مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

واقعية المنهج الكلامى عند الإمام الأشعري و دورها فى مواجهة التحديات الفلسفية المعاصرة

     «…إن أول ما يسترعي الانتباه في درس الإمام الأشعري هو: الاختلاف في بيان هذه الأطوار العلمية التي تقلّب فيها الإمام الأشعري، فالبعض يرى أنه بدأ معتزلياً ثم صار كُلابياً ثم رضي أن يلقى الله بعقيدة السلف كما بينها الإمام أحمد بن حنبل. والبعض الآخر يرى أنه بدأ معتزلياً ثم تحوّل إلى الدفاع عن عقيدة الإمام أحمد بن حنبل، فلما لم يقبله حنابلة بغداد رأى في طريقة عبد الله بن كلاب السبيل الأمثل للتعبير عن موقفه الجديد. والبعض يرى أنه تحول من الاعتزال إلى الدفاع عن عقيدة الإمام أحمد بن حنبل دون المرور بأي مرحلة بينيَّة. بالإضافة إلى هذه الاتجاهات الثلاث في النظر في الأطوار العلمية للإمام الأشعري، هناك اتجاه يُرجح النظر إلى هذه الأطوار العلمية بأنها تمثل نسقاً فكرياً واحداً، حاول الإمام الأشعري وفق قاعدة التصحيح والتفريع بناءَ نظام عقدي لا يتجاهل مواقع القوة والصحة في أي من هذه الاتجاهات الثلاثة في التعبير عن العقيدة، ومن ثم فإن التحول لم يكن يعني التخلص عن بعض الحق الذي عبّر عنه المعتزلة خلال بيانهم للعقيدة والتوفيق بينه وبين عقيدة السلف واطراح الزيغ والانحراف الذي وقعوا فيه، وكذا الحال في طريقة عبد الله بن كلاب فبعض الحق الذي نالته قد استخلصه الإمام الأشعري في إطار نظامه الجديد الذي قصد فيه الدفاع عن عقيدة السلف كما مثَّلها الإمام أحمد بن حنبل في مواقفه العقدية.
  لأجل ذلك يحق لنا القول بأن هذا الاتجاه الأخير في النظر إلى تراث الإمام الأشعري يرى أن النظر إلى الأشعري بأنه كان معتزلياً ثم تخلى عن الاعتزال، ثم صار كلابياً، ثم خلصت نيته في اتباع الإمام أحمد بن حنبل، أو الاحتمالات الأخرى في النظر إلى الأطوار العلمية التي وقعت للإمام الأشعري تجعل منه مثالاً للتردد والتوتر الفكري. عوضاً عن ذلك نرى أهمية درس تراث الإمام الأشعري بأنه رحلة متصلة لإدراك الحق والتعبير عنه، وذلك يعني أنه في كل مراحله كان يسعى لطلب الحق والركون إليه واتخاذ السبل اللازمة في التعبير عنه والدفاع عنه في وجه خصومه، وأنه لم يتحول إلّا عن تلك الآراء التي تبين له انحرافها عن الجادة، وأنه في كل ذلك كان يصدر عن موقف يتسم بالواقعية والشمول في عرض العقيدة الإسلامية، فلمّا تبين له مخالفة طريقة المعتزلة في التعبير عن سمات الواقعية والشمول تخلَّى عن تلك المواقف ولزم مواقف هي الأقرب لتحقيق هذا المعنى، ولما رأى عند البعض محاولة للجمود على بعض المواقف الشخصية اعتصم ببيان القرآن والسنة في التعبير عن العقيدة والاستدلال على صحة ما ذهب إليه.
     إذاً نرى في هذه الطريقة للنظر إلى تراث الإمام الأشعري سبيلاً لبيان الوحدة الفكرية في ذلك التراث، وأنه قد أسهم في تجديد طرائق النظر إلى العقيدة وبيان أصول العقائد بصفة تستوعب التراث الإنساني المعاصر له وتُرشده إلى الغايات الإسلامية، وهو في كل ذلك قد استعصم ببيان القرآن الكريم وهدي السنة النبوية وفهم السلف الصالح من الأمة، ولأجل ذلك فقد كُتبت لطريقته القبول ووصف بأنه “ناصر الدين” بعد وفاته. وهذه الوحدة الفكرية أقل ما يمكن أن يُفترض في تراث من هو في قامة الإمام الأشعري، إذ البديل عن ذلك هو عرض مؤلفاته كأنها جُزر معزولة لا رابط بينها، وعلى هذا النحو يُشك في نسبة ذلك الكتاب إليه أو يُختلف، في أيَّ مرحلة كتب فيها هذا الكتاب أو ذاك من مؤلفات الإمام الأشعري.
     فالمغالط التي وقعت من إنكار نسبة “رسالة استحسان الخوض في علم الكلام” (الحث على البحث) إلى الإمام الأشعري، أو أن كتاب “الإبانة”، هو آخر مؤلفات الإمام الأشعري، أو القول المعارض لذلك من أن كتاب “اللمع” هو آخر ما استقر عليه الإمام الأشعري في شأن الصفات، كل ذلك وقع بسبب الذهول عن النظر في تراث الإمام الأشعري من موقع الوحدة الفكرية التي انتظمت ذلك التراث، ومن ثم كانت هذه الأسئلة من باب الأسئلة الضعيفة وجاءت الإجابات عليها -رغم الجهد العلمي في الاستقصاء التاريخي- لا تُفيد كثيراً في فهم تراث الإمام الأشعري الفكري، وإنما هي بسبيل إكراه ذلك التراث ليتسق مع مقالة صاحب التأويل، وأزعم أن نسق الأسئلة القوية في فهم وتأويل تراث الإمام الأشعري يبدأ من مبدأ التعاطي مع هذا التراث على أساس أنه يُمثل وحدة فكرية انتظمتها قاعدة التصحيح والتفريع، وكان همّ صاحب ذلك التراث هو بلوغ الحق والتعبير عنه بالسبل التي جاء بيان القرآن الكريم وهدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لتوضيح معالمها، وتمثلها السلف الصالح في عرضهم للعقيدة والدفاع عنها.
     ويسعنا كذلك القول بأن ما توفر لنا من مؤلفات الإمام الأشعري تفي بالغرض المطلوب في فهم تلك الوحدة الفكرية، إذ إن ما جاء على لسانه في “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” لبيان مواقف المعتزلة، وخاصة تلك الأقوال التي نسبها للجبائي تمثل مرحلة مهمة في تفكير الإمام الأشعري، ويستبين لنا من خلال تلك الأقوال الكيفية التي عملت بها قاعدة التصحيح والتفريع في لاحق تراث الإمام الأشعري حينما انتهض للتعبير عن مواقف أهل السنة والاستقامة.
      من خلال هذه المقارنات نستطيع أن نتلمس معالم تلك الوحدة الفكرية، ومن ثم ندرك تفاصيل دقيقة لأبعادها تكون لنا عوناً في تتبع مقالته في شأن بناء تصوراته العقدية، وما يترتب على ذلك البناء العقدي من قيم أخلاقية.
     إذاً ليس من المفيد النظر إلى أطوار الإمام الأشعري العلمية بأنها تقلّبات فكرية تردد فيها بين المعتزلة وطريقة عبد الله بن كلاب ونهج السلف كما بينه الإمام أحمد بن حنبل، وإنما الصواب النظر إلى ذلك التراث العلمي الذي خلّفه الإمام الأشعري كنسق علمي يمثل رحلته في طلب الحق والتعبير عنه. فما من أحد حاز ذلك القبول العلمي والروحي الذي حازه الإمام الأشعري؛ إلا ويحق لنا أن نُعيد التأمل في الأسباب الباطنة التي وراء مظاهر التردد والتقلّب الفكري، فمن عُدَّ في قبيل أصحاب التردد والمزاج المتقلِّب لا يحق لهم أن يتولوا قيادة الأمة إلى سبيل الرشاد، ولما كان الإمام الأشعري قد نجح في توحيد هذه الملة ورأب الصدع بين مذاهبها الكلامية ببيان الحق الذي اجتمعت إليه في زمانه، ومن بعد ذلك فإنه لا يمكن أن يوصف بأنه قد تقلّب في تلك الأطوار العلمية على سبيل التردد والتقلب، فإن كان ذلك كذلك فلا بد لنا من النظر في الأسباب الباطنية حتى نستطيع فهم ذلك التراث العلمي بصورة هي أقرب للصواب.
     ملاك القول إن فهم الأسباب الباطنة يقتضي تحليل نصوص الإمام الأشعري باعتبارها تمثل نسقاً فكرياً متكاملاً، والمراحل أو الأطوار التي مرّ بها إنما هي محطات اقتضتها قاعدة التصحيح والتفريع لإمام كان الحق ديدنه أينما لاح له وجه الحق أذعن إليه…».
         
[من مداخلة الأستاذ: إبراهيم محمد زين  في أعمال مؤتمر الرابطة العالمية لخريجي الأزهر في موضوع:”الإمام أبو الحسن الأشعري، إمام أهل السنة والجماعة، نحو وسطية إسلامية تواجه الغلو والتطرف” الذي انعقد بمصر في ماي 2011.].

            الرابط: http://www.nokhbah.net/vb/showthread.php?t=6333

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق