مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

التوثيقات ونماذجها من فقه العمل(3)

2.2- ما جرى به العمل في الـرهن: بيـع الـرهن

من المعلوم أن الراهن إذا حل أجل الدين وتعذر عليه قضاؤه ولم يتأت للمرتهن استيفاء دينه إلا عن طريق بيع الرهن، فإن الأصل في القيام بذلك هو الراهن لأنه المالك الأصلي للشيء المرهون، فإن امتنع عن ذلك طلب المرتهن بيعه عن طريق القضاء، ولا يجوز له الاستئثار بالبيع حتى لو كان له سالف إذن به من الراهن، فإن تحقق عسر الراهن أو مطله باع عليه القاضي رهنه بحضوره أو في غيابه بعد تقرر الموجبات([1]).

جاء في التهذيب ما نصه: «ومن ارتهن رهنا وجعلاه على يد عدل أو على يد المرتهن إلى أجل كذا، وشرطا إن جاء الراهن بحقه إلى ذلك الأجل، وإلا فلمن على يديه الرهن بيعه، فلا يباع إلا بإذن السلطان وإن شرط ذلك، فإن بيع نفذ بيعه ولم يرد، وإن لم يأذن له في بيعه رفعه المرتهن إذا حل الأجل إلى السلطان، فإن أوفاه حقه وإلا باع له الرهن فأوفاه حقه» ([2]).

هذه هي القاعدة العامة في بيع الرهن، غير أن للعلماء في شأنه تفصيلات أخرى حاصلها النظر في الإذن بالبيع المجعول من قبل الراهن، إذ نستشف من نقولهم أن الرهن إما أن يكون مطلقا أو مقيدا أو مقرونا بصفة مخصوصة. وبيان ذلك كما يلي:

أ- الإذن المطلق وفيه صورتان:

1- كون الإذن المذكور مجعولا للمرتهن في العقد وبعد الأجل، وفيه روى ابن القاسم عن الإمام مالك عدم جواز البيع إلا بإذن السلطان، أي لا بد من اتباع المسطرة القضائية، وروى أصبغ عن ابن القاسم مثل قول الإمام، كما روى غيره عن ابن القاسم أيضا كراهة البيع وجوازه بعد الوقوع وبهذه الصورة جرى العمل([3]). قال السجلماسي في نظم العمل المطلق:

وإن يبع مرتهن رهنا وقـد أمر راهـن بـه حيـن عقـد
من دون ما رفع إلى والي القضـا فالبيع مكـروه وإن يقع مضى

وقال في شرح هذين البيتين: «أصل ما تضمن البيتان هو ما في الدرر المكنونة لسيدي يحيى المازوني، نص المقصود منه: وسئل بعض فقهاء بلادنا هل يجوز للمرتهن بيع الرهن دون مؤامرة القاضي إن جعل له الراهن ذلك بعد عقد المعاملة أو في عقدها، فأجاب: الحمد لله إن جعل له ذلك بعد عقد المعاملة فقال اللخمي ذلك جائز ومنعه غيره من الموثقين ورآه من هدية المديان، وإن جعل له ذلك في عقد المعاملة فلم يجزه مالك إلا بإذن السلطان، واختلف فيه قول ابن القاسم فروي عنه كقول مالك وروي عنه الكراهة والجواز إن وقع، وبهذا القول القضاء وعليه العمل»([4]).

والأمر نفسه نبه عليه العلامة الوزاني في نوازله الكبرى حيث نقل في التنبيه الخامس قول الفقيه سيدي يعيش الشاوي في كواكبه السيارة عند قول التحفة:

وبجواز بيـع محدود الأجـل من غير إذن راهن جرى العمل

ونصه: «إذا جعل الراهن للمرتهن بيع الرهن في أصل العقد دون مشورته ولا مشورة سلطان إن لم يوفه حقه عند الأجل، ذكر القلشاني أن الذي جرى به العمل فيها هو القول بكراهة البيع، وجوازه إن وقع كان المبيع له بال أم لا»([5]).

2- كون الإذن المذكور مجعولا للمرتهن بعد العقد على سبيل التطوع، أي أن الراهن طاع للمرتهن بعد العقد، لا على سبيل الاشتراط في صلبه، وهذا قال اللخمي بجوازه لأنه إحسان ومعروف من الراهن حيث أذن للمرتهن في البيع وأسقط عنه كلفة وعناء الإثبات وإجراءات الرفع إلى القضاء، ونقل المتيطي عن بعض الموثقين القول بعدم الجواز لأنه هدية مديان.([6])

غير أن تعليل القول بعدم الجواز بما ذكر لم يسلمه الشيخ أبو علي الحسن بن رحال المعداني، وقرر «أن هذا الإذن في البيع لا زيادة فيه لصاحب الحق، إنما هو يوصل صاحب الحق إلى حقه بلا زيد، وهو وإن كان يسقط عن رب الحق مشقة، لكن لا زيد»([7]).

ب- الإذن المقيد:

وحاصله أن يكون جعل الراهن للمرتهن حق التصرف في الرهن بالبيع بعد العقد مقيدا بعدم تمكنه من قضاء الدين في الأجل المعلوم، كأن يقول الراهن للمرتهن: إن لم آت بالدين في أجل كذا فلك أن تبيع ما بيدك من الرهن وتستوفي دينك، وفي هذه الصورة ليس للمرتهن أن يستأثر بالبيع بمعزل عن القضاء، لاحتياج هذا البيع إلى إثبات غيبة الراهن والتحقق من عدم إتيانه بالدين في الأجل وغير ذلك مما لا يعرف إلا من طريق القضاء. قال العلامة السجلماسي مقررا هذه الصورة:

«ما قدمناه قبل (...) في بيع المرتهن الرهن دون رفع إلى السلطان، مقيد بأن لا يقول الراهن للمرتهن إن لم آت عند الأجل فبع الرهن واستوف حقك، وأما إذا قال ذلك فلا بد من السلطان، قال في الجواهر: ولو قال الراهن لمن على يده الرهن من مرتهن أو عدل إن لم آت إلى أجل كذا فأنت مسلط على بيع الرهن، فلا يبيعه إلا بأمر السلطان فإن باعه بغير أمره نفذه»([8])، وتعليل ذلك أن الراهن بتقييده ذاك «من الجائز أن يكون أتى أو حاضرا معه في البلد، فلذلك لا بد له من نظر السلطان بخلاف الأول فإنه أذن إذنا مطلقا»([9]).

الهوامش:


   ([1])- شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 1/231.

   ([2])- التهذيب في اختصار المدونة للبراذعي، 4/53.

  ([3])- شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 2/231.

  ([4])- فتح الجليل الصمد، 1/172-173.

  ([5])- النوازل الكبرى، 6/126.

  ([6])- انظر شرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/232، وفتح الجليل الصمد له ص 173، ومواهب الجليل للحطاب 6/570، وشرح ميارة للتحفة 1/182.

 ([7])- حاشية المعداني على شرح ميارة للتحفة، 1/181.

 ([8])- شرح العمل الفاسي 2/234.

 [9]- شرح ميارة للتحفة 1/183 والبهجة للتسولي 1/329.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق