مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

التوثيقات ونماذجها من فقه العمل (2)

ب- أركـان الـرهن :

وأركان الرهن ثلاثة هي العاقدان والشيء المرهون ثم المرهون فيه. أما العاقدان فهما الراهن وهو المدين مالك الرهن والمرتهن وهو الدائن المحتفظ بالرهن. قال ابن رشد: «وكل من صح أن يكون راهنا صح أن يكون مرتهنا»([1])، ولا يشترط فيهما إلا كمال الأهلية بأن يكونا جائزي التصرف، فلا يصح رهن الصغير أو السفيه أو المجنون أو المفلس أو السكران.([2])

وأما المرهون فهو الشيء المحبوس لحق أي كل ما يمكن استيفاء الدين منه مما تصح ملكيته، فيوفى الدين من عينه إن كان نقودا أو من ثمنه إن لم يكن نقودا كالعروض والعقار والحيوان والمنافع.

جاء في التحفة:

والشرط أن يكون مـا يرتهن مما به استيفـاء حق يمكن
فخـارج بالخمـر باتفــاق وداخل كـالعبـد ذي الإبـاق

قال العلامة محمد ميارة في شرحه: «يعني أنه يشترط في الرهن أن يكون مما يمكن أن يستوفى منه الحق الذي رهن فيه، سواء أمكن الاستيفاء من عينه كالدنانير والدراهم، وكالمثليات إذا ارتهنت في مثلها وطبع عليها أو من قيمته كرهن ثوب في دراهم، أو ثمن منافعه كرهن حائط في دين فإنه يمكن استيفاء الحق من ثمن غلته، وأما ما لا يمكن استيفاء الحق منه كالخمر والخنزير فلا يصح رهنه، وتعبيرهم بالإمكان ليدخل رهن العبد الآبق والبعير الشارد فإنه يمكن استيفاء الحق منه إذا ظفر به، ولا يمكن أن يستوفى منه إن لم يظفر به، لأن القاعدة أن كل ما يجوز بغير عوض جاز فيه الغرر، وذلك كالطلاق فإنه يجوز بعوض وهو الخلع، ويجوز بغير عوض، فيجوز أن نخالعه بعبد آبق أو بعير شارد، وكذلك الدين سواء كان من بيع أو من سلف يجوز أن يأخذ عنه وثيقة رهن، ويجوز من غير رهن فيجوز في الرهن الغرر، لأن غاية الأمر أنه إذا لم يظفر بذلك يكون باع أو سلف من غير رهن وذلك جائز»([3]).

كما يشترط فيه استدامة القبض لقوله تعالى: ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ([4])؛ بحيث يكون في حوز المرتهن إلى حين أداء الحق، فإذا خرج من يده وأصبح في حيازة الراهن بناقل شرعي من عارية أو وديعة أو كراء عد الرهن باطلا([5])، قال في التحفة:

والحوز من تمامه وإن حصل ولو معـارا عند راهن بطـل

قال العلامة أبو الحسن التسولي: «وظاهر النظم أن الحوز شرط في صحة الرهن وليس كذلك، بل هو شرط في الاختصاص به، وحينئذ فيقدر في الكلام حذف أي من تمام اختصاصه به، لأن الرهن صحيح حيز أم لا (...)، إلا أنه لا يختص به إلا بالحوز قبل حصول المانع من موت أو فلس أو نحوهما»([6]).

ثم إن الشيء المرهون يبقى في حوز المرتهن حتى يؤدي الراهن الحق كاملا، بحيث لا ينحل بعض الرهن بأداء بعض ذلك الحق، فالشيء المرهون يعد بكليته ضمانا للحق المحبوس فيه سواء انقضى الدين بالتجزيئ أو بالاجمال. قال صاحب التحفة في هذا المعنى:

والرهن محبوس بباقي ما وقع فيه ولا يـرد قدر ما اندفع ([7])

وإذا لحق بالشيء المرهون إتلاف، ففي ضمانه تفصيل حاصله أنه إذا كان من الأشياء الظاهرة التي لا يمكن إخفاؤها، كالعقار والحيوان فضمانه على الراهن إلا إذا كان سبب الإتلاف تفريط المرتهن وتعديه فيكون ضامنا حينئذ، وإذا كان الشيء المرهون مما يمكن إخفاؤه كالثياب والأواني فضمانه على المرتهن ما لم تقم بينة على تلفه بغير سببه، أما إذا وضع تحت يد أمين فلا ضمان فيه، لأن الأصل في الأمين عدم الضمان.([8]) وإلى ذلك يشير صاحب التحفة بقوله:

الـرهن توثيـق بحق المرتهـن وإن حوى قابـل غيبة ضمن
مـا لم تقم لـه عليـه بينـة لما جرى في شأنـه معينـة
وإن يكـن عند أميـن وقفـا فلا ضمان فيه مهمـا تلفـا

ومما يتصل بالشيء المرهون اشتراط منفعته، والأصل فيه أن منفعته للراهن باعتباره المالك الأصلي له وإن كان ممنوعا من التصرف فيه لقول النبي ﷺ: ﴿لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه﴾([9])، أي له غلته وعليه تخليصه وافتكاكه.

ومع ذلك فقد نص العلماء على جواز اشتراط المرتهن الانتفاع بالرهن كسكنى الدار واعتمار الأرض بشروط ثلاثة هي:

- كون أصل الدين من بيع لا من قرض.

- كون الانتفاع مشترطا في أصل العقد.

- كون مدة الانتفاع معينة.

وهذا ما أشار إليه العلامة السجلماسي بقوله: «اعلم أن لجواز انتفاع المرتهن بالرهن شروطا: أن يكون ذلك مشترطا في أصل العقد، لأنه مع عدم الاشتراط هدية مديان وذلك ممنوع، وأن تكون المنفعة معينة أي مدتها محدودة كعام أو شهر مثلا للخروج من الجهل والغرر، فلا يجوز أن يقول الراهن للمرتهن انتفع حتى أقضيك دينك، وأن يكون الدين المرهون فيه من بيع لا قرض، لأن ذلك في البيع يؤول إلى البيع والاجارة وذلك جائز، وفي القرض إلى السلف بزيادة وهو ممنوع»([10]).

وجاء في التحفة ما نصه:

وجاز في الرهن اشتراط المنفعة إلا فـي الأشجــار فكـل منعه
إلا إذا النفــع لعــام عينــا والبـدو للصـلاح قـد تبيـنـا
وفـي الذي الديـن به من سلف وفي التي وقت اقتضـائها خفي

قال العلامة ميارة في شرحه للتحفة: «يعني أنه يجوز للمرتهن أن يشترط الانتفاع بالرهن إن كان مما يجوز شرعا، مثل سكنى الدار واعتمار الأرض وما أشبه ذلك إلا في ثلاثة أشياء منفعة الأشجار على تفصيل فيها، وإلا إذا كان الدين من سلف، وإلا ما يختلف الانتفاع به باختلاف الناس»([11]).

أما الركن الثالث من أركان الرهن وهو المرهون فيه فهو الدين الذي يراد توثيقه، ويشمل سائر الحقوق التي يمكن ترتبها في الذمة سواء نشأت عن بيع أو سلف أو غيرهما كالجنايات التي لا قود فيها والديات والأصدقة، باستثناء الصرف ورأس مال السلم فلا يجوز أخذ رهن عليهما، ووجه ذلك أن رأس مال السلم يجب تعجيله، وهو ينافي التأجيل الذي يقتضيه الرهن لأن تأجيله يؤدي إلى بيع دين بدين، وكذلك الصرف فإن من شرطه التقابض عند العقد، والرهن بخلافه إذ يتطلب التأجيل.([12])

ج- مبطـلات الـرهن :

ويبطل الرهن بتحقق أحد المبطلات الآتية وهي:

- اقتران الرهن بشرط مناف للمقصود منه، كاشتراط الراهن على المرتهن بقاء الشيء المراد رهنه بيده، أو عدم بيعه في الدين المرهون فيه.([13])

- انبناء الرهن على بيع فاسد أو قرض فاسد ظن فيه الراهن لزوم الوفاء.([14])

- اشتراط المرتهن على الراهن أن يكون الرهن عن دين قديم له عليه فضلا عن الدين الجديد، لما في ذلك من الانتفاع بزيادة التوثق في الدين الأول وهو سلف جر منفعة.([15])

- حصول المانع للراهن قبل تمكن المرتهن من قبض الرهن، كموت أو مرض متصلين بموت الراهن أو إفلاسه وقيام الغرماء عليه([16])، جاء في التهذيب ما نصه: «وإن لم يقبض المرتهن الرهن حتى مات الراهن أو فلس، كان أسوة الغرماء في الرهن»([17]).

تلك نبذة مختصرة عن الرهن وأحكامه الإجمالية، سقتها على سبيل الاجمال والتقريب للتوطئة لمتعلق بحثنا ألا وهو بيان ما جرى به العمل في باب الرهن.

الهوامش:


[1]- بداية المجتهد، 2/272.

[2]-انظر المقدمات الممهدات لابن رشد 2/264، وبداية المجتهد 2/272.

[3]-شرح ميارة للتحفة 1/177-178، وانظر كذلك مواهب الجليل للحطاب 6/539-540، وبداية المجتهد 2/272.

[4]- سورة البقرة، الآية 282.

[5]-  بداية المجتهد، 2/274.

[6]-البهجة في شرح التحفة 1/315، وانظر كذلك شرح ميارة للتحفة 1/171 وما يليها، وحاشية الشيخ الحسن بن رحال المعداني على الشرح المذكور 1/171 وما يليها.

[7]-انظر البهجة للتسولي 1/336، وشرح ميارة للتحفة 1/185.

[8]- انظر بداية المجتهد، 2/277..

[9]-رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه، في كتاب البيوع، 2/66، أنظر المستدرك على الصحيحين، ط1/1997، تحقيق أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع- القاهرة.

-[10]شرح العمل الفاسي 2/226 وانظر كذلك تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص 388 وما يليها.

-[11]شرح ميارة للتحفة 1/179.

 -[12]انظر بداية المجتهد لابن رشد 2/273-274 والقوانين الفقهية لابن جزي ص277.

-[13]تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب، ص389.

-[14]انظر مواهب الجليل للامام الحطاب عند قول خليل: وبطل بشرط مناف كأن لا يقبض، وباشتراطه في بيع فاسد ظن فيه اللزوم. 6/547.

-[15]التاج والإكليل للمواق بهامش مواهب الجليل للحطاب، 6/552-553.

-[16]التاج والإكليل للمواق بهامش مواهب الجليل للحطاب، 6/553.

-[17]التهذيب للبراذعي، 4/57.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق