
الدكتور مصطفى مختار
باحث بمركز علم وعمران
تحدثنا عن إسهام الجامع الأعظم في ترتيب المجال الديني، بطنجة، وسنتحدث اليوم عن إسهامه في تنمية مجالها العلمي [1]. حيث كانت تعقد به حِلَقُ الدرس والإقراء [2]، بفضل علماء منهم ما ضمه القائد علي الريفي، إلى هذه الحاضرة [3].
ومن المتصدرين للتدريس، بهذا الجامع، سيدي محمد ابن يحيى الطنجي، دفين زاوية الطيبية الوزانية، بطنجة [4]. حيث كان يُدَرِّس به كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي مرتين في الأسبوع متقاضيا، مقابل ذلك، 30 أوقية في الشهر [5].
وأسندت إليه، خلال ذلك، مهمة التوريق، بالجامع نفسه، بحسب ظهير رحماني جاء فيه : "الحمد لله، وصلّى الله على سَيِّدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما ومن تكن برسول الله نصرته * إن تلقه الأسد في آجامها تجم من يعتصم بك يا خير الورى شرفا * الله حافظه من كل منتقم
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أُنيب عبد الرّحمن بن هشام، الله وَلِيُّه الحمد لله، كتابنا هذا أسماه الله، وأعزّ أمره، وجعل في الصالحات طيّه ونشره. بِيَدِ مَاسِكِهِ الفقيه السيد محمد بن يحيى الطنجي، يعرف منه بحول الله وقُوّتِه وشامل يُمنه ومنته، أنّنا وقرناه واحترمناه، فلا يُساء ولا يُضام، ولا يُسام بأذى ولا اهتضام، ورددناه الوظائف التي كانت بيده في عهد عَمِّنَا رحمه الله حسبما ذلك بظهائره التي بيده وتجديدنا، وأقررناه على الإمامة والتدريس بالزاوية التهامية من طنجة حرسها الله، والتوريق بالمسجد الأعظم. فالواقف عليه من عُمّالنا ووُلاة أمرنا يعمل بمقتضاه ولا يتعداه. صدر به أمرنا المعتز بالله في 22 رمضان المعظم عام 1244 هـ " [6].
مثل ما أسند إليه كرسي الوعظ، بالجامع نفسه، منفردا به إلى حدود عام 1247 هـ، ثم مشاطرة مع الفقيه مَحمد بن أحمد بن عبد الصادق، بحسب ظهيرين رحمانيين [7] جاء في أولهما : "الحمد لله وحده، وصَلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله (عبد الرّحمن ابن هشام، غفر الله له) نأمر ناظر أحباس المسجد الأعظم بثغر طنجة أن يرتب للطالب السيد امحمد بن أحمد بن عبد الصادق مثقالا في كل شهر من مستفاد الأحباس المذكورة زيادة على ما نفّذنا له من المشاطرة مع ابن يحيى في كرسي الوعظ بالمسجد المذكور، والسّلام. في 16 من ذي القعدة الحرام عام 1247 هـ" [8].
وجاء في الظهير الثاني: "الحمد لله وحده، وصَلّى الله على سيدنا مُحَمّد وآله (عبد الرّحمن بن هشام، غفر الله لَهُ) أقررنا بحول الله وأفضاله، وشامل يُمْنه وامتنانه، الفقيه السيد محمد بن يحيى على الإمامة والتدريس بزاوية مولاي التهامي بثغر طنجة، ويقبض ما هو مُعَيّن لذلك من أوقافها، ويستبدّ به مِنْ غير مشارك له فيه. وكرسي الوعظ بالمسجد الأعظم من الثغر المذكور شاطرناه مع خديمنا الطالب محمد بن أحمد بن عبد الصادق، يسرد به هذا جُمُعة والآخر جُمُعة، ويقتسمان مُستفاد أوقافه المُعَيَّنَة لذلك، والسّلام. في 12 ذي القعدة عام 1249 هـ" [9].
سبق للمترجم أن نشأ بطنجة حيث أخذ العلم. وسافر إلى تطوان، فجامع القرويين طلبا له، قاطنا بمدرسة الصفارين. وعاد إلى بلده ليصبح مدرسا وإماما، بالزاوية التهامية، بحومة يدر، جوار داره، منتقلا إلى دار مجاورة لدار الحاج محمد القطيوط، قريبة من الزاوية نفسها، بأعلى سقاية السوق الداخل. حيث غرس دالية، بحديقتها، فشجرة لقّمها بالغُدَّان والجُوزِي والبَاكُور. ثم أصبح مكلفا بزمام أحباس الجامع الأعظم، مستفادها وصائرها، فمحافظا لكتب خزانته، فعدلا بسماط الشهود [10].
وخلال عام 1265 هـ أُذِن لابن المترجم، الفقيه أحمد بن محمد ابن يحيى الطنجي، أن يبدأ دروس الوعظ، بالجامع الأعظم، مشاطرة مع سيدي أحمد التمسماني، بحسب رسالة من قائد طنجة السيد بوسلهام بن علي الحسن العرائشي، جاء فيها : "الحمد لله وحده، وصَلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه كِتَابُنَا هذا بِيَدِ ماسكه الفقيه الأجل السيد أحمد بن يحيى، ويُعلم منه أنّنا شاطرناه مع الفقيه الأنبل أحمد التمسماني في كرسي الوعظ بالمسجد الأعظم من الثغر الطنجي، ويقتسمان مُستفاد أوقافه المتعيّنة لذلك، وقدره ثلاثون أوقية عن كل شهر لكل واحد، فالواقف عليه يعمل بمقتضاه، بوُجُودِ مولانا أيّده الله وجُودِه وعُلاَه، والسّلام. في 21 شوال عام 1265 هـ" [11].
درس سيدي أحمد ابن يحيى بأحد الكتاتيب، وعلى أبيه وبعض شيوخ بلده، وشيوخ الزاوية الوزانية، بطنجة. حيث أصبح مدرسا بالزاوية التهامية منها، فناظرا في مداخيل الأحباس ومصاريفها، فمحافظا لخزانة كتب الجامع الأعظم، قاطنا دار والده المذكورة، فدارا أخرى أنعم عليه بها الأمير سيدي عبد السلام بن المولى عبد الرحمان العلوي، بملاحة طنجة البالية، بالضفة القريبة من مصب واد الشاط [12].
ومن المدرسين، بالجامع الأعظم في حلقتين يوميتين، سيدي عبد الصمد بن التهامي كَنون [13]، دفين زاوية سيدي أبي الشتاء الخمار، بطنجة. وهو والد العلامة سيدي عبد الله كَنون، وجدّ الدكتور سيدي محمد كَنون، ذي الأيادي البيضاء، الرئيس الحالي للمجلس العلمي الجهوي لجهة طنجة تطوان الحسيمة، حفظه الله. أخذ المترجم العلم بفاس. ودرّس بغير الجامع الأعظم. وألف عدة كتب منها : جنى زهرة الآس في شرح نظم عمل فاس. وأخذ عنه، بطنجة، سيدي عبد السلام ابن سودة [14].
وممن كان يعقد مجالس الدرس والإقراء، كثيرة الإقبال، بالجامع الأعظم، سيدي محمد بن الصديق الغماري [15]، دفين زاويته الكائنة بعقبة الوزانية من طنجة [16].
حيث "تراه في الصباح يقصد المسجد الأعظم، فَيَحومُ حوله طلبة العلم ويتكدسون ليسمعوا جولاته الدقيقة في "لامية الأفعال"، وغوصه العقلاني في مسالك "المنطق". ثم قبل الظهر بساعة ونصف يشرع في درس "ألفية" ابن مالك بشرح المكودي، فيضيف ويعلق ويطرح نوادر نحوية قلَّما ينص عليها كتاب .. وينتقل بعدها إلى "مختصر" خليل، فيستبحر في تبسيط غوامضه، وبيان مسائله تحريرا واستقصاءً إلى أن يؤذن للظهر. فتراه، بعد الأذان، يقوم من مجلسه ويصعد الكرسيّ، وينطلق في قراءة "صحيح البخاري" تعظيما للحديث النبوي الشريف، فيعتريه جلال يُضْفِي على الدرس مهابةً وتبجيلاً ..
تأمَّل إمامَ العلم آية حِفظه كبَدرٍ على الكرسيّ يُضيء على الصَّحْبِ
وقد أجلس ابنيه العزيزين قُربه كما هو شأن الفَرقدَيْن مع القُطْبِ
ويعطي إشارته للسارد العربي التمسماني، فيروي الحديث .. ثم ينطلق "السيد" في الشرح، فيُفِيء عليه ظلال العلوم والحكم، فيبهر عقول الحاضرين من علماء وفقهاء وأعيان وطلبة وعوام، ويملك قلوبهم، ويستعبد أسماعهم، وكل ينشد منه ليلاه! ثم يربط "الصحيح" بـ "شمائل الترمذي" ربطاً متقناً محكماً قبل اختتام الدرس ..
وهذه الفيوضات في علوم الصرف والمنطق والنحو والفقه والحديث والسيرة إنما يمليها "السيد"- كما لاحظت دون شك- في مجلس واحد تتواصل حلقاته على مدى أربع ساعات فأزيد، وتتعاقب آخذة كل حلقة بذيل أختها في سَعَة اطلاع، وقوة حُجّة، وسرعة استحضار!" [17].
ومن العجيب أنه في مجلس التفسير، بهذا الجامع، "استغرق طيلة شهر رمضان يقرر في فاتحة الكتاب ولم يَتَعَدَّ قوله عز وجل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)!" [18].
نشأ المترجم بتجكان، بغمارة، متابعا دراسته، منتقلا إلى فاس، ليتمم تلقيه على شيوخ العلم. وهناك اتصل بالزاوية الدرقاوية، بحومة العيون. وحين عاد إلى طنجة أسس زاويته الصديقية، بطريق القادرية، ودرّس بجامع القصبة، وخطب به [19].
وممن درّس، بالجامع الأعظم، سيدي ابن العباس أحمد السميحي، دفين ضريح سيدي أحمد بن عبد الصادق، بمرشان [20]، وسيدي عبد السلام بن عمر العلوي [21]، وسيدي عبد السلام بن عبد النبي غازي [22]، والفقيه اسطيطو العربي [23]، والسيد عبد الله بن إدريس السنوسي، دفين المسجد القديم بمرشان، المدرس، بالجامع الأعظم، في حلقة خلال بعض شهور العام [24]، وسيدي محمد العربي التمسماني القائم بدروس تطوعية، بالجامع نفسه [25]. ومنهم سيدي مَحمد بن أحمد ابن عبد الصادق [26]، وسيدي الحاج عبد الله بنعبد الصادق التمسماني [27].
ومنهم سيدي محمد الزمزمي بن محمد ابن الصديق، دفين قرب مسجد السنة، بحي حسنونة من طنجة [28]. كان يلقي، بالجامع الأعظم، دروسا في الحديث والفقه والأصول والتفسير [29]. سبق له أن نشأ ببور سعيد، ببلاد مصر. وتابع دراساته بطنجة وبالقاهرة. ودرّس بالزاوية الصديقية. وخطب ببعض مساجد طنجة [30].
يتبع
الإحالات :
[1] الجبل الكبير، 10؛ وطنجة ومنطقتها، 272؛ والمسجد ودوره في اليقظة الطنجية، في: طنجة في التاريخ المعاصر، 255- 256؛ والمسجد الأعظم بمدينة طنجة، في: دعوة الحق، س.6، ع.1، ص4.
[2] طنجة ومنطقتها، 272؛ ومدرسة الجامع الكبير بطنجة، 21؛ ومن أعلام شمال المغرب، ج2، 215.
[3] زهر البستان، 132.
[4] ت. في ربيع الأول 1258 هـ: أوراق من تاريخ طنجة، ج1، 102.
[5] نفسه، 93.
[6] نفسه، 95. عد إلى: المرجع عينه، 93.
[7] نفسه، 95- 96.
[8] نفسه، 96.
[9] نفسه.
[10] نفسه، 81- 102، 114؛ والمصادر العربية لتاريخ المغرب، ج2، محمد المنوني، مطبعة فضالة، 1989 م، 77؛ والكناشات المغربية ودورها في الكشف عن الدفائن التاريخية، محمد المنوني، في: مجلة المناهل، س.2، ع.2، 1975 م، 216.
[11] أوراق من تاريخ طنجة، ج1، 106.
[12] كان حيا عام 1301 هـ: نفسه، 104- 108.
[13] سل النصال، عبد السلام ابن سودة، تحقيق: محمد حجي، دار القماطي، 1997 م، 71؛ إسعاف الإخوان الراغبين، 293، 294؛ من أعلام شمال المغرب، ج2، 214؛ المسجد ودوره في اليقظة الطنجية، في: طنجة في التاريخ المعاصر، 256؛ إضاءات حول إسهامات علماء تمسمان في ميدان العلم والمعرفة، في: شذرات من التراث العلمي والحضاري لقبيلة تمسمان، 225؛ المسجد الأعظم بمدينة طنجة، في: دعوة الحق، س.6، ع.1، ص4.
[14] ت. عام 1352 هـ: الإحالات نفسها؛ وإتحاف المطالع، ج2، 466.
[15] نسيم وادي العقيق، العربي بوعياد، مطبعة سليكي أخوين، 2023 م، 18، 102- 103؛ وإسعاف الإخوان الراغبين، 24؛ وصديقون ريحانة طنجة سيدي محمد بن الصديق، المختار التمسماني، دار ابن حزم/ مركز التراث الثقافي المغربي، 2007 م، 20-21، 51؛ وأوراق من تاريخ طنجة، ج1، 149، 155- 156، 161، 163، 166؛ ومحمد بن الصديق الغماري، أسماء غيلان، مطبعة باب الحكمة، 2021 م، 33؛ والمسجد ودوره في اليقظة الطنجية، في: طنجة في التاريخ المعاصر، 256؛ وابن الصديق، محمد، عبد الله المرابط الترغي، في: معلمة المغرب، ج16، 5523.
[16] ت. عام 1354 هـ: إتحاف المطالع، ج2، 472؛ وأوراق من تاريخ طنجة، ج1، 149، 159- 160؛ وابن الصديق، محمد، في: معلمة المغرب، ج16، 5524.
[17] صديقون ريحانة طنجة سيدي محمد بن الصديق، 20. راجع: نفسه، 21؛ ونسيم وادي العقيق، 102- 103؛ وأوراق من تاريخ طنجة، ج1، 155- 156، 161.
[18] صديقون، 21. قابل بـ: أوراق من تاريخ طنجة، ج1، 156.
[19] نسيم وادي العقيق، 540 ص؛ ومحمد بن الصديق الغماري، 204 ص؛ وصديقون، 13- 49؛ وأوراق من تاريخ طنجة، ج1، 149- 168، بتصرف؛ ومن أعلام شمال المغرب، ج2، 214؛ وإضاءات حول إسهامات علماء تمسمان في ميدان العلم والمعرفة، في: شذرات من التراث العلمي والحضاري لقبيلة تمسمان، 225؛ وابن الصديق، محمد، في: معلمة المغرب، ج16، 5523- 5524.
[20] ت. في ذي الحجة 1361 هـ: إسعاف الإخوان الراغبين، 294 والهامش 276؛ والمسجد ودوره في اليقظة الطنجية، في: طنجة في التاريخ المعاصر، 256؛ والمسجد الأعظم بمدينة طنجة، في: دعوة الحق، س.6، ع.1، ص4.
[21] ت. عام 1350 هـ: من أعلام شمال المغرب، ج2، 216.
[22] ت. عام 1352 هـ: نفسه، 215؛ إسعاف الإخوان الراغبين، 294 والهامش 275؛ والمسجد ودوره في اليقظة الطنجية، في: طنجة في التاريخ المعاصر، 256؛ والمسجد الأعظم بمدينة طنجة، في: دعوة الحق، س.6، ع.1، ص4.
[23] المسجد ودوره في اليقظة الطنجية، في: طنجة في التاريخ المعاصر، 256.
[24] ت. في جمادى الأولى 1350 هـ: إسعاف الإخوان الراغبين، 294 والهامش 278، 343؛ ومدرسة الجامع الكبير بطنجة، 55؛ ومن أعلام شمال المغرب، ج2، 214- 215؛ والمسجد ودوره في اليقظة الطنجية، في: طنجة في التاريخ المعاصر، 256؛ وإضاءات حول إسهامات علماء تمسمان في ميدان العلم والمعرفة، في: شذرات من التراث العلمي والحضاري لقبيلة تمسمان، 226؛ والمسجد الأعظم بمدينة طنجة، في: دعوة الحق، س.6، ع.1، ص4.
[25] إتحاف الإخوان الراغبين، 343؛ وإضاءات حول إسهامات علماء تمسمان في ميدان العلم والمعرفة، في: شذرات من التراث العلمي والحضاري لقبيلة تمسمان، 226؛ والتمسماني، العربي، محمد حجي، في: معلمة المغرب، ج8، 2547.
[26] أوراق من تاريخ طنجة، ج1، 95، 96.
[27] العلامة سيدي عبد الله بن عبد الصادق، وإضاءات حول إسهامات علماء تمسمان في ميدان العلم والمعرفة، في: شذرات من التراث العلمي والحضاري لقبيلة تمسمان، 208، 224؛ والفقيه محمد المساري، بقلم العلامة نفسه، في: علماء في ضيافة المجلس العلمي، مج.3، منشورات المجلس العلمي المحلي لعمالة طنجة- أصيلة، 2015 م، 226- 227؛ وأحاديث من باب مرشان، 186- 187.
[28] ت. في ذي الحجة 1408 هـ: إسعاف الإخوان الراغبين، 84؛ وابن الصديق، محمد الزمزمي، محمد حجي، في: معلمة المغرب، ج16، 5523.
[29] إسعاف الإخوان الراغبين، 83؛ وابن الصديق، محمد الزمزمي، 5523.
[30] إسعاف الإخوان الراغبين، 82- 84؛ وصديقون ريحانة طنجة سيدي محمد بن الصديق، 105- 133؛ وابن الصديق، محمد الزمزمي، 5523.