  ذكر فيه السلطان سيدي محمد ين عبد الله الدافع الذي دفعه إلى تأليف كتاب "الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية"، وقد ذكر فيه أسانيد الأئمة الثلاثة، الإمام أبو حنيفة النعمان، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أحمد ابن حنبل،  وذكر فيه الموطأ والصحيحين البخاري ومسلم .

 وقد قسم فيه الأحاديث التي أوردها إلى سداسية، أي التي أخرجها كل من الأئمة الأربعة، وكذا الإمامين البخاري ومسلم.

 ثم إلى خماسية، أي التي لم يخرجها واحد من الستة المتقدمين ورباعية وثلاثية و ثنائية.

كما ذكر في هذه المقدمة بقية محتويات الكتاب، كذكره آل البيت والخلفاء الراشدين ثم مسندات الأئمة الأربعة...

  هذا الترتيب الذي اعتمده السلطان سيدي محمد بن عبد الله  يعد سابقة من نوعها بالنسبة للترتيبات التي كانت معتمدة من قبل ويتميز هذا الكتاب بغزارة الأحاديث، حيث بلغ عددها ألفين ومائتين واثنين وستين  حديثاً، حرص السلطان سيدي محمد بن عبد الله على إيراد الحديث النبوي الشريف بجميع رواياته، ويعد كتاب " الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية" ، موسوعة علمية ومعلمة مميزة من معالم البحث في المجال الحديث النبوي الشريف.

 

[1] - مجلة المعرفة – النهضة الحديثية في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله- محمد الأجود  العدد: 12 يناير 2024م.

[2] - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا (3/6) دار الكتاب – الدار البيضاء.

[3] - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا (3/6) دار الكتاب – الدار البيضاء.

[4] - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا (3/6) دار الكتاب – الدار البيضاء.

[5] - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا (3/6) دار الكتاب – الدار البيضاء.

[6] - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا (3/20) دار الكتاب – الدار البيضاء.

[7] - دعوة الحق – بعض منجزات السلطان المولى محمد بن عبد الله- العدد 221.

[8] - مجلة المعرفة – النهضة الحديثية في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله- محمد الأجود  العدد: 12 يناير 2024م.

[9] - مجلة المعرفة – النهضة الحديثية في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله- محمد الأجود  العدد: 12 يناير 2024م.

[10] - إتحاف أعلام الناس بجمال حاضرة مكناس ج 2ص  219 الطبعة الأولى 2008 م.

ذة. رشيدة برياط

باحثة بمركز علم وعمران

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق