وحدة الإحياءشذور

نحنُ – علومُنا – والمستقبل

كان مدار العلوم الإسلامية منذ مبتداها على النص نشأة وتداولا، حيث كانت في منطلقها متمثلة له علما وعملا، مما جعلها تنفتح على الكون وعلومه وعلى الإنسان ومعارفه، وتشيد عالميتها الرائعة الأولى التي تجلت فيها كثير من خصائص الوحي، وعكست بقدر طيب نوره وإشعاعه في الهداية والرحمة والعدل والحرية والأمن… كما تجلت فيها أيضا كثير من القيم العليا المزكية للإنسان والبانية للعمران.

وهذه العلوم اليوم على الفضل والخير الكبيرين اللذين فيها، فيها أيضا مجموعة من العوائق الذاتية تحول دون استئناف العمل البنائي والتجديدي فيها… وسوف نقتصر منها في هذا “الحديث” على ثلاثة عوائق:

أولا؛ أن العلوم الإسلامية قد دلفت نحو قُطب التقليد، حينَ مُورست على الإنسان المسلم مجموعة من الضغوط والتقليصات؛ المعنوية و المادية. فحين استُبدل واقع “قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك” (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قال عمر بن الخطاب هذه الجملة الرائعة لعبد الله بن عباس وكان فتى ساعتئذ)، بواقع مختلف، واقع “صه! واخرس قاتلك الله!”، بدأنا نرى بعض العلماء يتبوّأون مقامات فيها من الإطلاق والكليانية ودعوى امتلاك الحقائق ما قلص من الهوامش النقدية، وضيّق من مجالات الاجتهاد، وأدى إلى ظهور عبارات من مثل قولهم: ليس في الإمكان أبدع ممّا كان! كما أدّى إلى ظهور أنماطٍ من التبعية تحت دعوى القداسة في بعض الأحيان. إلى غير ذلك من الفهوم التي حين توضع في غير موضعها، وتورد في غير موردها، تجعل الإنسان المسلم ينسحب من ساحات الإبداع المباركة نحو ساحات التقليد والانكماش الاستهلاكي لما يُعْرَض! فالإبداع وحرية الفكر صنوان. والإبداع والكرامة صنوان.

ثانيا؛ أن هناك إشكالا نجده منسابا في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو المتعلق بقضية الثابت والمتحول، وبالطريقة والمنهجية التي بها نُمقدرُ Le dosage الثابت ونعرفه ونعرّف حدوده، حتى لا نصادمه ولا نتجاوزه. ثم نعرف ونُمقدرُ المتحوِّل الذي سيكون موضوعًا للاجتهاد المستأنَف في كل عصر كما نصّ عليه العلماء.

حين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، وحين لم تُتَلَقّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم؛ حصلت مشاكل كثيرة..

فنحن الآن مطالبون مرة أخرى بفتح ملف الثابت والمتحول في مجال العلوم الإسلامية… بما يلزم من مقدرة Dosage وعلم واتزان وتشرّع؛ حتى نستطيع تجاوز قدرًا من هذه الأزمات التي نعيشها اليوم.

ثالثا؛ العائق المتمثل في قضية الباراديغمات؛ أي الأنساق والأطر المرجعية والمركبات المفاهيمية التي تقود عمليتنا التفكيرية والتحليلية، وتؤطر أضرب النظر الذي نستعمله ونوظفه.. وهذا أمرٌ لم يُعطَ حقه، لتحرير وتجريد الباراديغمات الكامنة وراء علومنا ومعارفنا الإسلامية حتى نتأكد من قرآنيتها وسلامتها، وحتى لا تبقى هذه العلوم والمعارف خاضعة لباراديغمات غير سليمة، يُضفى عليها بغير حق سربال القداسة، ويكون لها من التأثير السلبي علينا وعلى تاريخنا ما يكون.

ويدخل في هذا الباب أيضا إدراك النواظم المنهجية الكلية بين العلوم الإسلامية التي توحدها في أصل انبثاقها الأول، وتفتح أمامها آفاق التكامل فيما بينها.. وتجسّر علاقتها مع دوائر العلوم الأخرى في ضوء مقاصد وفلسفات العلوم، كما يُقرّها القرآن المجيد في أبعادها الإنسانية والكونية التواصلية والتعارفية.

هذه العوائق وغيرها حين استحكمت صيّرت العلومَ الإسلامية كما استقرت بعدُ، في غير قليل من مناحيها وأبوابها تضيق مناهجها دون الاجتهاد والإبداع..

وإن “الإحياء”؛ إذ تفتح اليوم مع قرائها هذا الملف، تستهدف بالأساس حثّ العلماء والباحثين على القيام بما يلزم من مراجعات في ضوء الوعي بهذه العوائق وغيرها… بغرض تخليص علومنا من آثارها السلبية، وجعلها قادرة وحاضرة كما هي أهله في موكب التدافع المعرفي الكوني الراهن، ليكون لها إسهامها الإيجابي في ظل ظروف وتحولات قاهرة لا ترحم المتخلف عنها.

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق