وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

نشأة النقد الأصولي، دراسة منهجية في رسالتي مالك والليث رحمهما الله

مقدمات تمهيدية

1. في الخطاب والنقد الأصوليين

لاشك أن الارتباط التاريخي الحاصل بين نشأة علم أصول الفقه والخطاب النقدي يصعب معه الفصل بينهما، غير أن ظهور المادة العلمية لفن الأصول والمبنية على أسس حاجية وضرورية تروم تقويم المعرفة الفقهية اجتهادا واستنباطا، تحسم من جهتها أولية الاعتبار الوجودي للظاهرة النقدية، وإن لم تعرف منظومة متكاملة، الشيء الذي يفسر تأخر ظهور الرسالة الشافعية عن هذا المنحى.

2. في البعد النقدي في التراث الأصولي

  ما يرسخ ثبات المقدمة الأولى وصحتها أن جريان الخطاب الفقهي استمر في حضوره مع شيوع الخلاف وتشعبه بين الفقهاء والأئمة ليكتمل مع ظهور ونضج المذاهب الفقهية وذلك قبل تدشين الخطاب الأصولي بأسسه وقواعده مكتوبا مدونا، الشيء الذي يدفع إلى القول بغنى التراث الفقهي وزخره بالبعد النقدي القائم على مراجعة الأصول والقواعد المستثمرة في الاجتهاد إما بدلالات التلميح أو التصريح في الآراء الفقهية، ويبدو ذلك جليا في المناظرات الفقهية والأصولية العديدة التي تزخر بها كتب الفقه والتراث عموما خلال القرنين الأولين، كمناظرات الإمام الشافعي مع الإمام الشيباني، ومع الإمام أحمد ثم مع الإمام إسحاق بن راهويه عليهم رحمة الله، وغيرها من المناظرات العلمية[1] في الفقه وأصوله.

3. في رسالتي مالك والليث مثال للنقد الأصولي

إن أبلغ ما يؤرخ للخطاب النقدي في علم الأصول بصورة تناظرية حجاجية هو ما دار بين الإمامين مالك بن أنس والليث بن سعد من مراسلات علمية حول موضوعات فقهية لا تخلو من أبعاد أصولية تبحث في قواعد ومبادئ النظر الفقهي، وهذا مؤشر حقيقي يزكي حقيقة المقدمة الثانية؛ لأن مرامي التوجيهات العلمية والتصحيحات الفقهية ترسو عند تقويم النظر الأصولي وبيان صحة مستنداته كمسألة الإجماع وعمل أهل المدينة وقول الصحابي والقياس…

4. في القصد من الدراسة

عادة ما تصنف الرسالتين ضمن جوانب الخلاف الفقهي الذي يظهر بين الإمامين، دون الكشف عن مضامين هذا الخلاف وبيان أصوله، وتطمح هذه الدراسة إلى بيان الأسس المرجعية التي بني عليها النقد الأصولي فيها بطريقة خاصة تنأى عن استعراض الأقوال والنصوص، وذلك بأسلوب تناظري يكشف عن طرق الاستدلال ومسالك المراجعة العلمية التي سلكها الإمامين في توجيه النقد الأصولي وتدبير الخلاف الفقهي.

أسس النقد الأصولي في الرسالتين

يقوم النقد الأصولي في رسالتي مالك والليث على أسس علمية يمكن إيجازها في أربعة قواعد:

1. حفظ الخطاب الشرعي

لم تكن نشأة الخلاف بشتى صوره في مجالات علوم الشريعة مرتبطة بنزعات شخصية ابتداء، خصوصا مع الأجيال الأولى من تاريخ المسلمين وإنما لها وثاقة خاصة برعاية الخطاب الشرعي والخشية عليه من تسيبه بين فهوم الناس والخوف من دروس العلم وانتحاله من قبل المبطلين، وهو ما أكده الليث حين تحدث عن تدخل الخلفاء حالة شهودهم انحرافا في فهم نصوص الشرع أو تطبيقاته، يقول: “..بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم[2]“. وهذا من أهم الأسباب الحقيقية التي أرخت لظهور القواعد العلمية المنظمة للعلوم، كعلم أصول الحديث وعلم أصول النحو وعلم أصول الفقه، وغيرها من العلوم، حتى يحتكم إليها حين تباين الآراء والاجتهادات، لذلك فإن هذا الأمر حضر بقوة في مراجعات كل من الإمام مالك والليث لبعضهما البعض، مع حرصهما الشديد على صيانة الخطاب الشرعي من الأفهام الزائغة والاجتهادات الخارجة عن السياق العلمي القويم.

2. التناصح في الخطاب الشرعي 

لاشك، أن واجب النصح الذي يعد التزاما مبدئيا في الثقافة الإسلامية، كان أحد أهم البواعث التي دعت الإمام مالك إلى مراسلة الإمام الليث في شأن مسألة أصولية أساسية، يحسبها إمام دار الهجرة خطيرة تتطلب مكاتبة عاجلة؛ فقد قال رضي الله عنه: “واعلم أني أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت إليك إلا النصيحة لله وحده، والنظر لك والظن بك، فأنزل كتابي منك منزله، فإنك إن تفعل تعلم أني لم آلك نصحا..[3]“، وهو الأمر ذاته الذي استوجب من الليث مكاتبته وإجابته لدعوته عملا بتبادل النصيحة.

3. الصواب في الخطاب الشرعي

لقد كان دأب الإمامين مالك والليث البحث عن الصواب في الاجتهاد والركون إليه كلما بان وظهر، على الرغم من اعتبارية الخطأ في الاجتهاد في فقه الخطاب الشرعي، ما دام مستوفيا ضوابطه وشروطه، بل إن نشدانه أضحى أكبر همهما في الحوار والتناظر، وهو ما حدا بهما إلى انتقاد بعضهما البعض فيما اجتهدا فيه، “إضافة إلى ما سبق فإن حسن فهم النصوص الشرعية، وفقه خطابها، على أصح الوجوه يتطلب تحقيق النظر في قواعد الاستنباط، ومبادئ التفسير، وتمييز صحيحها من سقيمها، وتقويم الأدلة المعتمدة في إعمالها وتوظيفها واختيار مناسبها في الاستثمار؛ لأن إرسال النظر الأصولي في الاستنباط الفقهي مظنة الخلاف والنزاع لا محالة[4].”

4.  رفع الخلاف في الخطاب الشرعي

إن أهم الأسس التي ينبني عليها النقد المتبادل بين الإمامين محاولة درء الخلاف في الاجتهادات الفقهية وتوحيدها حتى تفي بالمبادئ والقواعد التي أسستها مرحلة الفقه النبوي، كما أن تشعب التخريجات الفقهية في تطور مع الأحوال الإنسانية أسهما بشكل واسع في ظهور بعض الآراء التي لقت استغرابا من قبل الإمامين ترجع إلى اتهامات متبادلة بينهما بالنزوع إلى الخلاف فيقول مالك رحمه الله: “واعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك، ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه[5].” ويرد عليه الليث في سياق نقدي مقابل قائلا: “فلم يكن ينبغي لك، وإن كنت سمعته من رجل مرضي، أن تخالف الأمة أجمعين[6].”

شاكلة النقد الأصولي في الرسالتين

لا يلمس الدارس لرسالتي مالك والليث، عليهما رحمة الله، واضح اختلاف من حيث المنهج العام في النقد الأصولي سواء على مستوى المسالك المعتمدة أو الخصائص العلمية المرتبطة بأصول الحجاج والنظر؛ إذ تميزت رسالة مالك الأصلية المبادرة إلى التنبيه على محل النزاع بقصرها عن رسالة الليث الجوابية التي أسهب فيها بالبيان كما سيتضح بحول الله.

وعلى سبيل الإجمال فإن شاكلة النقد في الرسالتين يجمعها ما يمكن تسميته بمسلك النقد النزاعي، وهو المسلك الذي عرفته الدراسات الأصولية فيما بعد، من حيث الأصل، وإن تفاوت اعتماده من أصولي لأخر، ويشمل أربع خطوات ذات طبيعة نزاعية:

الأول: تأصيل محل النزاع.

الثاني: تحديد محل النزاع.

الثالث: تعليل النزاع.

الرابع: تحرير محل النزاع.

 الفرع الأول: شاكلة النقد الأصولي في رسالة[7] مالك 

إن مدقق النظر في رسالتي الإمامين ابن أنس وابن سعد والمتأمل في مضامينهما يدفعانه إلى ضرورة وضعهما في المساق العلمي والمسار التاريخي الذين كتبتا فيهما، ومحاولة استنطاقهما لاستحضار الخطاب والبيانات المضمرة فيهما، بالنظر إلى مكانة الإمامين وقدرتهما العلمية على التلميح والإيحاء للمبادئ الأصولية في الحوار والتناظر، لذلك فعندما نقف عند عبارات: “جماعة الناس عندنا”، و”الناس تبع لأهل المدينة”، أو “ببلدنا الذي نحن فيه”، “الأمر المجتمع عليه عندنا[8]،” وغير ذلك، فهي توحي بحجية الاجماع وعمل أهل المدينة، وقطعية دلالته، وقطعية العمل والعلم، وغير ذلك من المفردات الأصولية التي لا نجد لها حضورا رسميا في الرسالتين. على اعتبار أن ابن أنس “يطلق لفظ الإجماع، وإنما يريد به ترجيح ما يميل إليه من المذهب، على أنه لم يحفظ عنه من طريق ولا وجه أن إجماع أهل المدينة في ما طريقه الاجتهاد حجة عنده[9].”

1. تأصيل محل النزاع

يعود محل النزاع، كما سيتم تحديده فيما بعد، بين مالك والليث في أصوله إلى القول بدليل إجماع أهل المدينة وحجيته الأصولية في الاستدلال وتقرير الأحكام الشرعية، “وذلك أن مالكا إنما عول على أقوال أهل المدينة وجعلها، حجة في ما طريقه النقل كمسألة الآذان وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومسألة الصاع، وترك إخراج الزكاة من الخضراوات، وغيرها من المسائل التي طريقها النقل واتصل العمل بها في المدينة على وجه لا يخفى مثله، ونقل نقلا يحج ويقطع عذرا[10]“، لذلك نقل ابن عبد البر عن ابن وهب عن مالك قال: “كان أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يقول: “إذا وجدت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا تشك أنه الحق[11].”

فهذا الدليل باعتباره أصلا لمحل النزاع في الرسالتين تبدو إيحاءاته في بعض فروعه الأصولية التي ستكون محل النزاع الحقيقي بين الإمامين.

فدليل عمل أهل المدينة قد استوفى حجيته عند مالك، رحمه الله، خصوصا مع وجود كبار الصحابة والتابعين بالمدينة بنصوص شرعية وآثار علمية، لم تترك لأحد مجال الخروج عن دلالته القطعية. “كما أن قصد مالك، رحمه الله، في جعل العمل مقدما على الأحاديث؛ إذ كان يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر، ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث، وكان ممن أدرك التابعين وراقب أعمالهم، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو في قوة المستمر[12].”

إضافة إلى ذلك فإن لمحل الخلاف ارتباط وثيق بفقه الصحابة واجتهادات فقهائهم، الأمر الذي لا يترك عذرا أو مساغا لمخالفتها.

2. تحديد محل النزاع

إذا تحددت مرجعية الخلاف الأصولي بين مالك والليث في ما يستوجب الاحتفاظ به من دلالة إجماع أهل المدينة[13] وحجيته[14] العظمى، ومن أهمية أقوال الصحابة واجتهاداتهم، فإن مظنة النزاع ومحله الحقيقي سينحصر في أحد الفروع الكبرى المرتبطة بهما، وهو مدى إعمال عمل أهل المدينة، وهو الأمر الذي استدعى مكاتبة عاجلة من عالم المدينة إلى عالم مصر، فقال له بعد ذكر ما يليق من حسن الابتداء والسلام: “واعلم رحمك الله أنه بلغتي أنك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه[15]،” فيظهر أن مالكا الذي “كان يرى اتباع عمل أهل المدينة، وأنه حجة على غيرهم[16]” يعاتب ليثا على إفتائه الناس بأحكام شرعية لا توافق ما تعارف عليه أهل المدينة، وهو المكان الذي شهد اتفاقا مبدئيا وعرف إجماعا علميا من قبل فقهاء الصحابة المشهود لهم بالعلم والمنزلة، وكأن هناك علاقة تاريخية وشرعية قد ربطت بين دلالة الإجماع الأصولي وعمل أهل المدينة، لذلك لا يجوز خرقه؛ لأن في خرق الثاني مس بحجية الأول، وهذا شأن لا ينبغي أن يغيب عن الليث لإمامته وعلمه، ثم لخطورة الأمر من ناحية ثانية التي تستوجب الخوف والاحتياط يضيف مالك “وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه[17].”

3. تعليل النزاع

إن بلوغ مالك خبر إهمال الليث إعمال ما تواتر العمل به عند أهل المدينة، وما هم تبع له، دفعه إلى الاستغراب وهو عالم مصر المشهود له بالإمامة والمعرفة بحق رجال المدينة الناهلين من معين النبوة، الشيء الذي يوحي بأن علة الخلاف والنزاع حسب ما تنبه له مالك لا وجه لها في الإعمال والتطبيق، وإنما في تشكيك الليث في مدى حجية دليل عمل أهل المدينة وقطعيته العلمية، وذلك ما جعله يبدأ في سرد النصوص الشرعية والتمثيلات العلمية على صدقية وحجية هذا الدليل، حتى يطمئن إليها الليث، فكيف انعكس ذلك في تحرير محل النزاع.

4. تحرير محل النزاع

إن التماس الإمام مالك محل النزاع في مدى حجية عمل أهل المدينة لدى الإمام الليث وعزوفه عن إعماله في فتاويه واجتهاداته سيتطلب منه جهدا في بيان تلك الحجية والاستدلال عليها حتى يتم له إقناع صديقه الليث، وصرفه عن إهمال المسألة المختلف حولها، وحتى يتحرر النزاع وينقح بينهما، لذلك يشتغل مالك في رسالته على التأسيس لاستدلال علمي يقضي بموجبه البحث في قطعية عمل أهل المدينة العلمية، وحجيته العملية في التخريجات الفقهية، وبناء الاجتهاد، ولن يجد لإنجاز ذلك أبلغ من البحث بمسلك استقراء للنصوص والأحوال التاريخية وعمل الصحابة والتابعين به، وهو مسلك العلماء المسلمين ومنهجهم، فكيف بنى نقده الاستقرائي؟

أ‌. الفرض الاستقرائي

يتمثل الفرض الاستقرائي عند مالك في ما تم افتراضه من مظنة النزاع ومحله بينه وبين الليث وهو حجية عمل أهل المدينة، ودلالته القطعية في الإعمال والتطبيق، وذلك ما يتطلب منه استفراغا للوسع في طلب إقناع الليث ونيل إفحامه، للعمل به بناء على ما بلغه من تفريط فيه وتقديم أدلة أخرى عليه.

ب‌.  البيان الاستقرائي

إن افتراض قاعدة عامة ومبدإ استقرائي يحتاج إلى تتبع للجزئيات الدالة على ذلك المعنى الكلي، واقتفاء لأهم الايحاءات الخادمة له على سبيل القطعية والعلمية، وذلك ما دأب عليه مالك في رسالته إلى الليث، والدارس لرسالته يلمس تعددا في مسالك الاستقراء:

استقراء شرعي: ويعنى به ذكر النصوص الشرعية الداعمة للمعنى المراد تأكيده، فقد استثمر في ذلك بعض النصوص الدالة على فضل المدينة وأهلها، كقوله تعالى: ﴿والسابقون الاَولون من المهاجرين والاَنصار والذين اَتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الاَنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم﴾ (التوبة: 101). وكأن مالكا يشير إلى الليث بأن السبق في التاريخ والصفة والمكان له امتياز وحظوة في التقديم والأولية في الاعتبار والاتباع، يقول أبو بكر بن العربي في بيان هذه الآية: “وفيها سبع مسائل: المسألة الأولى في تحقيق السبق وهو التقدم في الصفة، أو في المكان، فالصفة الإيمان والزمن لمن حصل في أوان قبل أوان، والمكان من تبوأ دار النصرة، واتخذه بدلا من موضع الهجرة[18].” ويضيف في موضع آخر: ولكن من سبق أكرم عند الله مرتبة، وأوفى أجرا، ولو لم يكن للسابق من الفضل إلا اقتداء التالي به، واهتداؤه بهديه، فيكون له ثواب عمله في نفسه، ومثل ثواب من اتبعه مقتديا به[19].”

ثم يردف مالك الآية بآية أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الاَلباب﴾ (الزمر: 17).

استقراء وصفي: ويعدد فيه فضائل مكان المدينة وقيمتها الرمزية في الوجدان الروحي للرعيل الأول، ولما ينبغي لمن بعده من ضرورة الأخذ بفتاويهم، وهذا من شأنه أن يعزز الاستدلال على اعتبارها جزءا أصيلا في حجية عمل أهل المدينة، فيقول مالك رحمه الله: “فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام..[20].”

استقراء تاريخي: فاشتغل فيه ابن أنس على ذكر مكانة عمل أهل المدينة وتواتر العمل به عبر التاريخ جيلا بعد جيل ممن عاصر النبي، صلى الله عليه وسلم، وممن عاش بعد وفاته إلى عصر التابعين ومن يليهم إلى من يجب الاقتداء بهم من بعدهم، فيقول رحمه الله: “إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويبين لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله

واختار له ما عنده صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته. ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، فإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره ما هو أقوى منه وأولى ترك قوله وعمل بغيره، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون ذلك السبيل، ويتبعون تلك السنن..[21].”

كل هذه الفضائل والميزات والمحاسن التي انفرد بها جيل الصحابة في المدينة، ومن والاهم من التابعين ومن سار على نهجهم في اتباع  فتاويهم، كل ذلك بما صح من استقراء وتتبع يقوي من شأن المدينة وأهلها في إعمال عملهم والاقتداء بما ورثوه من سننهم حسب مالك.

ج. الاعتراض الاستقرائي

قد يصير اعتراض ما تشكيكا في الفرض الاستقرائي الذي يستدل عليه الإمام مالك ولا يقيم له وزنا، لكن ذلك لا يقدح في أصالته وقوة حجيته، لذلك بادر مالك إلى ذكر الاعتراض الذي قد يتبادر إلى ذهن الليث فيقول: “ولو ذهب كل أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهو الذي مضى عليه من مضى منا[22]“؛ أي أنه قد تدعي جماعة مصر من الأمصار إجماعهم على عمل، أو أمر قد تواتر اتباعه، والأخذ به عندهم، فما الفرق بينه وبين قولنا الناس تبع لأهل المدينة وعملنا حجة أيضا؟

إنه افتراض اعتراضي يقوي الامام مالك بالإجابة عليه قطعية مذهبه في حجية عمل أهل المدينة، حتى لا يدع للمخالف مسلكا في دعوى المناقضة، فكيف تم له ذلك؟

 د. التقويم الاستقرائي

إن مسألة حجية عمل أهل المدينة وإجماعهم لا ترتبط باتفاق أهل البلد وحسب، حتى يدعي كل مصر من الأمصار مثل ما يدعيه أهل المدينة، وإنما الأمر فيه سر آخر حسب مالك، فما قالوه لا يصح ولا يستقيم مع قيمة المدينة وكبير فضائلها المذكورة استقراء، ولمكانتها التاريخية، وهذا ما يجعلهم ليسوا بأهل لتلك الدرجة من الثقة التي منحت للمدينة والوراثة المستحقة الخاصة، “فاحتجاج مالك، رحمه الله، بأقوال أهل المدينة على هذا الوجه، ولو اتفق لسائر البلاد نقل يساوي نقل المدينة في مسألة من المسائل لكان أيضا حجة ومقدما على أخبار الآحاد، وإنما نسب هذا إلى المدينة؛ لأنه موجود فيها دون غيرها[23]“، وعليه لا يجوز لهم من درجة الاعتبار وحجية إنجاز الأحكام مثل الذي جاز لعلماء يثرب، قال ابن تيمية: “وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة، علم بذلك أن قولهم، أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا، وإنه تارة حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحا للدليل؛ إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين[24]،” لذلك نجد مالكا، رحمه الله، يقول في متابعة السياق: “..لم يكونوا؛ (أي أهل الأمصار الأخرى) فيه من ذلك على ثقة، ولم يجز لهم مثل الذي جاز لهم[25].”

ﻫ. التأكيد الاستقرائي

إذا للمدينة ما يميزها بفضيلة الهجرة والدعوة والنبوة، ومن خصوصيات الصحابة الذين تربوا فيها بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والذين تتابعوا من بعدهم، ولها ما يفاضلها عن غيرها من لزوم الثقة بأهلها، وشرف ما يجوز لهم من اتباع سنتهم ما لا يجوز لغيرها، فإن ذلك كله لدليل كاف على اعتبار عمل أهل المدينة حجة قطعية في العلم والعمل، يقول ابن أنس: “فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز انتحالها ولا ادعاؤها[26].”

وبذلك يظهر أن عمل أهل المدينة أصل من أصول مالك، لا يليق ترك إعماله، بل “يرى أن عمل أهل المدينة في عهده إذا تحقق في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها، يرفع الخلاف فيها عنده هذا العمل، وبه يختار القول على غيره[27]“، وهو القائل “العمل أثبت عندي من الأحاديث[28]“، وقد اعتبر ابن خلدون عمل أهل المدينة من استدراكات مالك الأصولية غير المدارك المعتبرة عند غيره من الأئمة[29].”

وبمسالك النقد الأصولي هذه، تكتمل شاكلة النقد النزاعي الذي استثمره مالك في رسالته الناصحة، ليختمها بدعوة الليث بن سعد إلى النظر فيها وإنزالها منزلتها اللائقة.

الفرع الثاني: شاكلة النقد الأصولي في رسالة الليث[30] 

1.  تأصيل محل النزاع

إذا تحددت مرجعية محل الخلاف عند ابن أنس في إجماع أهل المدينة عموما وقطعيته، باعتباره المدخل الأساس في اعتبار إجماع وعمل علماء وفقهاء المدينة من الصحابة، فإنه عند ابن سعد سيختلف تماما، حسب ما يبدو من رسالته؛ إذ ستكون حجية عمل أهل المدينة هو أصل النزاع على سبيل التعميم، لذلك نجده يستهل رسالته بعد استهلالها بالسلام “..وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وإني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به” ثم يضيف قائلا: “وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن[31].”

إن أصول النزاع غالبا ما تتأسس على مبادئ كبرى متفق عليها ابتداء، إنما يتشعب الخلاف فيما يرتبط بها من فروع ومتعلقات، وهذا ما نلمسه في تعقيب الليث لما لم يمانع في قيمة المدينة وفضل أهلها وسننها وما اتفقوا عليه، حيث قال: “وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله، ووقع مني الموقع الذي تحب”، بل إن الليث أكثر العلماء تفضيلا لها ولعلمائها، وأكثرهم أخذا بأحكامها، يتابع قوله: “وما أعد أحدا قد ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين ولا شريك له.” وكأني بابن سعد يقول لمالك: “ليس هناك من هو أشد مني تمسكا بما اتفق عليه علماء أهل المدينة السابقون، لكن أين ما اتفقوا عليه، وقد رأيت اختلافهم الشديد؟ إن المتفق عليه بينهم إنما هو ما أجمع عليه الصحابة وحده[32]“، وأضاف وأما ما ذكرت من مقام رسول، الله صلى الله عليه وسلم، بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعا لهم فيه فكما ذكرت،” لكن أين يتحدد محل النزاع وأين تكمن مظنته حسب ابن سعد؟

2. تحديد محل النزاع

إن ابن سعد لا ينازع مالكا في ما اتفق عليه من موقع المدينة وفضائلها وما أثر من اتفاق علمائها عليه فيها، بمعنى أن حجية عمل أهل المدينة ثابتة وقطعية من جانب العلم والورود، وإنما الخلاف في حجية هذا الأصل من جانب العمل؛ لأن به متعلقات ظنية بسبب ما استوجب ذلك من اختلاف حول فهم آية السبق والأولية وفقه تنزيلها، التي استدل بها مالك على حجية عمل أهل المدينة العلمية. ويعتبر هذا الأمر من أهم أسباب الخلاف الأصولي بين الأصوليين؛ لأن اعتبار الحجية العلمية من جانب في الأدلة لا يعني بالضرورة عند أكثرهم استصحابها للحجة العملية، وقد نبه إلى ذلك الإمام الشاطبي حينما تحدث عن مسألة القطع في الأصول مفرقا بين القطع في العلم الذي يبحث فيه من جهة، وبين القطع العملي من جهة ثانية، يقول، رحمه الله: “واعلم أن المقصود  بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به، كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو بالقياس واجب مثلا، بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم… وهو معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون والله أعلم[33].”

فبعد موافقة الليث على كل ما ذكره مالك من استدلالات، يبدي تحفظه على فهم الآية بقوله رحمه الله: “…وأما ما ذكرت من قول الله عز وجل: ﴿والسابقون الاَولون من المهاجرين والاَنصار والذين اَتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الاَنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم﴾ (التوبة: 101)، فإن فهمه ينبغي أن يرتبط بما آل إليه حال الصحابة المقصودين فيها مهاجرين وأنصارا من تفرقهم في الأمصار، واختلافهم في الفتيا حينئذ.

3. تعليل النزاع

إن سبب الخلاف الحقيقي بين ابن سعد وابن أنس لا يتعين كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حجية عمل أهل المدينة، وإجماعهم واتفاقهم على الأحكام، وإنما تحدد في فقه الدليل الذي اعتبره مالك في التأسيس لتلك الحجية، فإذا كان ما ذكر من فضل المدينة وأهلها ومن آيات بينات تاريخية أمر مسلم، ومتفق عليه من الجانب العلمي في الاعتبار، فإن ذلك لا ينهض دليلا قطعيا من الجانب العملي وعلة ذلك تتمثل في أمور:

أولها: تفرق الصحابة في الأمصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، الذين خلفوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو كان ما أفتوا به أو عملوا به يقدح في عمل أهل المدينة لكان الخلفاء أول من يثور في وجههم وهم الذين “كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين، والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم[34].”

ثانيها: اختلاف أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الفتيا؛ أي أن مسألة الخلاف الفقهي التي حصلت فيما بعد بين الصحابة مؤشر أساس على عدم حجية وقطعية عمل أهل المدينة العملية، يقول ابن سعد: “..مع أن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اختلفوا بعده في الفتيا في أشياء كثيرة[35].”

ثالثها: اختلاف التابعين ومن بعدهم، وقد تتابع الخلاف مع التابعين من بعدهم وعلى رأسهم سعيد بن المسيب، وكذلك ابن شهاب وربيعة الرأي، فكل ذلك يؤكد عدم ضرورة استمرار العمل بما اتفق عليه من قبل أهل المدينة.

فهذه أهم الأسباب التي كانت وراء اختيارات ابن سعد في إهمال العمل بدليل عمل أهل المدينة، ويزكي ذلك قوله بعد الفراغ منها قوله: “فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه[36].”

4. تحرير محل النزاع

إن تحرير محل النزاع بناء على ما تعين من أسباب سينظر فيه ابن سعد بمنهج استقرائي يوازي استدلال ابن أنس على حجية عمل أهل المدينة، فكيف تم له ذلك؟

 ‌أ. الفرض الاستقرائي

مفاد الفرض الاستقرائي الذي سيعمل الليث على إثباته هو أن عمل أهل المدينة ليس بحجة قطعية من حيث العمل، وإن كان حجة من حيث العلم والثبوت، وذلك ما عابه عليه مالك “وقد عرفت مما عبت إنكاري إياه[37]،” فما هي الجزئيات الاستقرائية التي اقتفاها للقطع بالمسألة.

‌ب.  البيان الاستقرائي

يتأسس البيان الاستقرائي عند ابن سعد على تعداد مجموعة من الفروع الفقهية الدالة بنفادها على عدم حجية عمل أهل المدينة، وقد نحا في هذا الاستقراء سبيلا مباشرا، وآخر خلفيا:

  • استقراء مباشر

وهو تتبع الأحكام الشرعية التي أنكرها مالك عليه لتعارضها مع مذهب ما عليه أهل المدينة ويراها ابن سعد مآخذ الصحابة في بعض الأمصار، ومن ذلك:

ـ أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة، وقد جاء في الموطأ: “عن مالك عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم[38].”

ـ القضاء بشهادة يمين وصاحب الحق، قال مالك: “فهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان[39]“، يعقب الليث: “وقد عرفت أنه لم يزل يقضى بالمدينة به، ولم يقض به أصحاب رسول الله، صلى الله عيه وسلم، بالشام وبحمص ولا مصر ولا العراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي…[40].”

ـ أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها، قال الليث: “ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا من بعدهم بصداقها إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها[41].”

ـ ومن ذلك قولهم في الإيلاء أنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف، وإن مرت الأربعة أشهر، وذلك مذهب أهل المدينة وقال فيه مالك: “وذلك الأمر عندنا[42]“، لكن عبد الله بن عمر وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وغيرهم من كبار الصحابة “قالوا في الإيلاء إذا مضت الأربعة أشهر فهي تطليقة ثانية[43].”

ـ “ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: “إذا ملك الرجل امرأته أمره فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثا فهي تطليقة” وقضى بذلك عبد الملك بن مروان، وكان ربيعة بن عبد الرحمن يقوله…[44]،” وهذا مخالف لما أجمع الناس عليه في المدينة، وقد جاء في الموطأ: “قال مالك في المملكة إذا ملكها زوجها أمرها ثم افترقا ولم تقبل من ذلك شيئا فليس بيدها من ذلك شيء وهو لها ما داما في مجلسهما[45].”

ـ “ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: أيما رجل تزوج أمة ثم اشتراها زوجها فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت المرأة الحرة عبدا فاشترته فمثل ذلك[46].”

  • استقراء خلفي

لم يكتف ابن سعد بذكر أحكام وفتاوى تنصر مذهبه في عدم حجية عمل أهل المدينة من جانب العمل سار عليها علماء كبار من الصحابة التابعين فيما بعد الجيل الأول، وإنما سيوجه نقده إلى ابن أنس متهما إياه باعتماد فتاوى تناقض ما تواتر إعماله بين الناس قبله، وسيعدد له مما بلغه عنه من ذلك ومنها:

ـ تقديمه الصلاة قبل الخطبة في الاستسقاء وقد جاء في الموطأ أن مالكا سئل عن الاستسقاء فأجاب قائلا: “ركعتان، ولكن يبدأ الإمام بالصلاة قبل الخطبة فيصلي ركعتين…[47].” والصحابة والتابعين حسب ابن سعد كلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة[48].

ـ عدم إيجابه الصدقة على الخليطين حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، قال مالك: “ولا تجب الصدقة على الخليطين حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة[49].”

وقوله: “إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها، أو أنفق المشتري طائفة منها أن يأخذ ما وجد من متاعه[50]“، ولكن الناس على خلاف ذلك من “أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئا أو أنفق المشتري منها شيئا فليس له[51].”

ـ ثم ما وصله عنه لما سئل “عن رجل يحضر بأفراس كثيرة فهل يقسم لها كلها؟ فقال: لم أسمع به بذلك ولا أرى أن يقسم إلا بفرس واحد الذي يقاتل عليه[52]“، والناس كلهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير أربعة أسهم بفرسين[53].”

كانت هذه الفروع الفقهية المستقرأة من قبل الليث والدالة على صدق قوله والمخالفة لحجية عمل أهل المدينة حسب اعتباره، وقد سكت عن أشياء أخرى تشبهها تجنبا للإطالة “وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا[54].”

‌ج.    التأكيد الاستقرائي

كل ما ذكر من فروع فقهية حسب ابن سعد خالف فيها مالك أغلب الصحابة والتابعين الذين كانوا يفتون بخلاف ذلك، وهذا ما أكده بمعاتبته لمالك: “فلم يكن ينبغي لك وإن كنت سمعته من رجل مرضي أن تخالف الناس أجمعين[55].”

أبعاد النقد الأصولي في الرسالتين

أ. البعد الفقهي

إن للبعد الفقهي حضور قوي في الحجاج الأصولي الذي دار بين ابن أنس وابن سعد، كما أنه غير مستغرب على بدايات نضج الفكر الأصولي الذي نشأ وترعرع ضمن البحث الفقهي والفروعي، حيث ظهرت المذاهب الفقهية واشتد عودها قبل ظهور المرجعيات الأصولية قائمة الذات والمنهج، وذلك ما نشهد بروزه بشكل لافت في استدلالات الإمامين على مدى صحة القواعد والأصول التي يتبناها كل واحد منهما، الشيء الذي يؤكد أن الخطاب الأصولي في بداياته اتخذ لبوسا فقهيا، سواء على مستوى الاستدلال والنقد أو على مستوى الدراسات والتأسيس، إلا أنه سيفقد هذه المزية فيما بعد، خصوصا بعد تدوين رسالة الشافعي، وسينحو مأخذا نظريا تجريديا، لا يستجيب للتفريع الفقهي والتمثيل العملي.

ب‌. البعد القطعي

إن مدار الحجاج والنقد الدائرين بين الإمامين حول الفتاوى والأحكام يعود بالأساس إلى الأصول المستند إليها في تخريجها والاجتهاد فيها؛ لأن اتهام مالك الليث بإهمال عمل أهل المدينة وإجماعهم مرده إما إلى التشكيك في قطعيته، وإما إلى إغفاله وعدم التنبه إليه، أما الأمر الثاني فغير وارد لدى عالم يعتبر من أفقه علماء عصره، ومعايشته لجيل من التابعين الذين شهدوه وأعملوه، ويبقى الأول وهو الراجح، بدليل ما ورد في رسالته الجوابية كما تبين من اعتراضه على قطعيته خصوصا في جانبه العملي وإن سلم له في جانبه العلمي ولم ينازعه.

فإذن، تعتبر مسألة القطع من كبريات المسائل التي اشتغل عليها الفكر الأصولي وبنى عليها مسائله، وذلك ما ينبه إليه عدد من الأصوليين حينما تحدثوا عن الفائدة من علم أصول الفقه والغرض منه، فهذا الجويني مثلا يقول: “فإن قيل تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى في الأصول وليست قواطع، قلنا حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لابد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به[56].” وقال أبو يعلى الفراء: “أدلة الفقه عبارة عن استعمال ألفاظ العموم وطرق الاجتهاد، والكلام في أصول الفقه ما يدل على إثبات مقتضى هذه الأشياء وموجبها وصحتها وفسادها[57].”

ج. البعد الاستقرائي

تؤرخ الرسالتين، على الأقل، لبدايات الاشتغال على المنهج الاستقرائي في الفكر الأصولي، وقد لاحظنا من خلال الدراسة أن كلا من الإمام الليث والإمام مالك لم يجدا منتهاهما الاستدلالي إلا في مسلك الاستقراء في حال غياب الدليل القطعي المتعين، الموفي بغرض القطع في الاحتجاج، وهو المسلك الذي تواتر استعماله واستخدامه على مدى تاريخ المعرفة الأصولية مرورا برسالة الشافعي وانتهاء بموافقات الشاطبي، بل إن الإمام الليث أبدع في استخدام أشكال الاستقراء من استقراء شرعي وتاريخي وعلمي وعكسي أو خلفي.

ملاحظ ختامية

الملحظ الأول: لقد اعتمد كل من الإمام مالك والإمام الليث في تناظرهما الأصولي على منهج النقد النزاعي والذي يقوم على البحث في محل النزاع بتتبع أربع خطوات:

تأصيل محل النزاع: وهي خطوة استهلالية تمهد لعرض أصل النزاع ومصدره الذي تفرعت عنه باقي الإشكالات.

تحديد محل النزاع: ويعمل فيها على بيان حقيقة الخلاف وموضعه الأساس.

تعليل النزاع: وينظر في بيان سبب النزاع وعلته.

تحرير محل النزاع: وهي أخر خطوة يمر بها النقد العلمي وتتمثل في حل الإشكال.

وروح هذا المنهج هو المسلك الاستقرائي الذي اشتغل عليه الإمامان بشكل جلي في تحرير النزاع. كما أن هذا المنهج هو الذي التزم به الأصوليون في دراساتهم مع بعض الفوارق البسيطة من حيث التقديم والتأخير في المسالك.

الملحظ الثاني: إن من أهم الأسباب الداعية إلى الخلاف بين الأصوليين هو اختلافهم في حجية الأصول والأدلة، سواء من حيث قطعيتها في العلم أو العمل، وهو سبب النزاع الذي حصل بين مالك والليث بخصوص حجية عمل أهل المدينة كما تبين من خلال الدراسة.

الملحظ الثالث: لقد مثلت الرسالتين نموذجا فريدا في الحوار والتناظر والنقد، حيث يلمس ذلك الاختلاف البناء، الذي لا يترتب عنه تعارض كلي يفضي إلى قطع صلات الود والصداقة بين الإمامين، كما يلحظ قارئ الرسالتين ذلك الأدب اللطيف في التحسيس بالأخطاء العلمية والتجاوزات الفقهية، إضافة إلى حسن توجيه النصائح بما يخدم تصحيح المسائل، طلبا للحق والصواب، دون تعصب مذهبي أو انتصار شخصي للآراء الفقهية، بل إن كل واحد دعم رأيه بثلة من النصوص الشرعية والأدلة العلمية المفيدة في البيان والتقويم..

الهوامش


[1]. أبو الطيب مولود السريري، مناظرات ومحارات فقهية وأصولية، دار الكتب العلمية، ط1، 2005، ص29، 74، 77، 79.

[2]. أبو يوسف يعقوب البسوي، رسالة الليث بن سعد إلى مالك، المعرفة والتاريخ، رواية عبد الله بن جعفر النحوي، تحقيق أكرم ضياء العمري، دار النشر مؤسسة الرسالة، ط8، 1981م، ص689.

[3]. البسوي، المعرفة والتاريخ، رسالة مالك، م، س، 1/697.

[4]. الحسان شهيد، منهج النقد الأصولي عند الإمام الشاطبي، أطروحة دكتوراه مرقونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، (2006ﻫ/2007م)، 1/88.

[5]. البسوي، المعرفة والتاريخ، م، س، 1/696.

[6]. المرجع نفسه، 1/694.

[7]. المرجع نفسه، وقد أوردها القاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مالك، تحقيق د. أحمد بكير محمود، دار مكتبة الحياة، 3/300.

[8]. أنظر: المدونة الكبرى، برواية الإمام سحنون عن عبد الرحمن عن القاسم عن الإمام بن أنس الأصبحي، ط1، بيروت: دار صادر، 3/1443.

[9]. أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول في أحكام الفصول، تحقيق عبد المجيد التركي، دار الغرب الإسلامي، ط2، (1415ﻫ/1995م)، 1/491.

[10]. المرجع نفسه، 1/486، 487.

[11]. أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي، جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله، دار الفكر، ص196.

[12]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار عثمان بن عفان، ط1، 1421ﻫ، 3/270، 271.

[13]. أنظر: عمر الجيدي، الاستدلال بعمل أهل المدينة، ندوة الإمام مالك، 2/289.

[14]. أنظر: شهاب الدين أبو العباس القرافي، شرح تنقيح الفصول، تحقيق طه رؤوف عزت، بيروت: دار الفكر، لبنان، (1393ﻫ/1973م) ص334.

[15]. المرجع نفسه، رسالة مالك، 1/696.

[16]. أبو عبد الله التميمي المازري، إيضاح المحصول من برهان الأصول، دراسة وتحقيق عمار الطالبي، دار الغرب الإسلامي، ط1، ص406.

[17]. البسوي، رسالة مالك، م، س، 1/696.

[18]. ابن عربي، أحكام القرآن، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الفكر، 2/570.

[19]. المرجع نفسه، 2/573.

20. البسوي، رسالة مالك، م، س، 1/696.

[21]. المرجع نفسه.

[22]. المرجع نفسه، 1/697.

[23]. أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول في أحكام الفصول، م، س، 1/488.

[24]. أحمد ابن تيمية، مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الرباط: مكتبة المعارف، المغرب، 20/311.

[25]. البسوي، المعرفة والتاريخ، م، س، 1/697.

[26]. المرجع نفسه.

[27]. عمر الجيدي، الاستدلال بعمل أهل المدينة…ندوة الإمام مالك، م، س، 2/268.

[28]. أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني 386ﻫ، الجامع في السنن والآداب والمغازي والسير، تحقيق محمد أبو الأجفاني ومحمد بطيخ، تونس: مؤسسة الرسالة، المكتبة العتيقة (1402ﻫ/1982م) ص117.

[29]. أنظر: عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، بريوت: دار الجيل، لبنان، ص495.

[30]. البسوي، المعرفة والتاريخ، م، س، 1/698، وقد أوردها ابن القيم في إعلام الموقعين، 3/82.

[31]. المرجع نفسه، رسالة الليث، 1/688.

[32]. محمد بلتاجي، مناهج التشريع الإسلامي، في القرن الثاني الهجري، دار السلام، ط1، (1425ﻫ/2004م) ص399.

[33]. الموافقات، م، س، 3/18.

[34]. البسوي، رسالة الليث، م، س، 1/689.

[35]. المرجع نفسه.

[36]. المرجع نفسه، 1/690.

[37]. المرجع نفسه.

[38].  مالك بن أنس، الموطأ، برواية يحيى بن يحيى الليثي، عناية محمود الجميل، مراجعة عبد الرؤوف سعد، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب الجمع بين الصلاتين… القاهرة: مكتبة السلام الجديدة، مصر، ط1، (1427ﻫ/2004م)، 5/330.

[39]. الموطأ، م، س، كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين مع الشاهد، ص424.

[40]. البسوي، رسالة الليث، م، س، 1/691، قال يوسف بن عبد البر القرطبي: “قال مالك وأصحابه يقضي باليمين مع الشاهد في كل البلاد ويحمل الناس عليه ولا يجوز خلاف ما قالوه من ذلك لتواتر الآثار به عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن السلف والخلف من أهل المدينة والعمل المستفيض عندهم بذلك وقد ذكرنا الآثار في كتاب التمهيد ولم يلجأ شيوخنا فيه إلى أصل من أصول أهل المدينة وسلكوا فيه سبيل أهل العراق واستتروا فيه بالليث بن سعد وهم يخالفونه كثيرا إلى رأيهم بغير بينة ولا يرونه حجة”، أنظر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي، الكافي في فقه أهل المدينة، بيروت: دار الكتب العلمية، 1407ﻫ، 1/471.

[41].  البسوي، رسالة الليث، م، س، 1/691.

[42]. الموطأ، كتاب الطلاق، باب: الإيلاء، 324.

[43]. البسوي، رسالة الليث، م، س، 1/692.

[44]. المرجع نفسه، 1/693.

[45]. الموطأ، م، س، كتاب الطلاق، باب: ما لا يبين من التمليك، 324.

[46]. البسوي، رسالة الليث، م، س، 1/693

[47]. الموطأ، م، س، كتاب الاستسقاء، باب: العمل في الاستسقاء، 121

[48]. البسوي، رسالة الليث، م، س، 1/694

[49]. الموطأ، م، س، كتاب الزكاة، باب: صدقة الخلطاء، 161

[50]. البسوي، رسالة الليث، 1/694.

[51]. المرجع نفسه.

[52]. الموطأ، م، س، كتاب الجهاد، باب: القسم للخيل في الغزو، ص266.

[53]. البسوي، رسالة الليث، م، س، 1/694

[54]. المرجع نفسه.

[55]. المرجع نفسه.

[56]. أبو المعالي الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم الديب، قطر، ط1، 1399ﻫ، 1/79.

[57]. أبو يعلي محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، العدة في أصول الفقه، تحقيق أحمد بن علي المباركي، الرياض، م ع س، ط2، (1410ﻫ/1990م) 1/19.

Science

د. الحسان شهيد

أستاذ التعليم العالي، كلية أصول الدين وحوار الحضارات، تطوان-المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق