الرابطة المحمدية للعلماء

هدي الإسلام في بناء المواطنة على الضمير الإيجابي

ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، عشية يوم السبت 26 رمضان المبارك، بمسجد محمد السادس بمدينة المضيق، الدرس السابع من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.  

وألقى هذا الدرس بين يدي جلالة الملك، الأستاذ محسين إكوجيم، رئيس المجلس العلمي المحلي بالقنيطرة، متناولا بالدرس والتحليل موضوع “هدي الإسلام في بناء المواطنة على الضمير الإيجابي”، انطلاقا من قول الله تعالى “والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم”.

وبين المحاضر، في مستهل هذا الدرس، أن موضوعه يطرح قضية : هل هدي الإسلام يهيئ المتبعين له لحياة يغلب عليها التفاؤل، أو يدفعهم لحياة يغلب عليها التشاؤم ؟ مبرزا أنه يجيب عن ذلك من خلال أربعة عناصر تهم علاقة مفهوم المواطنة بأصلها في الدين، ومعنى الضمير الإيجابي، وعلاقة الشكر بالضمير الإيجابي، والأسس الأخرى لبناء المواطنة على الضمير الإيجابي.

فبخصوص المحور الأول الذي يهم علاقة مفهوم المواطنة بأصلها في الدين، أوضح المحاضر أن مفهوم المواطنة، هو من المفاهيم الحديثة التي يقع لها البحث عن مقابل في الإسلام، مفهوم قانوني في المقام الأول يرتبط بالمواطن ككائن اجتماعي له حقوق وعليه واجبات تفرضها طبيعة انتمائه إلى وطن معين، مع الالتزام بالواجبات العامة، مشيرا إلى أن المواطنة هي علاقة بين الفرد والدولة، يحددها الدستور والقوانين المنبثقة عنه، وتتضمن بالضرورة المساواة في الواجبات والحقوق.

وقال الأستاذ محسين إكوجيم إن الأصل القرآني للمصطلح يتأسس على الآية موضوع الدرس، إذ أن اللحمة الجامعة بين المومنين والمومنات هي ولاية الإسلام، حيث هم على السواء، ليس واحد منهم مقلدا للآخر، ولا تابعا له على غير بصيرة، لما في معنى الولاية من الإشعار بالإخلاص والتناصر، بخلاف ما عليه حال المنافقين.

وأوضح أن الآية تؤسس الرباط وتحدد طبيعته، وتجعل دينامية السعي إلى الإصلاح ومعارضة الفساد مدار حياة الجماعة السياسية، وهي دينامية القيام على المعروف ومحاربة المنكر، مضيفا أن رباط هذه الجماعة على الأرض يكمله رباط بالسماء عبر إقامة الصلاة، وهي جماعة يسود بينها التضامن عبر إقامة الزكاة، وهي في الأخير جماعة تتوقع رحمة من الله.

وانتقل المحاضر بعد ذلك للحديث عن المحور الثاني المتعلق بمعنى الضمير الإيجابي، فبين أن هذا الأخير مرادف للنظر المتفائل، إذ أن التفاؤل هو الأمل في المستقبل أو المصير والمآل إلى النجاح، مبرزا أن مدرسي القيم في العصر الحاضر اهتموا بالأثر الطيب للتفاؤل على الحياة وبإبراز الأثر السيئ للتشاؤم عليها، وأن التربية على التفكير الإيجابي أصبحت جزءا من تربية الأفراد التي تقوم طرق تعين الشخص على إعادة الاعتبار لنفسه، وإعادة الثقة بها على أسس موضوعية، لتجنيب الفرد الفشل في التواصل مع الآخرين.

وأكد الأستاذ إكوجيم أنه لا يعقل مع الإيمان بالدين أن يترك الإنسان فريسة لطبيعته المتشائمة في هذا المجال، إذ من المفروض أن يقلب تدخل الدين هذه المعادلة، لأن الدين يفسر الحياة بما فيها تفسير مجريات حياة الأفراد والجماعات، ملاحظا أنه مع ما للدين من تأثير فإن اليأس يظل يطارد الإنسان عامة ويطارد الذين هم خارج تأثير الإيمان خاصة.

وبعد أن أبرز المحاضر أن مسألة الضمير الإيجابي أو السلبي تكتسي خطورة خاصة إذا تعلق الأمر بالجماعة التي هي مرتبطة في مصيرها على صعيد المواطنة، والتي تتخذ مواقف مستقلة عن المواقف الفردية الخاصة، في ما يتعلق بالنزوعات الإيجابية أو السلبية، أكد أن محبة الوطن هي التي تؤسس لمنطق تقديم القيام بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق، إذ هي أساس مواطنة السخاء والمفاداة، وهذه هي المواطنة الإيجابية البناءة التي تهتم بالعمل لا الكلام، والبناء لا الهدم، فهي مواطنة تامة مكتملة وليست مواطنة مطلبية أو مواطنة سياسية فقط، فهي مواطنة شاملة تهم جميع المجالات.

وأكد، في هذا الصدد أن الشريعة الإسلامية تهدف إلى أن تجعل قاعدتها الأولى فكرة “الوجوبية” والالتزام أكثر مما تجعل فكرة الحقيقة والاستحواذ، مشيرا إلى أن الإنسان في عرف الشرع لا ينظر إليه أولا أنه صاحب “حق” ولكن على أنه متحمل “مسؤولية” أو ملزم بأداء واجب.

وانتقل المحاضر إلى المحور الثالث والمتعلق بالمفهوم المركزي الذي يرتبط به الضمير الإيجابي، أي مفهوم الشكر، موضحا أنه لابد من البحث في القرآن الكريم عن الطريقة التي تمثل هدي الدين في دعم هذا الضمير الإيجابي الذي هو ضرورة الحياة السلمية أولا والمواطنة القويمة ثانيا.

وأوضح أن المنطلق التوجيهي لهذا التأطير لحياة واقعية ليس فيها تفاؤل مفرط ولا تشاؤم مريض، نجده في استحضار الله بأسمائه الحسنى، وحال هذا الاستحضار هو حال الشكر الذي هو مرتبط بالضمير الإيجابي أيما ارتباط، كما أنه يقابل الكفر والله لا يرضى لعباده الكفر، فالتربية على الشكر تربية على الضمير الإيجابي.

وأبرز أن الشكر من أخلاق الربوبية حيث وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه شكور حليم، وهو من علامات المؤمنين وصفتهم القولية والحالية والفعلية والحمد رداء الرحمان وفي الشكر يتجلى الاعتراف للعاملين وللمحسنين بإحسانهم وللمجتهدين باجتهادهم، وهذا الاعتراف من صميم أخلاق النزاهة والموضوعية.

وبين المحاضر أن كبار السلوكيين استنبطوا أن الشكر علم يتعلق بمعرفة النعمة من المنعم، وهو الله تعالى والشكر عندهم حال يورثه العلم وهو الحاصل بالإنعام وهذا الحال يورث العمل.

وقال إنه لايكفي الاعتقاد بأن الدين من حيث المبدأ يدعو إلى التفاؤل بل لا بد من شروط إيمانية ومن مواقف عملية لتكريس هذا الاعتقاد ، فإذا كان الشكر مركزيا في صنع هذا الضمير فإن بعض الأحوال والأعمال تعين عليه وتقويه .

وأوضح أن هذه الأحوال والأعمال هي الإخلاص الذي مداره على النية، إذ أن المواطنة الإيجابية المؤسسة على القيام بالواجب يترتب عليها لا شك أجر وثواب. كما أن من هذه الأحوال والأعمال الاستخلاف في الأرض وعمارتها الذي يعد من الأسس الشرعية البانية للانتماء الإيجابي، وهو استشعار المكلف بوظيفته الوجودية في هذا الكون وهي كونه مستخلفا فيه مأمورا بعمارة الأرض وأن الناس جميعا شركاء في هذه المهمة. كما أن الله نهى عن الإفساد الذي هو ضد العمارة.

ومن بين هذه الأحوال والأعمال ذكر الأستاذ إيكوجيم المسؤولية والمحاسبة، اللذان يعدان مفهومان متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن المسؤولية تتبعها المحاسبة، ولا محاسبة بدون مسؤولية. كما أن هناك الولاء الشامل الذي يعد أساس الهوية الجامعة التي تتبناها الأمة وتعيش من أجلها، مما يجعل بنيانها يتقوى وأهلها يترابطون وينخرط كل فرد في تنمية المجتمع ونهضته، وذلك عكس الولاء الفردي أو القبلي أو الإقليمي أو الطائفي أو المذهبي، الذي يؤدي إلى هد بنيان الأمة وانفراط عقدها وتفكك نسيجها.

ويشكل فعل الخير ونفع الناس جزءا من هذه الأحوال والأعمال، إذ أن من الأسس البانية للمواطنة أو الجماعة الإيجابية نفع الناس والمبادرة إلى فعل الخير، حيث نجد أن الدين الحنيف عمل على غرس مبادئ الحق والخير والفضيلة في أبنائه وحث على المسارعة إلى ذلك، كما أن هناك حسن تدبير الاختلاف الذي يعد سنة الله في خلقه، فكما خلقهم مختلفين في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم خلقهم مختلفين كذلك في مداركهم ومعارفهم وعقولهم.

وذكر المحاضر بأنه وقع بسبب الجهل بهذا الأمر الفطري والشرعي غلط كبير على الشريعة وأهلها وفتن أضعفت الأمة وأعاقت العقل المسلم وشلت قدرته على الاجتهاد والتجديد وظهرت مواقف تجاه المخالفين بعيدة عن الحق والإنصاف المأمور بهما بنص الكتاب.

وشدد على أن المواطنة الإيجابية تقتضي الإيمان بالاختلاف وقبوله حقيقة فطرية وشرعية، والعمل على تطوير نظم قادرة على استيعاب مختلف مستويات الاختلاف وأنواعه (السياسي والعقدي والفقهي والمذهبي)

وأكد الأستاذ محسين إيكوجيم أن من شأن هذه الأسس أن تبصر الإنسان بحقيقة وجوده وخلقه، وهي حقيقة قائمة على تحقيق معنى العبودية لله تعالى في جميع مناحي الحياة، فهي حافز للعمل الإيجابي، بحيث يدرك العبد أنه يعبد الله تعالى بكل تصرفاته حينما يكون لها أثر في حياته، فتصبح المواطنة باعتبارها التزاما اجتماعيا إيجابيا، فعلا تعبديا لله تعالى، وهذه هي الإيجابية الحقيقية التي ينبغي أن تؤطر مفهوم المواطنة.

وختم المحاضر درسه بإشارات ثلاث أجملها في أن أزمة الضمير الإيجابي وقلة العرفان ولا سيما تجاه عمل الدولة واقع قائم بدرجات متفاوتة في عدد من بلدان العالم ، وشدد على أن القيام بالمجهود الإعلامي ضرورة وواجب على الدولة حتى تعرف بالمنجزات التي تحققها، والإمكانيات التي ترصدها والأساليب التي تتبعها والاختيارات التي تتبناها، وذلك من باب أن العلم بالنعمة من شروط القيام بشكرها.

أما الإشارة الثالثة فلخصها المحاضر في أن هدي الإسلام الذي هو حامل بالأساس لفكرة التفاؤل، يعد جزءا من منظومة تتضمن قدسية الحق ولكنها لا ترى الحقوق إلا في إطار الاستحقاق، حيث إن الشكر إنما هو مطية لتحصيل المزيد، ولكنه موقف لا بد أن يكون باعثا على التجاوب عند كل الأطراف التي تتوسط في جلب النعم، حيث إن قليلا من الشكر من الناس مثلا، لا بد أن يلقى عند الدولة شكرا أكبر، يتجلى في تحسين الخدمة وصيانة الأمانة، معتمدة على موقف الأكثرية الغالبة من الناس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق