مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أَسرارُ البَيانِ في القُرآنِ(43) البَيانُ في تَكرَار (لَا) في العَطفِ في قَولهِ تعَالَى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾

وذلكَ قولُه تعَالى في سُورَة (فُصِّلَت): ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْـنَكَ وَ بَيْـنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِـيٌّ حَمِيمٌ﴾، بِتَكْرَار حَرْف النَّفْي (لَا). وَالْـمَعنى الّذي يَسبقُ إلى الفَهْم بَداءةً هوَ أنّ الحسَنةَ والسّيّئةَ لا تَستَويانِ. فَالحسَنةُ لَها أَثرُ نَفعٍ وخَيرٍ، والسّيّئةُ علَى نَقيضِها لها أَثرُ ضُرٍّ  وشَرٍّ. ومِنْ ثَمّ اختَلفَ الجَزاءُ فيهمَا، فالحسَنةُ بِثوابٍ وأَجرٍ، والسَّيّئةُ بِعِقابٍ وزجْرٍ. لذلكَ قالَ كَثيرونَ بِزيادَة (لَا) الثّانيَة، وأنّ أصلَ الكَلام: (لَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ والسّيِّئَةُ).

             وقدْ ورَدَ هذا التَّوجيهُ في كَثيرٍ من كُتُب التَّفْسيرِ واللُّغَة. وقَالوا عنْ (لَا): إِنّهَا (صِلَةٌ)، أَيْ زائدَةٌ، وهوَ مُصطلَح قديمٌ اسْتعمَلهُ (الكُوفيُّونَ) إلَى جانِب مُصطَلَح (الحَشْو)، في حِينِ اسْتَعمَلَ (البَصريُّونَ) مُصطلَحَ (الزِّيادَة) و(الإلْغَاء)، وعدُّوا الحُرُوف الَّتي تَأتي في هَذَا الوَضْع سِتَّة: (إِنْ - أَنْ - مَا - لَا - مِنْ - البَاء). وقدْ سَمّاها (الرَّضيّ الأَسْترابَادِيّ) في (شَرحِ الكَافيَة)،(حُروف الزّيَادة)، ثُمّ علَّلَ تَسميتَـها بِحُروف الصِّلَة بقَولهِ: «وَسُمِّيَتْ أَيضاً: حُرُوفَ الصِّلَة، لأَنَّهَا يُتَوَصَّلُ بهَا إلَى زيَادَةِ الفَصَاحَةِ، أَو إلَى إقَامَةِ وَزنٍ أوْ سَجعٍ أو غَير ذَلكَ». وقدْ أورَدَ (القُرطبيّ) في (تَفسيرهِ) كَلاماً (للْفَرَّاء) عنْ هذهِ الآيَة فقَالَ: «﴿وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ﴾، قالَ (الفَرَّاء): (لَا) صِلَةٌ، أيْ (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ والسَّيِّئَةُ)». ثُمّ ساقَ لهُ بَيتاً منَ الشِّعْر يُنسَبُ إلَى (جَرِيرٍ)، قَد مَلأَ الكتُبَ اسْتدلَالاً علَى زيادَة (لَا) في مثْلِ هذَا الكَلامِ، وهو قولُهُ:

ما كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمُ /// وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ

وعلقَ عليهِ بقَولهِ: «أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ». فتكونُ (لَا) في البَيتِ زَائدَةً مُلغاةً.

             وَلا جَرَمَ أنّ المفهومَ من قَولهِم: زائدَة، ليسَ تَجريدَها منْ أيّ أثَرٍ في الكَلامِ، بلْ إنَّ ذَلكَ لَثابِتٌ لَها لَفظاً ومَعنىً، وإنَّمَا يَكونُ إلغَاؤُها غَيرَ ذي أَثَر  في أَصلِ المعْنَى الَّذي بُنيَ عليهِ الكَلامُ. وقدْ نبّهَ إلى ذلكَ (ابنُ هشَامٍ) في (الْـمُغني) حيثُ قالَ: «وَكَذَلِكَ (لَا) الْـمُقتَرنةُ بالعَاطفِ فِي نَحْو: (مَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو)، ويُسمُّونَها (زَائِدَة)، وَلَيْسَتْ بِزَائدةٍ أَلْبَتَّةَ، أَلا تَرَى أَنّهُ إِذَا قِيلَ: (مَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو)، احْتَمَلَ أَنَّ الـمُرَادَ نَفْيُ مَجِيءِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يُرَادَ نَفيُ اجْتِمَاعِهِمَا فِي وَقتِ الْـمَجِيءِ. فَإِذا جِيءَ بِــ(لَا)، صَارَ الْكَلَامُ نَصّاً فِي الْـمَعْنَى الأَوّل».

          فإذَا تَدبَّرتَ الأَمرَ فضْلَ تَدبُّر، تَبيّن لكَ أنّ الفِعْل (تَسْتَوي) في الآيةِ لهُ خِصِّيصَى دَلاليَّة، إذْ لا يَكتَملُ المعنَى في الجُملَة حتَّى تَنتهيَ إلَى الاسْم الثّاني، فَلا يَجوزُ أنْ تَقتصِر على الأوّل، فتَقول: (تَسْتَوي الحَسنَةُ)، إلّا أنْ تَخرُج إلى مَعنىً آخرَ مُغايرٍ للمَعنَى المقصُود في الآيَة كالّذي تَجدهُ في قَولهِ تعالَى: ﴿فاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾، أوْ قولهِ تعالَى عنْ (مُوسَى) عَليهِ السلامُ: ﴿وَلَـمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾. فَالظاهِرُ أنّ الوَزنَ (افْتَعَلَ) ههُنَا يُمَاثلُ الوَزنَ (تَفَاعَلَ)، مِثل:(اخْتَصَمَ وتَخَاصَمَ)، في أنَّهُ يَتطلَّب اسْمَين علَى الأَقلّ علَى قَصدِ المشَارَكَة، قالَ (المرتَضَى الزَّبيدِيّ) في (تاج العَرُوس): «( اسْتَوَيَا) و(تَسَاوَيَا): أَيْ (تَمَاثَلا)، فَهَذَا فِعْلٌ أُسْنِدَ إِلَيْهِ فاعِلانِ فصاعِداً، تَقولُ: (اسْتَوَى زَيْدٌ وَعَمْرٌ وَخَالِدٌ فِي كَذَا)، أَيْ( تَسَاوَوْا)؛ وَمِنْه قوْله تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾». وقدْ أَشارَ (سِيبَوَيهِ) في (الكِتاب) إلَى هذهِ العَلاقةِ المعنَويَّة بينَ (تَفَاعَل) و(افْتَعَل) فقالَ: «فَفي (تَفَاعَلْنَا) يُلفَظُ بالمعنَى الَّذي كانَ في (فاعَلْتُهُ)، وذَلكَ قَولُكَ: تَضَارَبْنَا، وتَرَامَيْنَا، وتَقَاتَلْنَا. وقَدْ يَشْرَكُهُ (افْتَعَلْنَا) فَتُـريدُ بِـهمَا مَعنىً وَاحِداً، وذَلكَ قَولُهُم: تَضَارَبُوا وَاضْطَرَبُوا، وتَقَاتَلُوا واقْتَتَلُوا، وَتَجَاوَرُوا وَاجْتَوَرُوا، وَتَلَاقَوْا وَالْتَقَوْا».

            وقدْ ورَدَ الفعلُ (اسْتَوَى) بهذَا المعنَى في آياتٍ عَديدةٍ، لكنّ تَكرارَ (لَا) فيهَا لمْ يَردْ إلّا في آياتٍ قَليلةٍ، منهَا قولهُ تعَالى في آياتٍ مُتتَاليَاتٍ منْ سُورَة (فَاطِر): ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ(20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾، وقَولُهُ تَعالَى في سُورَة (غافِر): ﴿وَمَا يَسْتَوِي ٱلاعْمَـى  وَٱلْبَصِيرُ (57) وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ وَلَا ٱلْـمُسِيءُ قَلِيلاً مَا يَتَذَكَّرُونَ﴾، ثُمّ آيَةُ (فُصّلَت) الّتي نَحنُ بِصَدَدِها.

           وللعُلمَاء في هَذا النَّظم الفَريدِ كَلامٌ طَويلٌ مُتشعّبٌ عنْ تَكرَار (لَا)، فَاعتَبرَها بَعضُهم، كمَا رَأينَا، زَائدةً في لَفْظهَا ومُؤكّدةً في مَعناهَا. وجَعلُوا بذلكَ العَطفَ أنْ يَكونَ بِالوَاو، وَأنَّه منْ عطْفِ الْـمُفرَدَات؛ فَأصلُ الكَلام: (وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَالسَّيّئةُ)، حيثُ تُعطفُ (السَّيّئةُ) علَى (الحَسَنَة)، وتَشْرَكُها في الفِعْل والحُكْم.

            لكنَّ القرآنَ كِتابُ بَيانٍ مُعجِز، لا تُوضَع الكَلماتُ فيهِ إلّا علَى نَسَقٍ منَ الحِكْمةِ وكمَال البَلَاغ. وأنتَ إذا أمْعنتَ النّظرَ، واستَحضَرتَ للأَمر فَضلَ تَدبُّر وتَبصُّر، أفصَحَ  لكَ ذلكَ عنْ خَفيَّةٍ بَيانيّة بَديعةِ سَبكهَا ذلكَ التَّكرارُ، ويكونُ مَذهبُ النَّظَر أنْ تَجعَل العَطفَ  في الآيَة منْ عَطفِ الجُمَل، فتُقدّر أنّ المحذُوفَ، علَى المعلُوم منْ أسَاليبِ العَطفِ، هوَ الفعلُ (تستَوِي)؛ فيكونُ الأصلُ: (وَلَا تَسْتَوي الحَسَنةُ ولَا تَسْتَوي السَّيّئةُ)، ثمّ تَعتَبرَ كُلّاً منَ (الحَسنَة) و(السّيّئة) اسمَ جِنْسٍ تَحتهُ أَفرادٌ علَى المعنَى الّذي يُفهَم منْ كَلمَة (الإنْسَان) في قَولهِ تعَالى: ﴿إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْر﴾، أيْ أنَّ الحَسَنةَ، حَسَناتٌ مُختَلفاتٌ، مُتفَاوتَاتُ المرَاتِب والدَّرَجَات، وأنَّ السَّيّئةَ سَيئَاتٌ مُتبَاينَاتُ الْـمَهَاوِي والدَّرَكَات، فَلا تَستَوي الحسناتُ فيمَا بَينَـها، كمَا لا تَستَوي السَّيّئاتُ فيمَا بَينَـها، قالَ (السَّمينُ الحَلَبيّ) في (الدُّرّ المصُون): «في (لَا) هَذهِ وَجْهانِ، أَحدُهُما، أَنَّهَا زَائدَةٌ للتَّوكِيدِ... لأنَّ (اسْتَوَى) لَا يَكتَفي بوَاحِدٍ. والثَّاني: أنَّها مُؤسِّسَةٌ غَيرُ مؤكِّدةٍ، إذِ الْـمُرادُ بالحَسَنَةِ والسَّيئةِ الجِنْسُ، أيْ: لَا تَسْتَوي الحَسَناتُ في أَنفُسِها، فَإنَّها مُتفَاوِتَةٌ. وَلا تَستَوي السّيئاتُ أيضاً. فرُبَّ وَاحدةٍ أعْظمُ مِنْ أُخرَى». ونفسُ الكَلام، بمَعناهُ، ذكرهُ (الزَّركَشيّ) في (البُرهَان في عُلُوم القُرآن)، بلْ إنَّهُ رَجّح المعنَى الثّاني، حيثُ قالَ: «فَمَنْ قَالَ: الـمُرَادُ أَنَّ الْحَسَنَةَ لَا تُسَاوِي السَّيِّئَةَ، فَـ(لَا) عِنْدَهُ زَائِدَةٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ جِنْسَ الْحَسَنَةِ لَا يَسْتَوِي أَفْرَادُهُ، وَجِنْسَ السَّيِّئَةِ لَا يَسْتَوِي أَفْرَادُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، فَلَيْسَتْ زَائِدَةً. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ». 

     وأنتَ إذَا نَظرتَ إلى اللِّحَاق، أي السّيَاق اللَّاحِق منْ تَمَام الآيَة، تَرجَّح لَديكَ هذَا المعنَى، فقولهُ تعَالى بعدَ ذلكَ: ﴿ادْفَعْ بالَّتي هيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذي بَيْنَكَ وبَيْـنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِـيٌّ حَمِيمٌ﴾، يَجعَل الحَسنَةَ في هذَا المقَام، حَسَنَةً ذاتَ الدَّرجَة الحُسْنَى، عَلى قَدرٍ بَالغٍ منَ السّموِّ والجَلَال، لتُحوّلَ العَدُوَّ إِلَى وَليّ حَمِيمٍ. وقدْ أجلَى ذلكَ (الزَّمخشَريّ) بتَفصيلٍ شَافٍ، فقَال في (الكَشَّاف): «يَعْني: أنَّ الحَسنَةَ والسَّيّئةَ مُتَفَاوتَتَانِ في أَنفُسهِمَا؛ فخُذِ الحَسَنَةَ الَّتي هيَ أَحْسَنُ منْ أُخْتـهَا، إذَا اعْتَرضَتْك حَسَنتَانِ، فَادْفَع بهَا السَّيّئةَ الَّتي تَرِدُ عَليكَ مِن بَعضِ أعدَائِك. ومثَالُ ذلكَ: رَجلٌ أساءَ إليكَ إساءَةً، فالحَسنَةُ: أَنْ تَعفُوَ عنهُ، والَّتي هيَ أَحسنُ: أَنْ تُحسِنَ إليهِ مَكانَ إسَاءَتهِ إلَيكَ، مِثْلُ أنْ يَذمَّكَ فَتمْدَحَهُ، ويَقتُلَ ولدَكَ فتَفتَديَ ولدَهُ منْ يَدِ عَدوِّهِ، فإنَّكَ إذَا فعلتَ ذلكَ انقلَبَ عَدوُّكَ الْـمُشاقُّ، مِثلَ الوَليّ الحَميمِ مُصَافاةً لكَ»، وهذهِ مَنزلةٌ من فَوَاضلِ الحَسنةِ عَزيزٌ مَطلَبُـها، عَسِيرٌ نَوْلُهَا، فلَا يَتأتَّى ذلكَ إلَّا لذِي الصَّبر الشَّديدِ، والحَظّ العَظيمِ. وإنَّكَ لَواجدٌ أثرَ هذَا الكلامِ جليّاً في حَديثِ (عُقْبَةَ بنِ عَامِر) رَضيَ اللهُ عنهُ: «...فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخبِرْني بفَواضِلِ الأعمَالِ. فَقالَ: يَا عُقْبةُ، صِلْ مَن قَطَعَك، وأَعْطِ مَن حَرَمَك، وأَعرِضْ عمَّن ظَلَمَك».

          وهَكذَا تَرى أنَّ الزّيادَة في المبنَى تَستَلزمُ زيادَةً في المعنَى. فالحَسَنَة لَيستْ تَستَوي معَ السَّيئة أبَداً، فهذَا أمرٌ مُسلَّم بهِ، لكنَّها، وبتَكرار حَرفِ النَّفْي (لا) في الآيَة، اتَّسعَ المعنَى ليَتَـبيَّن أنَّ الحَسنةَ أيْضاً، في نَفسِها، دَرجاتٌ مُتفَاوتاتٌ لا تَتَــساوَى، وَلا يَزالُ فَاعِلُها يَرتفعُ قدرُهُ بقَدْرهَا، ويَزكُو بزَكاتِـها، ويَعلُو مَقامُهُ بمَقامِها، دَرجاتٍ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق