نظم المقدمة الآجرّومية للعلامة السّنغاليّ الشيخ الخديم أحمد بمبا البكيّ وأبعادُهُ التربوية (1)
تَقديــــــــــــــم:
إِنَّ العَربيّةَ لغةُ القرآنِ الكريمِ ولغةُ النبي صلى الله عليه وسلم، المرسَلِ كافّةً للنَّاسِ ولا يمكن فهمُ الدِّينِ إِلَّا بمعرفةِ خباياها، ومن أجل ذلك عُنِيَ بها السّنغاليّون أيَّ عنايةٍ، وحرصوا أشدَّ الحرصِ على تعلّمها وإتقانها، فأقبلوا على استقاء الضاد من مختلف المناهل، وفي مُقدِّمتها كتابُ الله العزيز الذي أَقبلوا بادئَ بدءٍ على حفظه، وكُتبُ الأدب التي عكفوا عليها كالمعلّقات وأشعار الشعراء الستة الجاهليين، للأعلم الشنتمري، ومقامات الحريريّ ومقصورة ابن دريد وغيرها، وكذلك بادروا ـ لحرصهم على ضبط قواعد الضادّ ـ إلى كتب اللغة والنحو وأولوها اهتماماً كبيراً، حتى استسلمت إليهم بأَعِنَّتِهَا وانقادَتْ لهم نواصيها، وبرّز فيها طائفة، منهم: الشيخ العلامة الصوفيّ محمد بن محمد بن حبيب الله الشهير بالشيخ الخديم ـ رحمه الله ـ(1). مولدُ الشيخ الخديم ونشأتُه العلمية:
ولد ـ رحمه الله ـ سنة 1270هــ/1853م في قرية «مباكي بول Mbacke Baol»، فأبوهُ هو: محمّد بن حبيب الله الذي كان من جلّة علماء عصره، ومستشاراً لدى الملوك والأمراء، لصحّة علمهِ ورجاحة عقله واستقامته على المحجّة البيضاء، وأما أمُّه فهي: البرّة السيدة مريم بوسو التي ضربتْ أروع الأمثال في العفاف وحسن التّبعّل، فكانت حافظة لكتاب الله، مُربية لأبنائِها على الدين والطهارة والرشاد.وقد حفظ ـ رحمه الله ـ كتاب الله وأتقنه حفظاً ورسماً وتجويداً، ثُمَّ ثافن (2) العُلماءَ وأخذ عنهم، وفي طليعتهم والدهُ السّابق الذكر، وخالُه الوليّ الصّالحُ «محمد بن محمّد البُسوبيُّ»، والعلّامة «صمب تكلور كَه»، وكذلك تَلْمَذَ للّغويّ الأديب والشاعر الأريب القاضي «مجخت كلَ» صاحب منظومة «مبين الإشكال» في العروض والقوافي، وتَلقّى مِنه دقائق العربية وأسرارها، وللعلّامة محمد بن محمد الكريم الدّيماني الذي درس عليه المنطق والبيان، فهذا الأخيرُ علامةٌ شنقيطيٌّ كان يختلف إلى «السنغال» بين الفينة والأخرى، فكان الشيخ الخديم ـ رحمه الله ـ لعلوِّ هِمّته ينتهز فرصةِ مكثه بها لينهل من معينه.ولما بلغ من العلم أَطوريْه وصارَ في المنقول جبَلًا راسخًا، وفي المعقول طوداً شامخاً، تصدّر للتدريس ونفع الخلقِ والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فهُرع إليه طلبة العلم وضربوا إليه أكباد الإبل من كلّ فجٍّ عميقٍ، ليأخذوا من أدبهِ قبلَ علمه، وكان ـ رحمه الله ـ يرى أنَّ مجرّد التعليم لا يكفي في إصلاح الفرد والمجتمع، ولهذا حرص على تزكية الطُّلاب أيضاً وتهذيب نفوسهم من الرعونات وتربيتهم على مكارم الأخلاق ، وإخلاص العبادة لله تعالى، ويتجلّى ذلك لكل ناظرٍ في مؤلفاته، وكلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ! محنته:
كان ـ رحمه الله ـ زاهداً في الدّنيا مقبلا على ربه، لا يخالط الأمراء ولا يركن إلى أبوابهم، فمع كثرة استمالتهم له ومحاولتهم إغراءَه بالزخارف الفانية ازداد عنهم رغبةً وإعراضاً، وإِلى ربهِ إنابةً وإقبالًا، وقالَ لهم:[من البسيط]
قَالُوا لِيَ ارْكَنْ لِأَبْوَابِ السَّلَاطِينِ = تَحُزْ جَوَائِزَ تُغْنِي كُلَّمَا حِينِ
فَقُلْتُ: حَسْبِيَ رَبِّي وَاكْتَفَيْتُ بِهِ = وَلَسْتُ رَاضِيَ غَيْرِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ
وَلَسْتُ أَرْجُو وَلَا أَخْشَى سِوَى مَلِكِي = لِأَنَّهُ جَلَّ يُغْنِينِي وَيُنْجِينِي
أَنَّى أُفَوِّضُ أَحْوَالِي لِـمَنْ عَجَزُوا = عَنْ حَالِ أَنْفُسِهِمْ عَجْزَ الْـمَسَاكِينِ
أَوْ كَيْفَ يَبْعَثُنِي حُبُّ الْحُطَامِ إِلَى = جِوَارِ مَنْ دُورُهُمْ رَوْضُ الشَّيَاطِينِ
إِنْ كُنْتُ ذَا حَزَنٍ أَوْ كُنْتُ ذَا وَطَرٍ = دَعَوْتُ ذَا الْعَيْنِ قَبْلَ الرَّاءِ والشِّينِ (3)
وَهْوَ الْمُعِينُ الَّذِي لَاشَيْءَ يُعْجِزُهُ = وَهْوَ الْمُكَوِّنُ مَا شَا أَيَّ تَكْوِينِ
إِنْ شَاءَ تَعْجِيلَ أَمْرٍ كَانَ ذَا عَجَلٍ = أَوْ شَاءَ تَأْجِيلَهُ يَبْطَأْ إِلَى حِينِ
يَا مَنْ يَلُومُ فَلَا تُكْثِرْ وَدَعْ عَذَلِي = إِذْ لَسْتُ مِنْ فَقْدِ تِي الدُّنْيَا بِمَحْزُونِ (4)
إِنْ كَانَ عَيْبِيَ زُهْدٌ فِي حُطَامِهُمُ = فَذَاكَ عَيْبٌ نَفِيسٌ لَيْسَ يُخْزِينِي
ولعزوفه عن الأمراء وعدمِ مداهنته لهم حاول السُّعاةُ الوشايةَ به إلى أولي الأمر، فاتّهموهُ ـ وهو أبرأ من ذئب يوسف ـ بأنه يتأهّب للجهاد وشنّ غارةٍ شعواءَ عليهمْ، فعقدت السلطة الاستعمارية خناصرهم على نَفْيِهِ إلى «غابون» فلبث فيها ثماني حججٍ إلا قليلًا، ثم إلى «موريتانيا» فمكث فيها أربعاً، ثمَّ رجعوهُ إلى «سنغال» وأقاموهُ إقامةً جَبريَّةً بـ«تيين Thiéyène»، ثم بـ«جوربيلْ Diourbel »، وفيها وافته المنية سنة 1346هـ/1927م، ودفن بمدينة «طُوبى» التي كان ابتناها للتربية والتعليم.
وقد قال لهم حين نفوهُ ظلمًا وعُدواناً قصيدةً عصماءَ منها:[من الكامل]
يَا جُمْلَةً قَدْ ثَلَّثُوا بِضَلَالِهِمْ = مَنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ لَهُ أَوْ وَالِدُ
أَخْرَجْتُمُونِي نَاطِقِينَ بِأَنَّنِي = عَبْدُ الْإِلَهِ وَإِنَّنِي لَـمُجَاهِدُ
وَظَنَنْتُمُ أَنَّ الْـمَدَافِعَ عِنْدَنَا = وَالكُلُّ مِنْكُمْ ذُو قِلًى وَيُحَاسِدُ
وَمَقَالُكُمْ حَقٌّ فَإِنِّي عَبْدُهُ = وَخَدِيمُ عَبْدِ اللهِ وَهْوَ الْحَامِدُ
وَمَقَالُكُمْ إِنِّي أُجَاهِدُ صَادِقٌ = إِنِّي لِوَجْهِ اللهِ جَلَّ أُجَاهِدُ
إِنِّي أُجَاهِدُ بِالْعُلُومِ وَبِالتُّقَى = عَبْدًا خَدِيمًا وَالْمُهَيْمِنُ شَاهِدُ
سَيْفِي الَّذِي يَفْرِي طُلَى مَنْ ثَلَّثُوا = تَوْحِيدُهُ فَهْوَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ(5)
وَمَدَافِعِي اللَّاتِي بِهَا أَنْفِي الْعِدَى = وَبِهَا يُفَارُقُنِي عَنِيدٌ قَاصِدُ
ذِكْرٌ حَكِيمٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ = مِمَّنْ يُزَحْزِحُ مَا يُرِيدُ الْمَارِدُ
أَمَّا رِمَاحِي فَالْأَحَادِيثُ الَّتِي = وَرَدَتْ عَنِ الْمَاحِي وَنِعْمَ الْوَارِدُ
وَبِهَا أُزَحْزِحُ بِدْعَةً قَدْ أَحْدَثُوا = وَبِهَا يُلَازِمُنِي سَعِيدٌ عَابِدُ
أَمَّا الْفُرُوعُ فَأَسْهُمٌ قَدْ حُدِّدَتْ = لِحَدِيثِهِ، إِنَّ الْفُرُوعَ ذَوَائِدُ
وَبِهَا أُزَحْزِحُ صَائِلًا مِنْ شُبْهَةٍ = عَنْ جَانِبِي إِنَّ السِّهَامَ طَوَارِدُ
أَمَّا الَّذِي يَتَجَسَّسُ الْأَسْرَارَ لِي = فَتَصَوُّفٌ صَافٍ جَلَاهُ أَمَاجِدُ
عَنَّا جَزَى الْأَسْلَافَ خَيْرًا رَبُّنَا = يَوْمَ الْجَزَا فَهْوَ الشَّكُورُ الْمَاجِدُ
مؤلفاته:
ألف ـ رحمه الله ـ مؤلفاتٍ كثيرةً في مختلف العلوم، وكان حقًّا كما يقول ـ محمد عبد الله العلوي ـ"سُيُوطي زمانِه"، ومنها:
1، 2- تَزَوُّدُ الصِّغَارِ إِلَى جِنَانِ اللهِ ذِي الْأَنْهَارِ، وَتَزَوُّدُ الشُّبَّانِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ، وهما منظومتان في العقد الأشعريِّ والفقه المالكيِّ والتصوف الجنيديِّ على غرار منظومة ابن عاشر ـ رحمه الله ـ، أجملَ في الأولى وفصّل في الأخرى.
3- فَيْضُ الْغَنِيِّ الْمُغْنِي، وهو نظمٌ لعقيدة رسالة ابن أبي زيد القيروانيِّ ـ رحمه الله.
4- مَسَالِكُ الْجِنَان، وهو نظمٌ في التصوف يقع في ألف وخمسمائة بيت ونيّف، وقلّ له نظير.
5- مَوَاهِبُ الْقُدُّوس، وهو نظمٌ لكتاب «أم البراهين» للإمام أبي عبد الله السنوسي ـ رحمه الله ـ.
6- الجَوْهَرُ النَّفِيسُ، وهو نظمٌ عقد به مختصرَ الشيخ عبد الرحمن الأخضري ـ رحمه الله ـ المشهورَ في الفقه المالكيّ.
7- مُنَوِّرُ الصُّدُورِ، وهو نظمٌ لكتاب «بداية الهداية» لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي ـ رحمه الله.
8- شَرْحُ نُزْهَةِ الظَّرِيفِ، وهو تعليقات وضعها على كتاب «نُزْهَةِ الظَّرِيفِ وَبُغْيَةُ الْمُولَعِ بِالتَّصْرِيفِ» للعلامة أدييج بن عبد الله الكمليلي الشنقيطيّ.
9- كتاب في النحو، ولمّا يُعثر عليه، قال عنه صاحب «النّفحَات المسكية في السّيرة البكية»:" وَأَطْلَعَنِي يَوْمًا عَلَى كِتَابٍ لَهُ فِي النَّحْوِ أُرْجُوزَةٍ عَلَيْهَا شَرْحٌ مُخْتَصَرٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَفَعَلَ فِيهَا مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتَلْزَمَ أَن لَا يَأْتِيَ فِيهَا بِشَاهِدٍ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَهَذَا مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ مُصَنِّفٌ قَبْلَهُ".
10- سَعَادَةُ الطُّلَّابِ وَرَاحَةُ طَالِبِ الْإِعْرَابِ، وهو كتابٌ نَظَمَ بِه «المقدِّمة الآجرّومية»، وهو قيدُ الدراسة.
فتلك نبذة عن حياته، وعشرة كاملةٌ من مؤلّفاته التي تحنُّ إلى نخبةٍ تشدُ حيازيمها لتحقيقها ونفض الغبار عنها. وإن شاء الله سنتكلّم في الحلقة الثانية عن الكتاب الأخير نظمِ «المقدمة الآجرومية» وعن الأبعاد التربوية التي بين دَفَّتيْهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من مصادر الترجمة:منن الباقي القديم في سيرة الشيخ الخديم للشيخ محمد البشير مباكي، إرواء النديم من عذب حب الخديم للشيخ محمد الأمين جوب الدغاني، النفحات المسكية في السيرة البكية، للشيخ الحاج محمد عبد الله العلوي، النهج القويم في سيرة الشيخ الخديم، للشيخ الحاج محمد المحمود نيانغ.
(2) ثافَنَ: الرجلَ إذا باطَنَه ولَزِمَه حتى يَعْرِفَ دَخْلَته، والمُثافِنُ المواظِب، ويقال ثافَنْتُ فلاناً إذا حابَبْتَه تُحادِثُه وتُلازِمُه وتُكَلِّمُه، [لسان العرب/ثفن].
(3) ذَا الْعَيْنِ قَبْلَ الرَّاءِ والشِّينِ: أي ذا العرش.
(4) تِي: اسم إشارة بمعنى هذه.
(5) يَفْرِي: من فَرَى الشيءَ يَفْرِيه فَرْياً شقَّهُ، [اللسان/فرا]، الطلى:الأعناقُ، وقيل: هي أُصُولُ الأَعناقِ، [اللسان:طلى].