الأخذ بالرخص في هدي النبي صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
إن من الخصائص البارزة لهذا الدين العظيم أن تكاليفه الشرعية جاءت ميسرة على العباد، وهذا من رحمة الله تعالى بهم، والأدلة على ذلك كثيرة ومتنوعة ؛ منها ما هو مذكور في كتاب الله ، ومنها ما منصوص عليه في السنة النبوية، ومن أدلة القرآن الكريم قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ([1]) ، وقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ([2]) ، وقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) ([3]) ، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا" ([4]) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكني بعثت بالحنفية السمحة" ([5]).
ومن مظاهر يسر هذا الدين أن شرعت الرخص في العبادات تخفيفا على العباد؛ لأن الله سبحانه وتعالى "يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته" ([6]) ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فشرع المسح على الخفين، والقصر في الصلاة في السَّفر تقديما وتأخيرا، والفِطر عند المرض، وغير ذلك من الرخص التي يصعب حصرها في هذه العجالة، ولأهمية هذا الموضوع جاء هذا المقال الذي سأتناول فيه الآتي:
أولا: التعريف اللغوي والاصطلاحي للرخصة .
ثانيا: الأخذ بالرخصة من خلال هديه صلى الله عليه وسلم.
وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:
أولا: التعريف اللغوي والاصطلاحي للرخصة:
1-الرخصة لغة:
الرخصة في اللغة :تدل على التخفيف والسهولة واليسر ، وهي خلاف التشديد، قال ابن فارس (395هـ) : "الراء، والخاء، والصاد، أصل يدل على لين وخلاف شدة" ([7]).
وقال ابن منظور(711هـ): "والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه" ([8]) .
2-الرخصة اصطلاحا:
اختلف علماء الأصول في تعريف الرخصة اصطلاحا ومن هذه التعاريف أذكر:
تعريف الإمام البزدوي (493هـ) وهو من الحنفية بقوله: "الرخصة اسم لما بني على أعذار العباد وهو ما يستباح بعذر مع قيام المحرم"([9]) .
ومن الحنابلة الإمام ابن قدامة (620هـ) قال: "ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض"([10]) .
وعرفها من المالكية القرافي (684هـ)بقوله: "جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع شرعا"([11]) .
وعرفها من الشافعية الإمام السبكي (771هـ)، قائلا :"ما تغير من الحكم الشرعي لعذر إلى سهولة ويسر مع قيام السبب للحكم الأصلي" ([12])
وأختم هذه التعاريف بما جاء في معجم مصطلحات الفقه المالكي، وفيه أن الرخصة عبارة عن: " حكم شرعي سهل انتقل إليه عن حكم شرعي صعب، لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي" ([13])
ثانيا: الأخذ بالرخصة من خلال هديه صلى الله عليه وسلم.
هناك مواقف من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم والتي أخذ فيها بالرخصة ، أو رخص لأصحابه بالأخذ بها عامة، ولأهل الأعذار خاصة ، وفي هذه النقطة أورد بعض هذه النماذج :
لقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره أخذه بما رخصه الله له، من قصر الصلاة الرباعية ركعتين، ودليله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين "([14]) ، وكذا الفطر في السفر إذا شق عليه الصوم ،مصداقا لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب"([15])، وثبت عنه المسح على الخفين مدة ثلاث أيام بلياليهن، لما رواه علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسح الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم ([16])، ولم يثبت عنه أنه صلى في سفره السنن الرواتب؛ إلا سنة الفجر والوتر . قال ابن القيم : "وكان من هديه في سفره الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها؛ إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر فإنه لم يكن ليدعهما حضرا ولا سفرا "([17]).
ثم إنه كان يرخص لأصحابه بالأخذ بها تيسيرا عليهم كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر"، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: "إنكم مصبحو عدوكم ، والفطر أقوى لكم فأفطروا "وكانت عزمة، فأفطرنا، ثم قال لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر"([18]).
وعن أنس رضي الله عنه قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، أكثرنا ظلا الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر"([19]).
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه". قال هارون في حديثه هي رخصة ولم يذكر من الله([20]).
وثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه يقول: لأقومن الليل، ولأصومن النهار، ما عشت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" آنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلته، يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر ، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر. قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال: "صم يوما وأفطر يومين" قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله. قال:" صم يوما، وأفطر يوما، وذلك صيام داود عليه السلام، وهو أعدل الصيام" قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أفضل من ذلك" قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أهلي ومالي"([21]).
قال النووي: "معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه، ووظفه على نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق عليه فعله ولا يمكنه تركه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل"([22]).
كما رخص لأصحاب الأعذار الأخذ بالرخص عند تطبيقهم للأحكام الشرعية كما فعل مع الزبير وعبد الرحمن بن عوف اللذين رخصا لهما في لبس الحرير لحكَّةٍ كانت بهما([23]).
بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم -وهو خير ما أختم هذا المقال-أنه وصف الرخص التي امتن الله بها على عباده بأنها صدقة منه سبحانه ينبغي قبولها مصداقا لحديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له عند قوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) ([24]): "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" ([25]).
الخاتمة:
وفي خاتمة هذا المقال خلصت إلى الآتي:
1-أن الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير ورفع الحرج والمشقة عن العباد بنص من الكتاب والسنة النبوية.
2-أن الرخص عبارة عن التخفيفات في بعض الظروف الطارئة.
3-لقد ثبت في هدي النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ بالرخص ؛ كما رخص لأصحابه في بعض المواقف رفعا للمشقة عنهم.
4- أن الرخص عبارة عن صدقات امتن الله بها على عباده ينبغي قبولها.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
****************
هزامش المقال:
([1]) سورة البقرة من الآية (184).
([2]) سورة الحج من الآية (76).
([3]) سورة البقرة من الآية: (285).
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /42)، كتاب: العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم (69)، ومسلم في صحيحه (2/ 830)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم: (1734) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([5]) وهو جزء من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أخرجه أحمد في مسنده (36 /624)، برقم (22291).
([6]) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (10 /107 و 112) ، برقمي: (5866)، و (5873)، وابن حبان في صحيحه (6/451)، برقم: (2742) وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
([7]) معجم مقاييس اللغة (2 /500) مادة: "رخص".
([8]) لسان العرب (7 /40) مادة: "رخص".
([11]) شرح تنقيح الفصول (ص: 106).
([12]) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (1 /290 )
([13]) معجم مصطلحات الفقه المالكي (ص: 69).
([14]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /311)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، برقم: (690).
([15]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /497-498)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم ، ولمن يشق عليه أن يفطر، برقم: (1114).
([16]) انظر الحديث عند مسلم في صحيحه (1 /141)، كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين، برقم: (276).
([18]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /500-501)، كتاب: الصيام، باب: أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، برقم: (1120).
([19]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /499)، كتاب: الصيام، باب: أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، برقمي: (1119).
([20]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /500)، كتاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر، برقم: (1121) .
([21]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /52)، كتاب: الصوم ، باب: صوم الدهر، برقم: (1976)، مسلم في صحيحه (1 /514)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا، أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم، برقم: (1159) واللفظ لمسلم.
([22]) صحيح مسلم بشرح النووي (8 /43).
([23]) انظر الحديث عند مسلم في صحيحه (2 /1000) ، برقم: (2076)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها.
([24]) سورة النساء من الآية: (100).
([25]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /310)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب : صلاة المسافرين وقصرها برقم: (686).
*********************
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:
تقريب معجم مصطلحات الفقه المالكي. لعبد الله معصر. دار الكتب العلمية بيروت. 1428هـ- 2007مـ.
الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1/1400هـ.
رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب. لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي. تحقيق: محمد عبد الرحمن مخيمر عبد الله. دار الكتب العلمية بيروت. 2009مـ
روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد. لموفق الدين عبد الله بن أحمد ابن قدامة المقدسي. علق عليه وخرج أحاديثه: عبد الله محمود محمد عمر بيروت لبنان 2007مـ
زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم الجوزية. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرناؤوط- عبد القادر الأرناؤوط. مؤسسة الرسالة بيروت 1418هـ - 1998مـ.
شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول. لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي. قدم له وعلق عليه: أحمد فريد المزيدي. دار الكتب العلمية بيروت. 2007مـ
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان. مؤسسة الرسالة بيروت. ط2 / 1414هـ- 1993مـ.
صحيح مسلم بشرح النووي. المطبعة المصرية بالأزهر. ط1 / 1347هـ- 1929مـ.
صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ.
كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي. لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري . وضع حواشيه: عبد الله محمود محمد عمر. دار الكتب العلمية بيروت 2009مـ.
لسان العرب. لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي. دار صادر بيروت ط3/ 1414هـ- 1994مـ.
مسند أحمد. لأحمد بن حنبل. أشرف على تحقيقه: شعيب الأرنؤوط- تحقيق: مجموعة من الباحثين. مؤسسة الرسالة بيروت. (ج10) ط1/1416هـ- 1996مـ مـ- (ج36) ط1/ 1421هـ- 2001مـ .
معجم مقاييس اللغة. لأبي الحسين أحمد بن فارس . تحقيق وضبط: عبد السلام محمد هارون. دار الفكر. 1399هـ- 1979مـ.
*راجع المقال الباحث: محمد إليولو