مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أَسْرَارُ البَيانِ في القُرآنِ(22) البَيَانُ في كَلمَةِ(كافَّةً) في قَولهِ تعَالى في سُورَة(سَبَأ): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾

وَذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (سَبَأ ) : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾. فَإِنَّ كَلِمَةَ (كَافَّة)، لَهَا مَلْحَظٌ يَستَلفتُ النَّظَر، يَنْحُو بالْـمُتأمّل فيهَا ، نَحْوَ اعْتَبَارِ البَيَانِ فِيهَا ، مِنْ جِهَةِ التَّقْدِيمِ والتَّأخِير؛ حَيْثُ يَكُونُ الأَصْلُ: (لِلنَّاسِ كَافَّةً)،أيْ: للنّاسِ جَميعاً، وعامّةً. وَهُوَ الْـمَعْنَى الذِي يُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ ابْتِدَاءً؛ عَلَى اعْتِبَارِ مَا يُعَزِّزُهُ مِنْ آيَاتٍ وأحَادِيثَ، تُثبتُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم، بُعث للناس جَمِيعاً؛ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾. وقولهُ عزَّ وجلَّ في سُورَة (الفُرقَان):﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَـمِينَ نَذِيرًا﴾. ومنَ الأَحاديثِ ما رَواهُ (البُخاريّ)عنْ(جابِر بنِ عَبداللهِ): «أُعْطيتُ خَمساً لمْ يُعْطهُنَّ أحدٌ منَ الأنْبِياءِ قَبْلي»، وفيهِ قولهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ:  «وكانَ النّبيُّ يُبْعثُ إلى قومهِ خاصّةً، وبُعثتُ إلَى النَّاس كافَّةً».

            وقد وردَت كلمةُ(كافّةً) في أَربعِ آياتٍ، منها الآيَةُ الّتي انطلقْنَا منهَا. ومنهَا قولهُ تعالى في سُورَة(البَقَرَة): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافَّةً﴾،وقولهُ تعالَى في سورَة(التَّوبَة): ﴿وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾،ثمَّ قولهُ عزّ وجلَّ في نفسِ السّورَة: ﴿وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً﴾.

         وكلمةُ(كَافَّة)مُشتقَّةٌ منَ الفعْل(كَفَّ يَكُفُّ)،بمعنَى(مَنَعَ).وهيَ على وزنِ (فَاعِلَة)، فأصلُهَا (كَافِــفَـة)،فاجْتمَعَ مَثَلان مُتحرِّكانِ، فَسُكِّنَ الأولُ وأدْغِمَ. قالَ (برهان الدين الْـمُطَرِّزيّ-تــــ:610ه) في مُعجَمهِ( الـمُغرِب في تَرتِيبِ الْـمُعْرب): «(الْكَفُّ): مَصْدَرُ  كَفَّهُ، إذَا مَنَعَهُ، وَكَفَّ بِنَفْسِهِ امْتَنَعَ». وجاءَ في(لسَان العَرَب): «وأَصلُ الكَفّ: الْـمَنْع، ومنْ هذَا قيلَ لطَرَف اليَد كَفٌّ، لأَنها يُكَفُّ بهَا عنْ سَائِر البَدَن، وهيَ الرَّاحةُ معَ الأَصَابِع، ومنْ هذَا قيلَ: رَجلٌ مَكْفُوف أَيْ قدْ كُفَّ بَصرُهُ منْ أَنْ يَنظُر».

        بيْدَ أنَّ الفعلَ (كفَّ) تَمتدُّ دَلالَتُهُ إلى مَعنَى(جَمَعَ)،ذكرَ ذلكَ (ابنُ مَنظور) في(لسَانِ العَرَب)،حيثُ قالَ: «كَفَّ الشيْءَ، يكُفُّه كَفّاً: جَمَعَهُ». وكذلكَ وردَ في(الْـمُحكَم) (لابْنِ سِيدَهْ): «كَفَّ الشَّيْءَ يَكفُّهُ كفّاً: جَمَعَهُ». ومنهُ قولُهُم: كَفَّ ثَوبَهُ عندَ السُّجُود، أيْ جَمَعهُ وضَمّهُ إليهِ. ولذلكَ فُسّرَ حديثُ (ابن عَبّاسٍ) رَضيَ اللهُ عنهُ، عنِ (النّبيّ) صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: «أُمِرتُ أنْ أَسجُدَ علَى سَبعَةٍ، وَلا أَكُفَّ شَعْراً ولَا ثَوْباً»، فُسِّر علَى المعنَيَينِ،(الْـمَنْع والجَمْع). فيَحتَملُ أنْ يكونَ بمَعنَى (الـمَنْع)، أيْ: لا يَمْنعُهُما منَ الاسْتِرسَالِ حالَ السُّجُود، لِيقَعَا علَى الأرْضِ، ويَحْتَمل أنْ يكونَ بمَعنَى (الجَمْع)، أيْ: لَا يَجْمَعُهما فيَسجُدُ عَليهمَا.

          فكانتْ هذهِ الكلمَةُ مُحتملَةً للمَعنَيَيْن معاً. وهَكذَا فقَولُكَ (جاءَ الطلّابُ كافّةً)،وإنْ تَبادَر إلى الذِّهْن، وهوَ ما تَجدهُ في المعَاجمِ، أنَّ معناهُ:(جاءَ الطلّابُ جَميعُهُم أو كُلُّهُم)،فإنَّ في كلمةَ (كافَّة)فَضلَ معنىً يُوسِّعُ دلالَتَها؛ وهوَ أنَّكَ قَصدتَ إلى أنَّ المجيءَ كانَ علَى الإحاطةِ بجَميع الأفرَادِ، معَ مَنعِهِم منَ الانتشَار والتّفرُّقِ، أوْ دُخُول غَيرهمْ فِيهِمْ، فهمْ كمَا يُقالُ في (الحَدّ: جَامِعٌ مَانِعٌ).

        وقدْ أبدَعَ الإمامُ ( الفَخْر الرَّازيّ)، كعادَتهِ، في إبْرازِ هذَا المعنَى بقولهِ  في (تَفسيرهِ):«ومعنَى (الكَافَّة) في اللغةِ، الحَاجزَة الْـمَانعَة. يُقالُ: كَفَفْتُ فُلاناً عنِ السُّوءِ، أيْ: مَنَعتُهُ، ويقَالُ: كَفَّ القَميصَ، لأنّهُ مَنَعَ الثَّوبَ عنِ الانْتِشَار، وقيلَ لِطرفِ اليَد: كَفٌّ، لأنّهُ يُكَفُّ بهَا عنْ سائِر البَدَنِ، و رَجُلٌ مَكفوفٌ، أيْ كُفَّ بَصرُهُ منْ أنْ يُبْصِرَ. فالكافَّةُ مَعناهَا الْـمَانعَةُ، ثمَّ صارَت اسْماً للجُملَةِ الجَامعَة، وذلكَ لأنَّ الاجْتِماعَ يَمنعُ منَ التَّفرُّقِ والشّذُوذِ، فقولهُ: ﴿ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً ﴾ ،أيْ: اُدخُلُوا في شَرائعِ الإسْلامِ إلَى حيثُ تَنتَهي شَرائعُ الإسْلامِ، فتَكفُّوا مِنْ أنْ تَترُكُوا شَيْئاً منْ شَرَائِعِهِ، أوْ يَكُونُ المعنَى: اُدْخلُوا كُلُّكُم حتَّى تَمنَعُوا واحِداً منْ أنْ لا يَدخلَ فيهِ».

        لكنَّ الآيةَ من سُورةِ(سَبَأ)، والَّتي نَحنُ بصدَدِها، تَحتمِلُ كلمةُ(كافَّةٍ) فيهَا معنىً بَديعاً ، عَلَى قَدْرٍ  مِنَ الوَجَاهَةِ واللَّطافَة ، ذَكَرَهُ عَدَدٌ غير قليلٍ مِنَ المُفسِّرِينَ، وعلماءِ اللُّغَة مِنْهُمْ (أبُو حيَّان) في (البحْر المحِيط)، و(القُرْطبي)، و(الرّازِيّ)،و(السِّجسْتَانيّ) في(غَريب القُرْآن)و(الزّجّاج) في(مَعاني القُرآنِ)، و(العُكبَريّ) في (اللُّبَاب)... وهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ ( كَافَّةً) لَيْسَتْ حَالاً تَقَدَّمتْ وتَأخَرَ صَاحِبُهَا ،على قوْلهمْ تقديراً: (للنَّاس كَافّةً)، وإنَّما هِيَ حالٌ علَى وجْههَا منَ النَّظمِ، وقدْ تقدَّمَ صاحبُهَا، وهوَ الضَّميرُ في(أَرسَلنَاكَ)،فهيَ اسْمُ فَاعِلٍ بمَعنَى (مَانِع)؛ مِنَ الفِعْلِ (كَفَّ يَكُفُّ)أي: مَنعَ، لكنهُ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الـمُبَالَغَةِ، بزيادَةِ(تاءٍ مَربوطةٍ) في آخرهِ، كمَا تقولُ( رَجلٌ عَلّامَة، ورَحَّالَة، ونَسَّابَة) ... قَالَ (السَّمينُ الحَلبيّ) في(الدّرّ المصُون): «  يُقالُ: كَفَّ يَكُفُّ أيْ: مَنَع. والمعنَى: إلاَّ مَانعاً لهُمْ منَ الكُفرِ، وأنْ يَشذُّوا مِنْ تَبْلِيغِكَ، ومنهُ الكَفُّ، لأنّهَا تَمنعُ خُرُوجَ ما فيها. » . فَيَكُونُ المعنىَ عَلى هَذَا الوَجْهِ، أَنَّ الرَّسُولَ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، أُرْسِلَ كَافاً للنَّاسِ عَنِ الكُفْر والشّركِ والمعَاصِي، أَيْ مانعاً لهُمْ منَ الوُقُوع فِيها. قالَ (الرّازيّ) في (تَفْسِيرِهِ) :« كَافَّةً: تَكُفُ النَّاسَ أَنْتَ، مِنَ الكُفْرِ . وَالهَاءُ لِلمُبَالَغَةِ». وقدَ يَسنُدُ هذَا المعْنَى في الْـمَنْع، قولهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم في حَديثِ (أبي هُريرَةَ):«فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ ».

           هذَا علَى مَعنَى(الْـمَنع)،وأمَّا علَى معنَى (الجَمْع)، فقدْ ذكرَ (النّسَفيّ) في (مَداركِ التَّنزيل) كلاماً نَسبهُ (للزّجّاج) فقالَ: «وقالَ (الزّجّاج): معنَى الكافَّة في اللُّغَة الإحاطَةُ، والمعنَى: أَرسلْنَاكَ جامِعاً للنَّاس في الإنْذَار والإبْلَاغ. فجعلهُ حالاً منَ (الكافِ)، و(التّاءُ) علَى هذَا للمُبَالغَة، كتَاءِ (الرّاويَة) و(العَلاّمَة)».

         وقدْ لخَّصَ (القُرطُبيّ) في (تفْسيره) هذهِ المعَاني خيرَ تَلخيصٍ فقالَ: «  أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا للنَّاس كافَّةً، أيْ: عامّةً، ففِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌوَقَالَ (الزَّجَّاجُ) أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا جَامِعًا لِلنَّاسِ بِالْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ. وَالْكَافَّةُ بِمَعْنَى الْجَامِعوَقِيلَمَعْنَاهُ كَافًّا لِلنَّاسِ، تَكُفُّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَتَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِوَقِيلَأَيْ إِلَّا (ذَا كَافَّةٍ)، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، أَيْ: (ذَا مَنْعٍ) لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يَشِذُّوا عَنْ تَبْلِيغِكَ، أَوْ (ذَا مَنْعٍ) لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ: كَفَّ الثَّوْبَ، لِأَنَّهُ ضَمَّ طَرَفَيْهِ». 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق