أَسْرارُ البَيَانِ في القُرآنِ(25) البَيَانُ في كَلمَة(طَرِيق) في قولِهِ تعَالى: ﴿يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإلَى طَريقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

و ذلكَ قولهُ تعَالى في سُورَة (الأَحْقَاف): ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإلَى طَريقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ . فَقد وَردَ فيها لفظُ (طَريقٍ مُستَقيمٍ)، و هُوَ لفْظٌ لمْ يَردْ في القُرآنِ غَيرُهُ . فالتَّعْبير دَائماً يَكونُ بِــ(الصِّراط الْـمُستَقِيم) ،مُعرّفاً وغَيرَ مُعرَّفٍ. جاءَ ذلكَ في أكثرَ منْ ثَلاثينَ آيةً في القُرآنِ؛ أوّلُها في الفَاتحَة: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الـمُستَقِيمَ﴾. وقولُهُ تعالَى في سُورَة(يس): ﴿وَأَن اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾. وآخِرُها في سُورَة(الْـمُلك)،في قولهِ تعَالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ﴾.
و(الصِّرَاط) و(الطريق) مُترادِفانِ. بذَلكَ جاءَت كُتُب التَّفسِير واللُّغَة. قالَ(أبُو حيّان الأندَلسيّ) في (تُحفَة الأَريبِ بمَا في القُرآنِ منَ الغَريبِ): «الصِّرَاطُ : الطَّريقُ». وقالَ(أبُو عَمرو الزَّاهد، غُلَامُ ثَعْلَب-تــ:345ه)، في(يَاقُوتَة الصِّرَاط في تفْسير غَريبِ القُرآن): « فَاتِحَةُ الْكِتَاب: أَنَا (ثَعْلَب)،عَن (ابْن الْأَعْرَابِيّ)، قَالَ: الصِّرَاطُ : الطَّرِيقُ». وكذَلكَ هوَ عندَ(الطَّبَريّ)و(السّيوطيّ)و(ابنِ الجَوزيّ)وكَثيرٍ غَيرهِم. لكنَّ الْـمُقرّر، أنّ اختلافَ المبْنَى فيهِ حتْماً شيءٌ مِن اخْتِلافِ المعْنَى.
فإذَا استَنطقْنَا المعَاجمَ، وجَدْنا أنَّ(صِرَاط)، تَأتي منَ الفِعْل (سَرَطَ) بالسّين. لذلكَ تَجدُ أنّ(المعَاجمَ) فَصّلَت في هذَا الجِذْر، ولمْ يُفَصّلُوا في الجِذْر(صَرَطَ).وقالُوا إنَّ أصلَ(صِرَاط)،إنّمَا هوَ (بالسِّين)، وقُلبَت (السّين) (صَاداً) لِـمُجاورَتها لِحَرفِ (الطَّاء). فيَكونُ ذلكَ منَ التَّماثُل الرَّاجعِ، حيثُ يُؤثّر الحرفُ الأَقوَى اللَّاحِق، في حرفٍ أضعَفَ سابقٍ. قال (ابنُ مَنظُور) في (لسَان العَرَب): «و(الصِّراطُ)لُغَةٌ في(السِّرَاط). و(الصَّادُ) أَعْلَى، لمكَانِ المضارَعَة، وإنْ كانتِ (السِّينُ) هيَ الأصْلَ ». وَهُوَ نفسُ الكلامِ بحَرفهِ ونصِّهِ، وردَ قبْلَهُ في(الْـمُحكَم) (لابْنِ سِيدَهْ-تــ:485ه). ونَقلتهُ عنهُ المعَاجِم منْ بَعدِهِ.
وقالُوا أيضاً: «الصِّرَاطُ هوَ السَّبِيلُ الوَاضحُ». قالهُ (الْـمُرتَضَى الزَّبيدِيّ) في(تَاج العَروس): « السِّرَاطُ، بالكَسْرِ: السَّبيلُ الواضحُ». وكذلكَ هوَ في (لسانِ العَرَب) و (الْـمُحكَم). فاجتمعَ منْ ذلكَ ثلاثُ كلمَاتٍ: الصِّراط، والسَّبِيل والطَّريق.
فَتبدُو هذهِ الكَلماتُ الثّلاثُ، وكأنَّها مُترادفَةٌ. وقدِ اعْتبَرها بَعضُهُم كذَاك، وما ذَلكَ إلا لأَنّهَا يَجمعُها كونُها تَدلّ علَى الْـمَسلَك الّذي يَسلُكُهُ النَّاس. قالَ الإمامُ (الشَّاطبيّ) في(الاعْتِصَام): «الصّراطُ والطَّريقُ والسَّبيلُ بِمَعنىً وَاحدٍ». لكنَّ الأصلَ الاشْتقَاقيّ لكلٍّ مِنها، يَستَلزمُ تَفرّداً دَلاليّاً وخُصُوصيّةً في المعْنَى. لذلكَ قالُوا (ابْن السَّبِيل)، ولمْ يقُولُوا (ابْن الطَّريق)، ولا(ابْن الصِّرَاط).
ولهَذا فإنّ التَّعبيرَ في هذهِ الآيةِ بلَفظِ (طَريقٍ مُستَقيمٍ)، كانَ عنْ خُصُوصيَّة دَلاليّةٍ، لا يَشْرَكُهُ فيهَا غَيرُهُ، فتَفرَّدتْ هذهِ الآيةُ بمزيّةٍ بَيانيّةٍ لَطيفةٍ. ذلكَ أنّ الأصلَ الثّلاثيّ (طَرَقَ) مَعناهُ:( دَقّ و ضَرَب). قالَ(ابنُ فَارس) فـي (مَقَاييسِ اللُّغة): « وَالْأَصْلُ الثَّانِي: الضَّرْبُ. يُقَالُ: طَرَقَ يَطْرُقُ طَرْقًا. وَالشَّيْءُ، مِطْرَقٌ وَمِطْرَقَةٌ».
ومنْ ذلكَ أُخِذَ مَعنَى الطَّرِيق. قالَ(الرَّاغِب الأَصفهانيّ) في (الْـمُفردَات في غَريبِ القُرآن) : « الــطَّرِيقُ: السّبيلُ الّذي يُطْرَقُ بالأَرْجُلِ، أيْ: يُضْرَب». وجاءَ في(الْـمَجمُوع الْـمُغيث في غَريبَـي القُرآنِ والحَديث) (لأَبي مُوسَى الْـمَدينيّ-تـــ:581ه) : « قِيل: أَصلُ الطَّرْق، الدَّقّ والضَّرْب. ومنهُ سُمِّيَ الطَرِيقُ؛ لأنَّ الْـمارَّة تَدُقُّهُ بأَرجُلِها». لذلكَ فمعنَى (الطّريق) في اللغَة، هُوَ السَّبِيلُ المَطرُوقُ الَّذي سَلكهُ السَّالكُونَ منْ قبلُ، ومَرّوا عليهِ، فَوطَّؤُوهُ بأرجُلهِم منْ طولِ سَلكِهِ والْـمَشْي عَليهِ. ومثلُ هذَا، ما ذهبَ إليهِ الشّيخ (مُحمّد رَشيد رضَا) في (تَفسِير المنَار) حيثُ قالَ:« الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّفَرِ فِيهَا ،لِأَنَّ الْـمُسَافِرَ يَضْرِبُ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ وَعَصَاهُ أَوْ بِقَوَائِمِ رَاحِلَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: طَرَقَ الْأَرْضَ إِذَا مَرَّ بِهَا، كَأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِالْـمِطْرَقَةِ، وَمِنْهُ الطَّرِيقُ أَيْ: السَّبِيلُ الْـمَطْرُوقُ».
وأنتَ تجدُ أنَّ الجنّ تَحدثُوا في الآيَة، عنْ أنّ الكتابَ أُنزلَ منْ بَعْدِ (مُوسَى)، عَليهِ السَّلام، وأنَّهُ صَدَّقَ مَا جَاءَ قبلهُ منَ الكُتُبِ. وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ، قدْ جاءَ علَى فَترةٍ منَ الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ ، فانْتَهجُوا نفسَ السَّبِيل، وسلكُوا نفسَ الطَّريقَ الْـمُوطّأ. ثمَّ إِنَّكَ لو عدتَ خلْفاً قَليلاً إلى الآيةِ التّاسعةِ منَ السُّورَة، فَستَقرَأُ ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً منَ الرُّسُلِ﴾؛ أيْ لَستُ الأوَّل في الرُّسُل. وقولهُ (بِدْعاً) منَ الفعْل(بَدَعَ)، أيْ أَنشَأ ابْتداءً، عَلى غَير مِثالٍ سابِقٍ. قالَ(ابنُ سِيدَهْ) في(المحْكَم): « بَدَع الشَّيْء يَــبْدَعُــه بَدْعــًا وابْتَدعَهُ: أَنشَأَهُ وبَدأهُ. وبَدَع الرَّكيّةَ: اسْتَنبَطهَا وأَحدَثَها، ورَكيٌّ بَدِيعٌ: حَدِيثَةُ الْحَفْر.والبَديعُ والــبِدْعُ: الشَّيْء الَّذِي يكُون أَوّلا، وَفِي التَّنْزِيل:﴿مَا كُنْتُ بِدْعاً منَ الرُّسُلِ﴾». وقالَ (الفَرّاء) في(مَعاني القُرآنِ). « يَقُول : لَمْ أكنْ أوّلَ مَنْ بُعِث ، قدْ بُعِثَ قَبلي أنبيَاءُ كَثيرٌ» .وقالَ الإمامُ (الطّبريّ) في (تَفسيرهِ) : « يَعني : مَا كنتُ أوّلَ رُسُل اللهِ الَّتي أرسَلَها إلَى خَلقِه ، قدْ كانَ منْ قبْلِي لهُ رُسُل كَثيرةٌ أُرسِلتْ إلَى أمَمٍ قَبلكُم. يُقالُ منهُ: هُوَ بِدْعٌ في هذَا الأَمْر ، وبَديعٌ فيهِ ، إذَا كانَ فيهِ أَوّل».
فهَذا السّبيلُ كمَا تَرى قدْ سَلكهُ الرُّسُلُ منْ قبلِ النّبيّ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. وقدْ شَهدَت الجنُّ، بمَا عَلِمَتْ مِنْ سُنَنِ الأَنْبِيَاءِ السَّابقِين، بأنّهُ طَريقٌ مُستَقيمٌ. أيْ هوَ (سَبيلٌ مَطرُوقٌ)، قدْ وطَّأَتهُ الأنبياءُ علَى تَواليهِمْ، بمَا جاءَهُم منَ الهدَى بوَحْي اللهِ، وانْتِظامِ شَرائِعِه.
وهَذا المعْنَى منَ الفَرائدِ البديعةِ الّتي ذَكرَها (ابنُ القَيّم) في كتَابهِ (بَدائِع الفَوَائِد )،حيثُ قالَ: «وتَعبيرُهُم عنهُ هَهُنا بـــ(الطَّريقِ)فيهِ نُكتةٌ بَديعَة، وهيَ: أنّهُم قَدَّموا قَبلهُ ذكرَ (مُوسَى)، وأنّ الكتابَ الّذي سَمِعوهُ مصدقٌ لما بَين يَديهِ من كتابِ (مُوسَى) وغَيرهِ، فكانَ فيهِ كالنَّبَأ عنْ رسُول اللهِ - صلّى اللهُ عليهِ وسلّم - في قولهِ لقَومهِ: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾،أيْ: لمْ أكُنْ أوّلَ رَسولٍ بُعثَ إلى أَهل الأرْضِ، بلْ قَد تَقدّمتْ قَبْلي رُسلٌ منَ اللهِ إلى الأُمَم، وإنَّمَا بُعِثْتُ مُصدّقًا لهُم بمِثْل ما بُعثُوا بهِ منَ التَّوحيدِ والإيمَان... أيْ: إلَى سَبيلٍ مَطروقٍ قدْ مَرَّت عليهِ الرُّسُل قبلَهُ، وأنّه ليسَ بِبِدْعٍ، كمَا قالَ في أوّل السُّورَة نَفسِها، فاقْتَضَت البَلاغَة والإعجازُ لَفظَ (الطَّريقِ)؛ لأنَّهُ (فَعِيل) بمَعنَى (مَفْعُول)، أيْ: مَطرُوقٌ مَشَتْ عليهِ الرُّسُل والأنْبِياءُ قَبلُ، فحَقيقٌ علَى منْ صَدّق رُسُل اللهِ وآمَن بهِمْ أنْ يُؤمِن بهِ ويُصدِّقَهُ، فذِكْرُ (الطَّريق) هَهُنا إذَنْ أَوْلَى؛ لأنَّهُ أَدخَلُ في بابِ الدَّعوَة والتَّنبيهِ علَى تَعَيُّنِ اتِّبَاعهِ، واللهُ أعْلَم».
وقَبلهُ قالَ الإمامُ(أبُو القَاسِم السُّهَيليّ) في(نَتَائِج الفِكْر في النَّحْو): « وأمَّا ذِكرُه بِلَفظِ (الطَّريقِ) في سُورَة (الأحقَافِ) خاصَّةً، فلِأَنّه انْتَظَم بقوْلِه سُبحَانهُ: ﴿سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾. وإنَّمَا أرادَ أنّه سَبيلٌ مَطرُوقٌ، قدْ مرَّتْ عليْهِ الرُّسُل قبلَهُ، وأنَّهُ ليسَ بِبِدْعٍ، كمَا قالَ في السّورَة نفسِها، فاقْتَضَت البَلاغةُ والإعْجازُ لَفظَ ( الطَّريقِ)، لأنّهُ (فَعيلٌ) بمَعنَى ( مَفْعُول ). أيْ: أنَّه مَطروقٌ مَشَتْ عليهِ الرُّسُل والأنْبِياءُ قَبْلُ».
فانظُرْ إلَى هذَا الإعْجاز البَيانيّ ،وكيفَ تَفرَّدتْ هذهِ الآيةُ في القُرآن كُلّه، بهَذا اللَّفظِ (طَريق مُستَقِيم)، منْ بَينِ آياتٍ كَثيراتٍ جاءَتْ بلَفظِ(صِرَاط مُستَقِيم)،لتُؤدّيَ مَعنىً بديعاً لا يَتبَيّن بغَيرهَا. ولعلّ ذلكَ أنْ يكونَ أيضاً في لَفظِ(السَّبيل)،حيثُ الجِذْر (سبل)، يَكشفُ عنْ تَفرُّدهِ بخُصُوصيّاتٍ دَلاليّةٍ، تَجعلُ اخْتيَارهُ يُخفِي لَطيفَاتٍ بَيانيّةً تَستدْعِي التَّدبُّر، وعَميقَ النَّظَر، في كتابٍ « لاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلَقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا: ﴿إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ﴾.