وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

الدار البيضاء بضواحي حاضرة سبتة

الدكتور مصطفى مختار

باحث بمركز علم وعمران

 

 يبدو أن مدشر الدار البيضاء كان بمجال جبل بليونش (جبل النور أو جبل غمارة سابقا)، بضواحي حاضرة سبتة، حرسها الله [1]. وهو غالبا ليس بالمحل المعروف حاليا بالفنيدق، بخلاف ما ظنه العلامة سيدي محمد داود، رحمه الله [2].

  شكّل المدشر المذكور مجالا مأهولا خلال العصر الموحدي، بحسب ما جاء في قول سيدي محمد محيي الدين ابن العربي الحاتمي، متحدثا عن أحد الصلحاء: "وشهدت احتضاره بالدار البيضاء إلى أن قضى، وسافرت من يومي لاستعجال قومي" [3].

  ونظرا لأهمية المجال الاستراتيجية قربا من حاضرة سبتة، عمِل الباشا علي بن عبد الله الحمّامي على بناء شبه قلعة هناك سميت قلعة الدار البيضاء أو رباط سبتة [4]. ولعل ابنه الباشا أحمد بن علي بنى هناك دارا كبيرة ومسجدا ذا صومعة حذاءها [5]. وقرب هذا المكان وقعت بين المغاربة والإسبان معركة في 2 محرم عام 1115 هـ/ 18 ماي 1703 م [6]. وبه وقعت بينهم معركة أخرى في ربيع الثاني عام 1132 هـ [7]. وقيل في 20 محرم عام 1133 هـ/ 21 نونبر 1720 م [8]. وقرب المكان نفسه وقع أكثر من معركة بين الطرفين [9].

  وتتشكل القلعة المذكورة من محيط محصن. أحاطت بها مخيمات الجند الرسمي والمتطوعين المتغيرين على رأس كل شهر. وبجواره مسجد كبير به صومعة، ودُور حجرية بيضاء، وحمّام وحضائر وبساتين. وبجانبه خزين البارود ودار الحريم. وبيمينه سور قديم تظهر من مشارفه أبراج سبتة القديمة. وتبين خريطة أجنبية، تعود إلى عام 1717 م، بوضوح محيطا عمرانيا في شكل شبه مستطيل غير منتظم [10].

 ومَثّل هذا الرباط، منذ العهد الإسماعيلي، مجال حراسة شبه دائمة [11]. وفي هذا الصدد تلقى قائد القصر الصغير، السيد محمد الصريدي، عام 1197 هـ/ 1783 م، أمرا بإعادة بناء الدار البيضاء قصد إيواء فيلق جند يضم ستين مخزنيا [12].

  وخلال عام 1256 هـ/ 1840 م كان هذا الرباط محتاجا إلى إعادة البناء. حيث تضررت السقوف والأبواب والنوافذ والجدران. لذلك أمر أمير المؤمنين المولى عبد الرحمان بن هشام العلوي السيدَ محمدا أشعاش، عامله على تطوان وناحيتها، بالتكفل بذلك عام 1260 هـ/ 1844 م، على مراحل بدءا من تسقيف الدار أو الدويرة، وسط محيط السور، والمسجد، والإقدام على إصلاح المتبقي بعد ذلك. فتولى مهمة البناء السيد بوسلهام بن علي أزطوط، بمساعدة أهل أنجرة الأشاوس [13].

  ولعل بعضا من الإصلاح الأخير هو ما لقيه شاهد عيان إسباني. فلنستمع إلى ما خطّه يراعه: "لم يبق من هذا البناء إلا بعض الأساسات والفناءات نصف مهدمة ما زالت ممراتها المعرشة تحافظ على بعض التخريمات الأنيقة، وبعض الفسيفساء والتلبيسات المورقة التي تدل على الماضي الجميل للبناية.

  ويغلب على أجنحة هذا البناء وأبراجه شكل المعمار الموجود في قصر إشبيلية، إلا أن جزأه القديم الذي كان، دون شك، أفخم أجزائه، فتدل بقاياه على ذوق آخر رفيع وأنيق هو الذي تتشح به حمراء غرناطة.

  وقد رأيت في غرفة مليئة بالأنقاض، يبدو وكأنها كانت الحمّام الأكبر، قطعة من قبة يثير شغلها الإعجاب، وقطعة أخرى من النقوش حافظت، رغم الرياح والأمطار، على انعكاس بريقها ذي الألوان الذهبية والقرمزية الدقيقة.

  ولم تكن لتغيب عن هذا البناء الصحون الواسعة يتوسطها صهريج، ولا النوافذ المشبكة ذات الأشكال الفنية، والأعمدة المصطفة، والأقواس والمشاكي. وقد بقيت أمارات تدل على مختلف نواحي البناء واستعمالات غرفه. فمنها ما كان لإقامة الحريم، ومنها ما كان للاستقبال، وبعض النواحي كانت عبارة عن تحصينات معدة للدفاع، وأخرى للجنان...

  فيما عدا ذلك، فإن المظهر الخارجي لبناية السراي، خاصة جانبها الذي ما زال  قائما، وهو الذي يطل على سبتة، لا يقدم شيئا متميزا للناظرين، سوى البرج  الموريسكي" [14].

  ويبدو أن محيط هذا الرباط شكل مجال نشاط ثقافي. لعل به كان "الشيخ أبو عبد الكريم بن السيد أبي الحسن علي بن محمد بن أبي عمران موسى الشريف العمراني الحسني أصله من دار البيضة وقبره بورغة" [15].

  ويظهر أن المحيط المذكور مثّل مجال صلاح درقاوي، بحسب قول سيدي أحمد ابن عجيبة: "ثم رجعنا إلى قبيلة انجرا وذهبنا إلى ناحية سبتة نذكر الناس مدشرا  مدشرا حتى بلغنا إلى مدينة سبتة. فهبطنا تحت الشبر قريبا من سور المدينة فقعدنا هناك حلقة الذكر. وخرج النصارى راكبين وراجلين فتبعنا نصرانيان منهم مجذوبان حتى إلى دار بيضاء فوقفا حتى غبنا عنهما" [16].

  وظل الإسبان يحاولون الاستيلاء على حصن الدار البيضاء خلال محادثات "ترسيم الحدود" الهادفة إلى تسرب سلمي يطال جزءا من التراب المغربي [17]. حيث طلب حاكم سبتة من سيدي محمد بن عبد الله العلوي مساحة لرعي الأغنام حددها من "دار القائد علي بن عبد الله الحمامي، المعروفة بالدار البيضاء، إلى بنيقات عبيد البخاري، الواقعة بجوار قالة الرمل، (رباط الجويمع فيما بعد)، وهي النقطة المشار إليها في خريطة معاصرة بحرف"L" [18]. وأعدّ مخططا لإبعاد مقر الحراسة المغربية، مطالبا بتحديد مساحة فاصلة، بين حاضرة سبتة المغتصبة و"التراب المغربي"، "من سور المدينة إلى قلعة الدار البيضاء، أو دار القائد علي بن عبد الله الريفي" [19]. الشيء الذي عبّر عنه، بوضوح، رئيس الحكومة الإسبانية وهو يراسل حاكم سبتة: "سأرى ما إذا كان ممكنا الحصول على توسيع الحدود إلى دار سيرايو (الدار البيضاء)، وإذا لم يتيسر سنقف على الأقل عند المكان المعلم في الخريطة المرفقة بحرف "H" [20].

  وفي بدايات عيطة (حرب) تطوان تم الاستيلاء على قلعة الدار البيضاء حيث جرى بعدُ تدافع بين الطرفين حربا وسلما. وجُعلت قاعدة للتوسع نحو تطوان. وبعد الصلح تم ضم القلعة المذكورة إلى المجال المغتصب حيث توجد إلى الآن [21].

  وبذلك، شكّلت مناورات الإسبان للاستيلاء على قلعة الدار البيضاء مقدمة كبرى أدت إلى مقدمة صغرى (احتلال القلعة) أدت، بدورها، إلى نتيجة (احتلال تطوان أولا، واحتلال المنطقة الخليفية ثانيا) [22].

 

    والله الموفق للصواب والمعين عليه                 

 

الإحالات :

[1] سبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، حسن الفكيكي، الرباط، المطبعة الملكية، 2003 م، 176، 347؛ والدار البيضاء، قلعة، المؤلف نفسه، في: معلمة المغرب، ج12، مطابع سلا، 2000 م، 3916.

[2] تاريخ تطوان، مج.9، محمد داود، طنجة، مطبعة سليكي إخوان، 1998 م، 32.

[3] الفتوحات المكية، مج.5، محيي الدين ابن العربي، ضبط: أحمد شمس الدين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1999 م، 170.

[4] لماذا نطالب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، ج1، محمد ابن عزوز حكيم، تطوان، مطبعة ديسبريس، 1979 م، 61، 62، 63 والهامش 441، 65، والصورة بعد ص76؛ والمغرب المجهول، ج2: اكتشاف جبالة، أوجيست مولييراس، ترجمة: عز الدين الخطابي، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 2013 م، 562؛ وسبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 176؛ وتاريخ سبتة، محمد بن تاويت، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1982 م، 193؛ والدار البيضاء، قلعة، في: معلمة المغرب، ج12، 3916. انظر: يوميات شاهد على حرب إفريقيا، ج1، بيدرو أنطونيو دي ألاركون، ترجمة: محمد عبد السلام المرابط، طنجة، مطبعة ليتوغراف، 2011 م، 83. وقابل بـ: تاريخ تطوان، مج.4، القسم الأول، تطوان، المطبعة المهدية، 1964 م، 128؛ والقسم الثاني، 139؛ وخلاصة تاريخ سبتة، محمد السراج، تطوان، مطبعة ديسبريس، 1975 م، 91؛ والمصدر نفسه، المجلس العلمي المحلي لعمالة المضيق- الفنيدق، 2018 م، 110.

[5] تاريخ تطوان، مج.4، القسم الأول، 128؛ والقسم الثاني، 139؛ وخلاصة تاريخ سبتة، ط. 1975 م، 91؛ والمصدر نفسه، ط. 2018 م، 110؛ ويوميات شاهد على حرب إفريقيا، ج1، 77، الهامش 1.

[6] لماذا نطالب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، 65.

[7] نفسه، 69، الهامش 505. انظر: تاريخ تطوان، مج.2، القسم الأول، تطوان، دار كريمايس للطباعة، 1963 م، 50.

[8] البستان الظريف، القسم الأول، أبو القاسم الزياني، تحقيق: رشيد الزاوية، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 1992 م، 186؛ والجيش العرمرم الخماسي، ج1، محمد الكنسوسي، تحقيق: أحمد الكنسوسي، مراكش، المطبعة والوراقة الوطنية، د. ت، 155؛ وزهر الأكم، عبد الكريم الريفي، تحقيق: آسية بنعدادة، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، د. ت، 200؛ والحلل البهية، ج1، محمد المشرفي، تحقيق: إدريس بوهليلة، الرباط، دار أبي رقراق، 2005 م، 325؛ وتاريخ تطوان، مج.2، القسم الأول، 50، 53، 54؛ ولماذا نطالب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، 69.

[9] لماذا نطالب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، 72، 74، 75- 76.

[10] تاريخ تطوان، مج.4، القسم الأول، 128؛ والقسم الثاني، 139؛ وخلاصة تاريخ سبتة، 1975 م، 91؛ والمصدر نفسه، 2018 م، 110؛ ولماذا نطالب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، 63 والهامش 441، 65؛ والمغرب المجهول، ج2: اكتشاف جبالة، 562؛ وسبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 176- 177، 183؛ والدار البيضاء، قلعة، في: معلمة المغرب، ج12، 3916.

[11] تاريخ تطوان، مج.9، 26، 33، 34؛ ولماذا نطالب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، 78- 79، 87، 88؛ وخلاصة تاريخ سبتة، 1975 م، 92؛ والمصدر نفسه، 2018 م، 112؛ وسبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 183، 211، 213، 221- 222، 242، 253، 286، 287، 290، 294- 298، 303، 306، 309، 319- 320، 324- 326؛ والدار البيضاء، قلعة، في: معلمة المغرب، ج12، 3916.

[12] سبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 309. قابل بـ: الدار البيضاء، قلعة، في: معلمة المغرب، ج12، 3916.

[13] تاريخ تطوان، مج.9، 32- 33، 35، 36، 37، 38، 42، 53- 54، 60- 61، 64، 73- 74؛ وأسرة أشعاش التطوانية، عمر أشعاش، تطوان، مطبعة الخليج العربي، 2016 م، 172- 173؛ وسبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 323- 326؛ والدار البيضاء، قلعة، في: معلمة المغرب، ج12، 3917. انظر: يوميات شاهد على حرب إفريقيا، ج1، 82- 83.

[14] يوميات شاهد على حرب إسبانيا، ج1، 82- 83.

[15] التشوف في رجال سادات التصوف، عبد الرحمان الصومعي، تبييض: المصطفى عربوش، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 2014 م، 167.

[16] فهرسة ابن عجيبة، أحمد ابن عجيبة، تحقيق: عبد الحميد حمدان، القاهرة، دار الغد العربي، 1990 م، 50.

[17] لماذا نطالب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، 80- 81، 93- 94؛ وسبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 283- 338.

[18] سبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 286.

[19] نفسه، 287.

[20] نفسه، 290.

[21] تاريخ تطوان، مج4، القسم الثاني، 139 والهامش 1، 140، 146، 151، 152، 158، 168؛ ويوميات شاهد على حرب إفريقيا، ج1، 77 والهامش 1، 80 والهامش 1، 82- 83؛ ولماذا نطالب باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، 95، 97- 98، 99، 100، 107؛ وسبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 339- 345، 346- 347، 351؛ والدار البيضاء، قلعة، في: معلمة المغرب، ج12، 3917.

[22] تاريخ تطوان، مج.4، 15؛ وسبتة المحتلة ذروة وعينا الوطني، 339.

 

                

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق