أسْرارُ البَيَان في القُرآنِ(38) البَيَانُ في فَواصِلِ آيَاتِ الصِّيَام: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ – ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾

أمَّا الفاصلَةُ الرَّابعةُ ﴿يَرْشُدُونَ﴾. فهيَ منَ الفعْلِ (رَشَدَ يرْشُدُ)، ومنهُ أيْضاً (رَشِدَ يَرْشَدُ)، والاسْمُ منهُ (الرُّشْد) أو (الرَّشَد)، وكلاهُمَا وَرَدَا في القُرآنِ الكَريم، قالَ تَعَالى عنْ (إبْرَاهيم) عَليهِ السَّلَام: ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ﴾، وقَالتِ الجِنُّ عنِ القُرآنِ، في سُورَة (الجِنّ): ﴿قُرْءَاناً عَجَباً يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ﴾. وقَالُوا بَعدَ ذلكَ في نَفسِ السُّورَة: ﴿وَإنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾، وقالَ أهلُ الكَهفِ، في سُورَة (الكَهْف): ﴿وَهَيِّـئْ لَنَا مِنْ أَمْرنَا رَشَداً﴾. ويَأتي أَيضاً بزيَادَة أَلفٍ،(الرَّشَاد)؛ ومنهُ قولُهُ تعَالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾. وإنْ كانَتْ بينَ الثّلاثَة فُروقٌ دَقيقَةٌ، تستَلزمُهَا صيغَة البنَاءِ، واخْتِلافُ الحَركَاتِ.
ويكونُ المعْنَى الجامعُ (للرّشدِ)،أنهُ يُفهَمُ منهُ اكتمَالُ العَقْل،المفْضِي إلَى حُسْن التَّصرُّف، وإن شئتَ قُلتَ: هوَ امْتِلاكُ العَقلِ والتَّبَصّر، بالتّصرُّف في الأُمُور بالحِكْمَة والسَّدَاد، وهوَ أيضاً الاهْتدَاءُ إلى الحَقّ والصَّوابِ علَى وجْههِ الأَكْمَل. وقدْ أشارَ إلى ذلكَ (الْـمُرتَضَى الزَّبيدِيّ) في (تَاج العَرُوس) بقَولهِ: «تُؤْنِس مِنْهُ الرُّشْدَ: أَيْ تَعْلَم مِنْهُ كَمَالَ العَقْلِ، وسَدَادَ الفِعْل، وحُسْنَ التَّصرُّف». وقدْ ذَكَر صاحبُ (القَامُوس المحِيط)، في كلامهِ عنِ الجِذْر (رشد)، للرُّشْدِ معنىً في غَايَة البَدَاعَة، قالَ: «الرُّشْد: الاسْتِقامَةُ علَى طريقِ الحَقّ معَ تَصلُّبٍ فيهِ»، فزادَ فيهِ معنَى الصَّلابَة؛ وهوَ الثَّباتُ والرُّسُوخ علَى الحقِّ بلَا وَهَنٍ، ولا خَوفٍ منْ لوْمَةِ لائمٍ، وَلا هَجمَةِ نَاقِمٍ. وقدْ أخَذَ هَذا المعْنَى منَ (الرَّشَادَة)، وهيَ الصّخرَة، فكأنَّ الرَّاشِد مُقيمٌ علَى الحَقّ، ثابتٌ، صَلبٌ في نُصرتهِ لا يَلينُ كالصَّخْر.
وهَكذَا يبلُغُ الصَّائمُ مَقامَ الرُّشْد، فيَستَقيمُ علَى طريقِ الحَقّ، ثابتاً وقدْ أُوتيَ الحِكْمَة: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾. لكنّكَ إذَا تدبَّرتَ سياقَ الآيَة: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِـي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، تبيّنَ لكَ أنّ ذلكَ يَستَلزمُ اسْتحضَارَ شَرطَيْن: الاسْتِجابَةُ لأمْر اللهِ، والإيمَانُ. والاسْتِجابَةُ عمَلٌ وإنْفَاذٌ، والإيمَانُ إقرَارٌ واعْتِقادٌ. وهمَا مُتلازمَانِ، وإنْ كانَ الإيمانُ سَابقاً، ثمَّ يَتلُوهُ العَملُ تَصديقاً وبُرهَاناً. تَقرأُ هذَا الكلامَ، فيَنطلقُ بكَ الفِكرُ حَثيثاً إلى بِدايَة الآيَاتِ: ﴿ يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾. فبَدَأ بِنِداءِ الإيمَان، ثمَّ تَلاهُ بالأَمْر بالصِّيَام.
وهَكذَا تَرانَا قدْ عُدْنا إلَى أَصلِ الخَيْر وأُسِّه: (الصّوْم)، عَليهِ يُبنَى الأمْرُ كُلُّه، في سِلسلَةٍ منَ الارْتِقاءِ الرُّوحيّ في مَقامَاتٍ تَتْـرَى: منَ التَّقْوى إلَى العِلْم، إلى الشُّكْر إلى غايَةِ الغَاياتِ، مَقامِ الرُّشْد والحِكْمَة. فيَثبُتُ المؤمِنُ رَاشداً مَهدِيّاً إلى الطَّريقِ الْـمُستَقيم، الَّذي يَسألُ ربَّهُ الهدايَةَ إليهِ، في كلِّ رَكعةٍ منْ صَلاتهِ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ﴾.
وتَأتِي إلَى آخِر آيَاتِ الصِّيَام فتَقرَأ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، فإذَا الفَاصلةُ (يَتَّقُونَ)، تُذكِّرُك بالفَاصلةِ الأُولَى في بدايَة الآيَاتِ (تَتَّقُونَ)، معَ اخْتِلافٍ في الضَّمِير، وذلكَ لاخْتلافِ الخِطَاب. فهوَ في الأُولى خطابٌ خاصٌّ مُبَاشرٌ لِـمَخصُوصِينَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، بَينمَا هُوَ في الأَخيرَة خِطابٌ عامٌّ لِكلّ النَّاس. وهَكذَا كمَا فُتحَت الآياتُ بالتَّقْوى، خُتمَتْ بالتَّقْوى. وفي ذَلكَ بيَانٌ يَستدْعِي فَضْلَ تَأمُّلٍ وتَدبُّرٍ. فالْـمُؤمنُ الصّائمُ يَرجُو تَحصيلَ التَّقْوَى بِصومِهِ، لكنَّ النَّاسَ هنَا، تُرْتَجَى لهُمُ التَّقوَى بعدَ أنْ يَتَبَيَّنُوا آيَاتِ اللهِ.
و(الآيةُ) كَلمةٌ ذاتُ مَعانٍ مُتعدّدةٍ، لكنَّهَا مُتقَاربَة، فالآيَةُ، هيَ البُرهَان والحُجَّة، والآيَةُ تُقابلُ الْـمُعجزَةَ عندَ الأنْبيَاء، والآيةُ هيَ العَجيبَةُ المتفَرِّدَة الَّتي يَراهَا النَّاسُ فَتُذهِلُهُم، ويُقدِّرُها المقَدّرُونَ منهُمْ ويُجلُّونَها، بلْ تكُونُ حُـجَّةً عَليهمْ. واللهُ تعَالى، بمَا أنعَمَ علَى المؤمِنِ الصَّائمِ، بكلِّ ما جاءَ مُفصَّلاً في آيَات الصِّيَام وفَواصلِهَا، قدْ جعَلَ هذَا المؤمنَ، وقدْ أَكمَلَ صَومهُ إيمَاناً واحْتسَاباً، جَعلهُ آيةً للنَّاسِ، يَمشي بَينهُم بأَخلاقهِ وطُهرِهِ، بتَقوَاهُ وعِلْمِه، وشُكرهِ ورُشْدِه، وقدِ انْتقَلَ منْ خُصُوصِ نَفسهِ بخالِصِ العِبادَةِ، إلَى عُمُوم مُجتمعِهِ بِصالحِ الـمُعامَلةِ. فَهُو منَ الَّذينَ قالَ عنهُم (النّبيّ) صلّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ: «أَحَاسِنُكُم أخْلاقًا الْـمُوَطّئُونَ أكْنَافًا، الذِينَ يَألَفُون ويُؤْلَفُون».
إنَّهُ خُروجُ الصّائمِ إلى المجتمَع، لِيَنقُل أَثَر نِعمةِ اللهِ إلى عِبادِهِ منَ النّاسِ. و(النَّاس) كَلمةٌ عامَّةٌ تَشملُ كلَّ البَشَر علَى اخْتلافِهمْ. إنَّهُ بهذَا الارتِقَاء الرُّوحيّ الَّذي اكْتسبَهُ، يَسيرُ بَينَ النَّاس آيةً لهُمْ، يُخالطُهُم، ويَضطَربُ مَعهُم فيمَا يَضطَربُونَ فيهِ منْ دُنْياهُم، فيُؤثّرُ فِيهمْ، فَكمْ مِن ضَالٍّ اهتَدَى، وعَاصٍ تابَ واسْتقَامَ، وكانَ مِن وَراءِ ذلكَ أثَرٌ منْ ذِي خُلُقٍ كَريمٍ، أثمَرهُ فيهِ شَهرُ الصّيَام.
وهكَذَا تَخرجُ التَّقْوَى منَ الخاصّ إلى العَامّ، منَ الفردِ إلى مُجتَمع النّاس. فلقدْ بَدأتْ برَجُلٍ واحِدٍ، كانَ خُلقُه القُرآن، ثمَّ بَلغَتْ، وسَتبلُغُ ما بَلغَ اللَّيلُ والنّهَار، في خَيريّةٍ وأفْضَليّةٍ لا يَـحُدّها حَدٌّ، ولا يـحْصُرُها عدٌّ، فتدَبَّرْ: «فوَاللهِ، لَأنْ يَهديَ اللهُ بكَ رَجلًا واحِدًا، خيرٌ لكَ منْ أنْ يكُونَ لك حُمر النَّعَم».
إنَّ كلامَ اللهِ القَدير لا يُحيطُ بفَهمهِ عَقلُ بَشرٍ، وإنّمَا هيَ نَفحَاتٌ يَفتحُها لعبَادهِ بعدَ أنْ أَمرَهُم بتَدبُّر كتَابهِ، فخلْفَ كلِّ آيةٍ عِبَرٌ وحِكَمٌ، بلْ خلفَ كلِّ صوتٍ وكلِّ رَسْمٍ فيها، وهذَا غيضٌ منْ فيضِ كتابِ اللهِ: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلأَلبَابِ﴾. فَمنَ المقَاصدِ السَّنيَّةِ الّتي أُنزِلَ لأجْلِهَا القُرآنُ: التَّدَبُّرُ والتَّذَكُّر. والتَّدبُّر يَبدَأ بالتّلاوَة المرَتَّلَة علَى الوَجهِ الَّذِي أُنزِلَ بهِ، والَّذي حَفظَتهُ لنَا عُلُوم التَّجْويدِ والقِراءَات، وذلِكَ منْ أَجْل الوُصُول إلى فَهمِ مُرادِ اللهِ، وإدْراكِ المعَاني الدَّابرَة وراءَ الألفَاظِ وتَأْليفِ الكَلام. والتّذكُّرُ هوَ تَمثُّلُ تلكَ المعَاني واسْتِيعابُها، لإخْراجِهَا إلى الفِعْل عمَلاً بالجَوارحِ. إنّهُ علمٌ وعَمَلٌ. وكمَا قالَ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لأحَد الصّحَابَة: «عَرَفْتَ فَالْزَمْ». فَلا خيرَ في علمٍ لا يُثمِرُ عَملاً. العِلْمُ نَظَرٌ، والعَمَلُ بُرهَانٌ. والإنسانُ، هذَا الكَائنُ المكرَّمُ المسْؤُولُ، يَسعَى بَينَ طَرَفيْنِ يَجْتذبَانهِ: رُوحٌ وجَسَدٌ. رُوحُ طُهْرٍ تَرفَعُهُ، وبهَا يَسمُو إلى الملَإ الأَعْلى، وجَسدُ شَهْوةٍ يَشدُّهُ نـحْوَ الأَرضِ، إلى التُّرابِ الَّذي خُلِقَ منْهُ. فمَنْ تَمثَّلَ الآيَاتِ الَّتي بَيّنَهَا البَاري عزَّ وجلَّ، وقَبِلَ الهُدى، رَفَعهُ اللهُ، ومَن انْسلَخَ منْهَا وأَعرضَ عَنْها،أخلدَ إلى الأَرْضِ، وهوَى سَافلاً في سَحيقٍ.
والصّومُ كمَا رَأيناهُ في هَذهِ الوُريْقَاتِ، مَشقَّةٌ للبَدَن، وتَكليفٌ لهُ عَلى غَيْر مَا اعْتَادَ، لكنَّهُ مَنفَذٌ إلى الرُّوحِ يَسمُو بهَا، ويَرفعُهَا في تلكَ المقَامَاتِ: منَ التَّقْوَى إلَى الرُّشْدِ، إلى مَقامِ الشَّهَادَة عَلى النَّاسِ. فلَا عَجبَ إذَنْ أنْ يُسَمّيَ اللهُ تعَالَى القُرآنَ (رُوحاً): ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا﴾، وأَنْ يَخلُقَ الإنسَانَ منْ طينٍ، ثمَّ يَنفُخ فيهِ رُوحاً منهُ: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾؛ القُرآنُ رُوحٌ، والإنْسانُ فيهِ نفخَةٌ منْ رُوحِ اللهِ. فتَدبّرْ هذَا، فإنَّ فيهِ مَغنَماً ﴿لِـمَنْ كانَ لهُ قَلبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ﴾.