مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أسْرارُ البَيَان في القُرْآن(17) البَيانُ في التَّعْبِير بِصيغَة اسْمِ المفْعُول في قَولهِ تعَالى ﴿حِجَاباً مَسْتُوراً﴾

                 و ذلكَ قولُهُ تعَالى في سُورَة (الإسْرَاء) : ﴿وَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ و بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً﴾ . فتَسْتَوقفُكَ العِبَارةُ في نهايَة الآيَة (حِجاباً مَستُوراً)،بهذَا التَّأليفِ الفَريدِ، ثُمّ تَكتَشفُ أنّهُ لمْ تَردْ كَلمَةُ (حِجاب) مَوصُوفةً في القُرآنِ، إلّا في هَذهِ الآيَةِ.

              والبَاقيَاتُ سِتُّ آياتٍ، منْهَا قولهُ تعَالى عنْ نِساءِ النَّبيّ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ، ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ . حيثُ السَّائلُ يَرى الحِجَابَ، وَلا يَرَى النِّسَاءَ؛ لأنّهُ حائِلٌ بَينَهُ و بَيْــنَـــهُنّ. والفِعْلانِ (حَجَب) و(سَتَـر) مُتَقاربَا المعْنَى. قالَ في (تَاج العَرُوس): «حَجَبَهُ يَحْجُبُهُ حَجْباً وحِجَاباً: سَتَـــرَهُ».

          لكنْ هناكَ فرقٌ، بِزيادَة مَعْنى(الْـمَنْع)في(حَجَب). قالَ (الفَيُّومي) في(المصْبَاح المنِــير):«  حَجَبَــهُ حَجْبًــا مِنْ بَابِ (قَتَلَ)، مَنَعَهُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلسِّتْرِ حِجَابٌ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الـمُشَاهَدَةَ. وَقِيلَ لِلْبَوَّابِ حَاجِبٌ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِن الدُّخُولِ». ومنهُ أيضاً(الحَجْبُ) في الإِرْثِ، و(الحَاجبُ) الَّذي فوقَ العَينِ، لِـمَنعِه الأذَى عَنْــها.

        لكنَّ وَصفَ الحجابِ بــــــ(مَستُوراً)، رَفعَ الدَّلالةَ إلى وجْهٍ منَ البَلاغةِ يُخفِي دَقيقةً بَيانيَّةً بديعَةً؛ ذلكَ أنهُ اسمُ مَفعولٍ منَ الفِعْل (سَتَـر) ، الَّذي مَعناهُ (حَجَبَ وأَخْفَى). وكأنَّ التّعبيرَ هُوَ (حِجاباً مَحْجُوباً ومَخفِيّاً ) ؛ أيْ حجاباً لا يُرى، ولا تُدركُهُ الأبْصَار. فهوَ حِجابٌ ليسَ كالحُجُب المعرُوفةِ، الّتي تُخفِي ما وَراءَهَا، وهيَ بارزَةٌ ظاهرَةٌ قائِمةٌ دُونهُ، يَراهَا الرّائي وتَمنَعُه منْ رُؤيَة ما خَلفَها ؛ كحِجَاب (مَريمَ) في قولهِ تعَالى ﴿ فاتَّخَذَتْ منْ دُونِهِمْ حِجَاباً ﴾، وحِجَاب (الشَّمْس)، في قولهِ عزَّ وجَلّ ﴿حتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ﴾، وحجَابِ (الأعْرَافِ) في قولهِ تعَالى: ﴿و بَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾... وكلُّهَا حُجُبٌ تَمْنَعُ مَنْ دُونَـها، فَلَا يَكْشِفُ ما وَرَاءَها.

        واختَلفُوا في مَعنَى(مَستُوراً)؛ أَعَلَى أَصْلِهَا منَ البِنَاء الصَّرفيّ أَمْ هيَ مَجَازٌ؟ فذَهبَ بعضُهُم إلى أنَّها علَى المجَاز منْ صِيغَتها، فقدْ أتَتْ بمَعنى (اسْم الفَاعِل : سَاتِر). قالَ (أبُو إسْحَاق الزّجّاج) في (مَعَاني القُرآنِ وإعرَابه) : « قالَ أهلُ اللُّغَة (مَسْتُوراً) هَهُنا في مَوْضِع سَاتِر». وقالَ (السَّمينُ الحَلَبيّ) في(الدُّرّ المصُون): « والثّاني: أنَّه بمَعْنى (فَاعِل) كَقَوْلهِم: مَشْؤُوم ومَيْمُون، بمَعنَى: شَائِم ويَامِن، وهذَا كمَا جاءَ اسمُ الفاعلِ بمعْنَى مَفعُول، كَـ(مَاءٍ دَافِقٍ)،وهذَا قولُ (الأخْفَش) في آخَرينَ».   

       فيكُونُ المعنَى في الآيَة: (حِجَاباً سَاتِراً) كمَا هوَ(ماءٌ مَدفُوقٌ).على أساسِ أنّ الصِّيغَتين الصَّرفيَّتَين تَتعَاقبَانِ في السِّيَاقاتِ المختَلفَة، ويكونُ الأمْرُ فيهمَا كمَا بيَّنهُ عُلماءُ البَلاغةِ في قَول الشَّاعر (الحُطَيْئَة) في بَيتهِ المشهُور:

           دَعِ الْـمَكـارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَـتِـــهَا  ** وَاقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي

            وذهَبَ بَعضُهُم إلى أنَّ في ذلكَ تَكثِيفاً للحُجُب؛ حِجَاباً ورَاءَ حِجابٍ، ممّا يُقوّي الحُجُبَ، ويَزيدُ في الْـمَنْع. وفي ذلكَ يقولُ العلّامةُ (الطّاهِر بنُ عاشُور) في (تَفسيرهِ): « وَوَصْفُ الحجَابِ بالمسْتُور، مُبالغَةٌ في حَقيقَة جِنْسِه، أيْ حجاباً بالِغاً الغايَةَ في حَجْبِ ما يَحجُبُهُ هُوَ، حتّى كأنّهُ مَستورٌ بسَاتِرٍ آخَرَ، فذلِكَ في قُوّةِ أنْ يُقالَ: جَعَلنَا حجَاباً فوْقَ حجَابٍ». وقدْ ذهَبَ منْ قبْلُ  إلى ذلكَ(زَينُ الدّين الرَّازيّ) في مُعجَمِه(مُختَارُ الصِّحَاح) حيثُ قالَ: « وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿حِجَابًا مَسْتُورًا﴾، أَيْ حِجَابٌ عَلَى حِجَابٍ: فَالْأَوَّلُ مَسْتُورٌ بِالثَّانِي. أَرَادَ بِذَلِكَ كَثَافَةَ الْحِجَابِ».

       لكنّكَ إذا أَوليْتَ الأمرَ فَضْلَ تدبُّرٍ ونَظَر، انكشَفَ لكَ منْ ذلكَ أنَّ اعْتِبارَ الصفَة(مَستوراً)،علَى صيغَتها الوَضعيَّة الحَقيقيّة، يَكونُ أَقرَبَ إلى تَرَسُّم القَصدِ، وأبْـــينَ عنْ خَفيِّ الدّلالَة في هذَا التَّأليفِ القُرآنيّ البَديعِ. ذلكَ أنّ الحجَابَ هُنَا، هوَ حجابٌ خاصٌّ للنَّبيّ صلّى اللهُ عليهِ و سلَّمَ، حيثُ يَخفَى فيهِ عنِ الأعيُن، المحْجُوبُ والحِجَابُ جَمِيعاً، فَلا يُرَى النَّبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولا يُرَى الحجَابُ الَّذِي يَستُـــرُهُ.

          ولعلَّ ما جاءَ في قصَّة، حَمّالَة الحَطَب(أمّ جَمِيل)، عندَمَا نزلَتْ سُورَة (الْـمَسَد)،تتَوعَّدُها وزَوْجَها (أبَا لَهَبٍ)،يكونُ فيها مَجْلىً لهَذا الوجْهِ منَ النَّظَر. فقدْ رَوَى ذلكَ (القُرطبيّ) في تَفسيرهِ لسُورة (المسَد)، فقالَ: « فلمّا سَمعَت امرأتُهُ ما نَزَل في زَوجهَا وفيهَا من القُرْآنِ، أتَتْ رسُول اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم وهُوَ جالسٌ في المسجدِ عنْدَ الكَعبَة، ومعهُ أبُو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهُ، وفي يَدهَا فِهْرٌ منْ حِجارَة، فلمَّا وقفتْ عليهِ، أخذَ اللهُ بَصرَها عنْ رسُول اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فلَا تَرى إلَّا أبا بَكرٍ. فقالَتْ: يَا أبَا بَكرٍ، إنَّ صاحبَك قدْ بَلغَني أنّه يَهجُوني، واللهِ لوْ وَجدتُهُ لضَربْتُ بهذَا الفِهْرِ  فَاهُ ... ثمَّ انصرفَتْ. فقالَ أبُو بكرٍ: يَا رسولَ اللهِ، أمَا تَراهَا رأتْكَ؟ قال: «مَا رَأتْني، لقَدْ أخذَ اللهُ بَصرَها عَنّي».

          فهذا الحجَابُ ساتِرٌ، فلمْ تَرَ المرأةُ النَّبيّ، وفي نَفْس الوَقتِ هوَ حِجابٌ مَستُورٌ في نَفسهِ لا ترَاهُ العَيْنُ . حتَّى (أَبُو بكْرٍ) رَضيَ اللهُ عنهُ، لَمْ يَرَهُ، لأنَّه ظلَّ يَنظُرُ إلى النَّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ويُكلِّمُه. لذلكَ جاءَ التَّعبيرُ  في الآيةِ،( حِجاباً مستُوراً ) أيْ: سَاتراً مَسْتُوراً ، فهوَ سَاترٌ للنَّبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهوَ مَستورٌ عنِ الأعْيُن. وقدْ خلصَ (أبُو حيَّان) إلى ذلكَ، فقالَ في تَفسيرهِ: « والظَّاهرُ إقْرَارُ ( مَسْتُوراً ) علَى مَوضُوعهِ منْ كونِهِ (اسْمَ مَفعُولٍ)، أيْ مَستُوراً عنْ أَعيُن الكفَّار، فَلا يَرَوْنَهُ». وكانَ(الطّبريّ) قدْ خلصَ إلى ذلكَ قبْلَه، فقالَ بعدَ أنْ ساقَ الوَجهينِ: «وهذَا القولُ الثَّانـي أَظهَرُ ،بـمَعنَى: الكلَامُ أنْ يَكونَ الـمَسْتُورُ هُوَ الـحجَابُ، فـيَكونُ مَعناهُ أنَّ للهِ سِتْــراً عَنْ أبْصَار النَّاس فلَا تُدرِكُهُ أَبْصارُهُم».

       وهَكذا، يَكونُ التَّعبيرُ بهَذا اللَّفظِ الدَّقيقِ، لإبْرازِ مَعنىً دَقيقٍ، نَشأَ عنْ إضافَةِ تلكَ الصّفَة (مَستُوراً)، إلى اسْمٍ يُقاربُها في المعْنَى (حِجَاباً)، يَكشفُ عن أنّ البَيَانَ في كتَابِ اللهِ تعَالى، لا يُدَانِيهِ بَيَانٌ ، ولَا تُمَاثلُهُ بَلاغَةٌ. فأنتَ تُدركُ أنَّ كلمَةَ(حِجابٍ)، كافيَةٌ في الدَّلالَة على الإخْفَاء والحَجبِ عنِ الرُّؤيةِ، كمَا جاءَت في كلِّ الآياتِ الأخرَى، غيرَ مَوصوفَةٍ؛ كقولهِ تعَالى ﴿فاتَّخَذَتْ منْ دُونهِمْ حجَاباً﴾.

           لكنَّه جعَل(حِجاباً)هنا، أنْ يَكونَ(مَستوراً)مَخفيّاً، بهذهِ الصيغَة الصَّرفيّة. ولوْ جعَلهُ على (اسمِ الفَاعلِ)، لكانَ(حِجاباً سَاتراً)؛ ممَّا يَنحُو  بالكَلامِ نحوَ  اللَّغو  والحَشْو  والزِّيادَة لغيْــر مَا حَاجَةٍ؛ إذْ لفْظُ (الحِجَاب) يُغنِي عن (السَّاتِر)، لأنَّهُ منْ لوَازمِ مَعناهُ. لذَلكَ جعلَهُ  منْ ذهبَ إلَى ذلكَ، علَى المبَالغَة، كأنّهُ يَتكرَّرُ ويتَضاعَفُ، حجاباً فوْقَ حِجابٍ.

            أمَّا اعتِبارُ الصِّيغَة علَى وضْعِهَا وحَقيقَتِــها،(اسمَ مَفعُول)، فيَذهَبُ بهَا إلَى زيادَةِ مَعنىً، وفَضْلِ دَلالةٍ، وهوَ خفَاءُ(الحِجابِ) نَفسهِ عَن النَّاظِر، وهذَا أبْلَغُ في البَيانِ، وأقوَى في الدَّلالَة، وأَظهَرُ للمُعجِزَة، فلَا يُرَى المحْجُوبُ ولا الحِجَابُ جَمِيعاً. وفي ذلكَ نُوردُ ما رَواهُ(ابنُ الجَوزيّ) في (المقتَبَس) عنِ الوَزير(ابْنِ هُبَيْرَة) قولَهُ: «أهلُ التَّفسير: يَقولونَ: سَاتراً، والصَّوابُحَملُهُ على ظَاهِرهِ، وأنْ يَكونَ الحِجابُ مَستوراً عَن العيُونِ فَلا يُرَى، وذلكَ أَبْلَغُ».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق