دة. ربيعة سحنون
باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة
دعا سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه إلى الشريعة الإسلامية الغراء، التي قوامها العدل والرحمة، وأساسها اتخاذ القدوة والاقتداء بالرسل والأنبياء، وبالصحابة والتابعين، وتابعيهم إلى يوم الجزاء والدين، اعتبارا بقصصهم واقتداء بها، في الثبات على الحق، والصبر على الأذى، ومواجهة الصعاب والأزمات، فالقدوة إذن منهج تربوي متكامل وعظيم ربى عليه رسولنا الكريم أصحابه رضوان الله عليهم، مقدما بذلك أروع المثل وأصدقها في الصبر والتوكل على الله، واليقين في عطاء الله وقضائه وقدره.
توارث هذا النهج التربوي صالحو هذه الأمة وعلماؤها ومربوها وأولياؤها، فشكل الاقتداء سبيلا للاهتداء إلى الخير والصلاح والعرفان، ومن هؤلاء الذين ورّثوا مريديهم هذا المسلك التربوي الناجع الإمام الجنيد رحمة الله عليه، حيث شكلت وصاياه ومبادئه وطرائق تربيته حجرا أساسا في منهجه التربوي، وهذه بعض وصاياه لمريديه وتلامذته:
● قال الجنيد لبعض أصحابه: أوصيك بقلة الالتفات إلى الحال الماضية عند ورود الحال الكائنة[1].
● ويحكي رضي الله عنه: دخلت على السري وهو يجود بنفسه في سكرات الموت، فجلست وبكيت، فسقطت دموعي على خده، ففتح عينيه، ونظر إليّ، فقلت: أوصني؟ قال: لا تصحب الأشرار، ولا تشتغل عن الله بمخالطة الأخيار[2].
● يقول الجنيد واعظا: يا فتى، الزم العلم ولو ورد عليك من الأحوال ما ورد، ويكون العلم مصحوبك؛ فالأحوال تندرج فيك وتنفد، لأن الله عز وجل يقول: ﴿والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا﴾. [سورة آل عمران، آية 7][3].
● ومن وصاياه أيضا: يا أخي، فاعمل ثم اعجل قبل أن يعجل الموت بك، وبادر ثم بادر قبل أن يبادر إليك، وقد وعظك الله تعالى في الماضين من إخوانك، والمنقولين من الدنيا من أقرانك وأخذانك، فذاك حظك الباقي عليك، والنافع لك، وكلما سوى ذلك فعليك لا لك، وهذه موعظتي لك، ووصيتي إياك، فاقبلها تحمد الأمر بقبولها، وتفوز باستعمالها، والسلام[4].
● قال الجنيد: سمعت السري قدس الله سره يقول: يا معشر الشباب، جِدُّوا قبل أن تبلغوا مبلغي، فتضعفوا، وتقصروا كما قصرت. قال الجنيد: وكان السري في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب في العبادة، وكان إذا جنّ عليه الليل دافع أوله، ثم دافع، فإذا غلبه النوم أخذ في النحيب والبكاء[5].
● وقال أيضا: اعلم أن المناصحة منك للخلق، والإقبال على ما هو أولى بك فيك وفيهم، أفضل الأعمال لك في حياتك، وأقربها إلى أوليائك في وقتك. واعلم أن أفضل الخلق عند الله منزلة، وأعظمهم درجة، في كل وقت وزمن، وفي كل محل ووطن، أحسنهم إحكاما لما عليه في نفسه، وأسبقهم بالمسارعة إلى الله فيما يحبه، وأنفعهم بعد ذلك لعباده، فخذ بالحظ الموفر لنفسك، وكن عاطفا بالمنافع على غيرك، واعلم أنك لن تجد سبيلا تسلكه إلى غيرك وعليك بقية مفترضة من حالك. واعلم أن المؤهلين للرعاية إلى سبيل الهداية، والمرادين لمنافع الخليقة، والمرتبين للنذارة والبشارة، أُيِّدوا بالتمكين، وأسعدوا براسخ علم اليقين، وكشف لهم عن غوامض معالم الدين، وفتح لهم في فهم الكتاب المستبين، فبلغوا ما أنعم به عليهم من فضله، وجاد به من عظيم أمره، إحكام ما به أمروا، والمسارعة إلى ما إليه ندبوا، والدعاية إلى الله بما به مكنوا. وهذه سيرة الأنبياء صلوات الله عليهم فيمن بعثوا إليهم من الأمم، وسيرتهم في تأدية ما علموه من الحكم، وسيرة المتبعين لآثارهم من الأولياء والصديقين، وسائر الدعاة إلى الله من صالحي المؤمنين.[6].
● ويقول: احذر أن تكون ثناء منشورا وعيبا مستورا[7].
[1] اللمع، السراج الطوسي، ص: 335.
[2] تاريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها، الخطيب البغدادي، 266/10.
[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصفهاني، 276/10.
[5] بستان العارفين، النووي، ص: 276.