مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

إجزاء النية في أول ليلة من شهر رمضان عما سواها

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن فرائض الصوم خمس، وهي: العلم بدخول الشهر، والنية، والإمساك عن الطعام والشراب والجماع، واستغراق طرفي النهار المفترض صيامه[1].

ومن رحمة الله بعباده أن جعل اختلاف العلماء في نية الصيام رحمة بهم، فمذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى: إجزاء النية في أول ليلة من شهر رمضان عما سواها، ومذهب الأئمة: الشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى: تجديد النية في كل ليلة، ولا ينافي ذلك أنه يستحب تبييتها كل ليلة لمراعاة الخلاف [2].

إن قول الإمام مالك رحمه الله تعالى: "من بَيَّت الصيام أول ليلة من رمضان، أجزأه ذلك عن سائر الشهر"[3]، وتبعه على ذلك أصحاب المذهب وقالوا بهذا القول؛ لأن الصوم كالصلاة، فلما كان المصلي تكفيه النية عند افتتاحه للصلاة، وعدم تجديدها عند قيام كل ركن منها، فكذلك الأمر بالنسبة لصيام رمضان؛ إذ كما استُصحِبت النية في الصلاة من مبدئها إلى منتهاها، ولا يُشترط تجديدها، فكذلك تسْتَصْحب النية من بداية شهر إلى آخره، وهو دليل الاستصحاب، وهو دليل من الأدلة الشرعية[4].

وفي ذلك يقول ابن رشد رحمه الله تعالى: "رمضان كله كيوم واحد؛ إذ لا يتخلله وقت فطر يصح صومه، فتجزئ فيه نية واحدة في أوله، ويكون حكم النية باقيا مستصحبا لا يحتاج إلى تجديد النية عند كل يوم، كالصلاة التي يلزمه إحضار النية لها عند أولها، ولا يلزمه تجديدها عند كل ركن من أركانها"[5].

وقال ابن بزيزة التونسي رحمه الله تعالى: "هل يشترط النية لكل ليلة، أم يجزئ التبييت لليلة الواحدة الأولى، فتستصحب على جميع الشهر، فيه قولان في المذهب أحدهما: اشتراط التجديد لتخليل الفطر كل ليلة، والمشهور، الاكتفاء بنية أول ليلة؛ لأنه كيوم واحد من حيث إن الفطر المتخلل ليس إلا في الليل، والليل ليس بمحل الصوم[6].

كلام ابن بزيزة شرح لكلام القاضي عبد الوهاب، لما قال: "له –أي للصائم- في شهر رمضان أن يجمعه بنية واحدة، ما لم يقطعه فيلزمه استئناف النية"[7].

وقال ابن عبد البر: "لم يستحب مالك إلزام التبييت في كل ليلة من رمضان، وقال يجزئه التبييت في أول ليلة منه؛ لأن النية تنعقد على صومه من أول يوم من أيامه، إلا أن المسافر، والحائض، والمريض إذا أفطر أحدهم بعلة سفر، أو مرض، أو حيض، ثم أراد الصيام لم تجزه نيته التي كان قد عقدها لصوم رمضان في أوله، ويلزمه أن يجرد النية لما بقي منه"[8].

وقد أوجب ساداتنا المالكية تبييت النية قبل طلوع الفجر، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: "لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر"[9]، تأسيسا على حديث حفصة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له»[10].

وفي الحكم على هذا الحديث، قال ابن عبد البر: "لم يخص في هذا فرضا ولا سنة من نفل، وهذا حديث فرد في إسناده، ولكنه أحسن ما روي مرفوعا في هذا الباب"[11].

وقال ابن العربي: "هذا حديث صحيح عزيز، لم يقع لأحد من أهل المغرب قبل رحلتي، وهو من فوائدي الخمسين التي انفردت بها بإبلاغها عن الشريعة إلى أهل المغرب، فظنوا انه لا يوجد صحيح"[12].

وقال في شرح للحديث: "هذا الحديث أصل من الفقه، وركن من أركان العبادات، وأصل من أصول مسائل الخلاف، فأما تعلقه بأصول الفقه؛ فان القدرية ألبست به على سلفنا الأصوليين، فأسلكتهم في ضنك من النظر، قالت لهم: إن النفي بـ: "لا"، إذا اتصل باسم على تفصيل، فإنه يجمل، وفاوضوهم عليه وناظروهم فيه، وما كان قولهم أن يفعلوا هذا، فإنها شركة معهم من التلاعب بالشريعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث لبيان المشاهدات وإثبات الحسيات، وإنما بعث لبيان الشرعيات، فإذا نفى شيئا فإنا ننفيه شرعا، وإن أثبته فإنا نثبته شرعا، فليس في كلامه بذلك احتمال فيدخله إجمال، وانظر تمهيد هذا في: التمحيص تلقه إن شاء الله. وأما كونه ركنا من أركان العبادات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بنى للطاعات ركنا، وعمد للعبادات عمادا أوعد به السويات، فقال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»[13]، وقد بيَّنا في سراج المريدين في القسم الرابع من التفسير منزلة النية، ومرتبة الإخلاص في الملة، فهي ركن التوحيد أصلا، وكل عمل فرعا كان من الدين أو الدنيا ومازال"[14].

ثم قال في إجزاء النية في أول رمضان لجميع أيامه: "هذه مسألة عسرة تفرد بها مالك وأحمد، وقد مهدناها في كتاب: الإنصاف، وجملة الأمر: أن المسألة تنبني على أس، وهو: أن رمضان كله عبادة واحدة أو عبادات، والأدلة فيه متعارضة، فالذي يدل على أنه عبادة واحدة أنه، لا يتخلله صوم آخر، والذي يدل على أنه عبادات، أن إفساد يوم منه لا يتعدى إلى آخر وهذا الأصل على أبي حنيفة والشافعي؛ لأن إفساد ركعة من الصلاة، لا يتعدى عندهم إلى جميعها، وكذلك نقول نحن في مسائل من الصلاة، ولهذا الأصل اختلف قول مالك في تجديد النية كل ليلة وبه أقول"[15].

***********************

هوامش المقال:

[1]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر 2 /38، العلم المشهور في فضائل الأيام و الشهور لابن دحية 2 /590.

[2]) العلم المشهور في فضائل الأيام و الشهور لابن دحية 2 /590، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني للنفراوي 1 /354.

[3]) الاستذكار 10/ 35.

[4]) انظر عن الاستصحاب: تقريب الوصول إلى علم الأصول لابن جزي المالكي ص: 391، وتنقيحه لكوكسي كور ص: 128.

[5]) المقدمات الممهدات 1/ 246.

[6]) روضة المستبين في شرح كتاب التلقين 1 /510.

[7]) التلقين في الفقه المالكي 1 /178-179.

[8]) الكافي فقه أهل المدينة المالكي لابن عبد البر ص: 335-336.

[9]) انظر تخريج هذا الأثر في هامش تحقيق كتاب الاستذكار 10 /34.

[10]) انظر تخريج هذا الحديث في هامش تحقيق كتاب الاستذكار 10/ 37، وألفاظه في جامع الأصول 6 /284.

[11]) الاستذكار 10 /37.

[12]) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي 3/ 208.

[13]) انظر عن الحديث وتخريجه في: منتهى الآمال في شرح حديث: إنما الأعمال للسيوطي ص: 36، وإعمال الفكر والروايات في شرح حديث: «إنما الأعمال بالنيات» للكوراني ص: 103.

[14]) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي 3/ 209.

[15]) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي 3/ 210.

**********************

جريدة المراجع

الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار ليوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة-مصر، دار الوعي، حلب- سوريا، الطبعة الأولى: 1414 /1993.

إعمال الفكر والروايات في شرح حديث: «إنما الأعمال بالنيات» لإبراهيم بن حسن الكوراني، تحقيق: أحمد رجب أبو سالم، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1434/ 2013.

تقريب الوصول إلى علم الأصول لمحمد بن أحمد بن جزي الغرناطي، تحقيق: محمد المختار بن محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، ومكتبة العلم، الطبعة الثانية: 1423 /2002.

التلقين في الفقة المالكي لعبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي، تحقيق: محمد ثالث سعيد الغاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض- مكة المكرمة، (د-ت).

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ليوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، تحقيق (ج2): مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط- المغرب، الطبعة الثانية: 1402/ 1982.

تنقيح تقريب الوصول إلى علم الأصول للطف الله كوكسي كور الأرضرومي، تحقيق: لحسن بن علي الرحال، مصطفى عكلي التمكروتي، منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، الرابطة المحمدية للعلماء، دار الأمان، الرباط- المغرب، الطبعة الأولى: 1440 /2019.

جامع الأصول في أحاديث الرسول للمبارك بن محمد الجزري ابن الأثير، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الحلواني، مطبعة الملاح، مكتبة دار البيان، ابتداء من: 1389 /1969.

روضة المستبين في شرح كتاب التلقين لعبد العزيز بن إبراهيم ابن بزيزة التونسي، تحقيق: عبد اللطيف زكاغ، دار ابن حزم، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1431 /2010.

عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي لأبي بكر محمد عبد الله بن العربي المعافري، اعتناء: جمال المرعشلي، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1418 /1997.

العلم المشهور في فضائل الأيام و الشهور لعمر بن الحسن ابن دحية الكلبي الأندلسي، تحقيق: طارق طاطمي، غزلان بنتوزر، بوشعيب شبون، نجاة زنيزن، منشورات الرابطة المحمدية للعلماء، دار الأمان، الرباط- المغرب، الطبعة الأولى: 1441/ 2020.

الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني لأحمد بن غانم بن سالم بن مهنا النفراوي الأزهري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثالثة: 1374/ 1955.

الكافي فقه أهل المدينة المالكي ليوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، تحقيق: محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1398 /1978.

المقدمات الممهدات لمحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى: 1408/ 1988.

منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محمد عطية، دار ابن حزم، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1419/ 1998.

*راجعت المقال: الباحثة: خديجة ابوري

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق