مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

من صور الجود والكرم في حياة العلماء

ترجم القاضي عياض في كتابه الموسوم بترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك أبا العباس عبد الله بن طالب بن سفيان بن سالم بن عقال التميمي القيرواني المالكي (ت275هـ) فقال: لم يكن في زمانه سلطان ولا غيره أسمح منه، يتداين بالمال الكثير، ويتصدق به، ويصل بالعشرات من الدنانير، من يعرف ولا يعرف، وربما أعوز فيتصدق بلجام دابته، ومصحفه، ونعله، وشوار عياله، وربما تصدق بثياب ظهره.

حدث بعض أصحابه: أنه ركب معه إثر سماء، وهو على حمار مصري، فعرض له في طريقه ماء مستنقع، فأتى صبي يرعى غنماً، فأخذ بلجام حماره، فجوزه الماء.

فقال للغلام: من مولاك؟ قال: فلان. فنزل ابن طالب في مسجد، ثم قال للغلام: اذهب فجئني بمولاك. فجاءه فقال له: بكم اشتريت هذا الغلام؟ فقال: بعشرة دنانير. قال: فخذها واعتقه، وولاؤه لك. وعدها له، وكتب عتق الغلام، ثم قال لمولاه: قد وجب أن تجري له على رعايته لغنمك أجرة، فأجرى له دينارين في كل سنة.

فقال ابن طالب: إلزم مولاك، ولا تقطعنا. فإنا نواسيك. وذكر أن غلاماً راعياً ناوله سوطه، وقد سقط، فوجه في مولاه، فاشتراه مع الغنم، وأعتقه ووهب الغنم له.

 وكان إذا رأى بعض الرجال في الشتاء ليس عليه دِثار، نزع فَرْوَه، وبعض كسوته عن جسده، وكساه.

وشكا إليه رجل يتعذر بجهاز ابنة له زوّجها، وكانت لابن طالب ابنة تخرج إليه من عيد إلى عيد، فقال لأمها: أحب أن تزيني ابنتي، وتلبسيها ثيابها وحليها، وثيابها أجمع.

ففعلت، وأخرجت إليه ففرح بها، واستبشر، ثم قال لها ولأمها: إن فلاناً شكا إلي كذا، وأنا أحب أن أدفع له جميع ما على ابنتي من حلي وثياب، يجهز به ابنته، وعليّ أنا عوض ابنتي منه بما هو أكثر، فدفعتاه إليه.

 حكى المالكي عن محمد بن عمر: أنه ولي القضاء ومعه ثمانون ألف دينار، فلم يقبل حتى تصدق بجميعها أيام قضائه.

 قال: وكان رجل من العراقيين ينال من ابن طالب، فتوفيت أم ولده، وكان مقلاً، فقال له بعض إخوانه: لو قصدت ابن طالب أن يصلي على جنازتك، نلت منه خيراً. قال الرجل: كيف أقصد لمن سبق مني فيه غير جميل. فقيل له: الرجل كريم.

وكان ذلك الوقت ابن طالب معزولاً عن القضاء عزلته الأولى. فمضى إلى ابن طالب، وعرّفه وسأله الصلاة. فوعده بالمجيء وقت الصلاة، ففعل، وصلى.

فلما كان اليوم الرابع، وجه ابن طالب إليه في طلبه، فأتاه. فقال له: أكرمك الله! صرت لنا كالأخ، وأحببت أن أكلفك ببعض حوائجي، وذلك أن تشتري لي جارية نظيفة أديبة، على ما يحسن عندك. فمضى الرجل وأجهد نفسه، رجاء التقرب إليه، واشترى له جارية بنحو ثمانين ديناراً، وأتاه بها.

فأعجبت ابن طالب فقال له: هي جيدة حسنة، فقال: قلما رأيت مثلها، فقال ابن طالب: هي هبة مني إليك، فاتخذها موضع أم ولدك، بارك الله لك، وأعطاه دينارين لكسوتها.

قال: ولقي رجل ابن طالب في طريق، فشكا إليه الضعف، وأن له أربع بنات عاريات. فكتب له رقعة إلى رجل، فقرأها، وقال: اجلس.

وطلب له أربعة أقمصة، وأربع غلائل، وأربع دهاقن، ومضى به إلى سوق النخاسين، فاشترى له خادماً وغلاماً. فلما طال على الرجل، قال: يا هذا! أجب حاجتي.

فقال له: فيها أعمل، وأتى به إلى البركة، فاشترى له زوج بقر، وقطعة غنم، وقال له: جميعه لك. ومرّ يوماً، فإذا بجمال بحمولة قمح، وإذا رجل يسايره، فقال له: إن مَن هذا عنده في أمن من المجاعة، وفارقه، فسار ابن طالب إلى داره، فإذا بحمولة له وجهها له وكيله، فأمر ابن طالب بحملها إلى دار الرجل، وقال قولوا له: قد أمنت مما كنت تحذر!.

قال أبو الفضل: كان رجل من العراقيين يقع في ابن طالب، إرضاء لأصحابه، فولدت له امرأته، فقالت له: أنت ترى حالنا، فامض إلى أصحابك الذين كنت ترضيهم بسب ابن طالب، لعلهم يعينونا على ما نحن عليه! فسار إليهم، فلم يأت منهم بشيء، وخرج بمصحف يرهنه عند أحدهم، فما قبله منه أحد منهم.

فشتمته امرأته، وقالت له: اقصد إليه ـ يعني ابن طالب ـ فإني أرجو أنك لا تنصرف من عنده، خائبا! فمضى إليه واعتذر، وأعلمه بمقال زوجته، فقربه وقال: أتيتنا في وقت الأشياء فيه غير واسعة علينا، ولكن نعطيك ما حضر، فدفع إليه صرة كبيرة، وأخرى صغيرة، وقال له: انفق أنت هذه ـ وكان فيها أربعون ديناراً ـ وادفع الأخرى إلى أهل البيت ـ وكانت فيها عشرة دنانير.

 قال ابن أبي عقبة: كان رجل كفيف من الفقراء يمشي مع زوجته، فإذا بصقلبي أتى إلى طباخ، فقال له: يقول لك القاضي: خذ لنا خروفاً، من صفته كذا، واعمله في التنور، وخذ له من الزيتون والخبز وبقل المائد ما يصلح، وهَيِّئْهُ إلى أن يرجع من صلاة الجمعة.

فانصرف الغلام، فقالت زوجة الكفيف: والله ما اشتهيت إلا الأكل منه! وكانت حاملاً، فقال الكفيف: أنت طالق إن تغذينا إلا منه. فلما فرغ الناس من الجمعة، سبقا القاضي إلى باب الدار، حتى جاء ودخل بيتاً في سقيفة داره يحكم فيه، وجلس معه إخوانه الذين كانوا يحضرون مائدته.

فقال الكفيف لزوجته: تسمعي إلى وقت الطست، فقالت له: يا مدبر! ما الذي يصلك إليه؟ فقال لها: اسكتي، فلما سمعت الطست أخبرته. فقال الكفيف: يا قاضي! قال الله تعالى: ﴿ويؤثِرون على أنفُسهم﴾ الآية [ سورة الحشر: الآية 9]، وقال: ﴿إنما نُطعِمُكم لوجه الله﴾ الآيات [ سورة الإنسان: الآية 9].

 فصاح القاضي: يا غلام! خذ هذا الخوان وامض معه حتى توصله إلى دار هذا المتكلم، ففعل.

وحكي أن رجلاً من الرهادنة، بينما هو جالس في دكانه، طلعت إليه امرأة، فقالت له: بع هذا المتاع ـ وهو جبة وشي وطيلسان، ونعل طائفي، وقلنسوة ـ فأخذها وقال: هذا لا يصلح إلا بابن طالب. فمضى بها إليه، وأخبره، وقال له: استقص، وادفع لها الثمن.

وإذا بذلك كسوته للجمعة، جاءته المرأة فلم يكن عنده ما يدفع لها غير ذلك. وكان يتصدق بحلي سرجه، وسيفه. قال ابن حارث: وأتاه رجل من أهل البادية، فشكا إليه الإقلال، فكتب له إلى أبي ابراهيم في ضيعته، أن يدفع إليه خمسين قَفيزاً من زيت، فلما وصل إلى أبي إبراهيم بالكتاب ضجر على الرجل وقال له: إنا لم نعصر بعد، وهو يبدأ بتفريقه! ما عندي ما نعطيك! فرجع الرجل إليه، فأعلمه، فكتب إليه أن يدفع له مائة قفيز، فزاده ضجره. وقال له: اذهب بسلام! فرجع الرجل إليه، فأعلمه، فكتب إلى ابنه: ادفع إليه مائة قفيز، فوَالله لئن رجع إلي لأدفعنّ إليه غلة العام أجمع.

 وأكرمه رجل في طريقه، ولم يعرفه، فقال له: سل في القيروان عن دار ابن طالب، فلما وصل الرجل دفع إليه خمسة آلاف درهم، وعشر خلع. وأهدى إليه رجل من البادية خبز سُلْت، فدفع إليه خمسة مثاقيل، فقيل له: إنما تَسوى درهم! فقال: كلا، ولكن رجا هذا إفضالنا، فحققناه.

 قال أبو محمد بن سعيد بن الحداد، عن بعضهم: وصل إليّ من مال ابن طالب بآية من القرآن نحو من سبعين ديناراً. كنت إذا رأيته داخلاً إلى مجلس قضائه، قمت نحوه، فقرأت: ﴿إنما نُطعمكم لوجه الله﴾ الآية، فيدفع إلي الدينار والدينارين وما أمكنه.

قال أبو القاسم المعروف بالمساجدي: شكوت يوماً إلى ابن طالب الوحدة، وقلة الجدة، فاشترى لي جارية بأربعين ديناراً، وحجرة قرب الجامع بعشرين ديناراً، فشكوت إليه أنه ليس فيها ماء، فحفر في زقاقها بئراً للمسلمين، فكان يعطي قوتي وقوت الجارية وكسوتها كل شهر.

 قال أحمد بن معتب: جئته يوماً أسأله لرجل معروفاً، قال: فناولني طَرْفَ كُمِّ قميصه، ثم أدخل يده لينتزعها، فقلت: سبحان الله! معاذ الله، أن أكلفك هذا! فقال لي: لا يسبق إليك أني فعلته عن ضجر، غير أني والله لا أملك في هذا الوقت ديناراً ولا درهماً، ولابد له من أخذها.

 ورمى إليّ بثوبه. وقال بعضهم: أتيت ابن طالب فشكوت إليه الإقلال، فاعتذر اعتذار من عزم على ردّي، ثم دخل وخرج، فجعل في يدي شيئاً لم أشك أنها دراهم، فلما خرجت إذا في يدي عشرة دنانير.

 المصدر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي (4 / 314-320)، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المملكة المغربية.

انتقاء: د. مصطفى عكلي.

Science

الدكتور مصطفى عكلي

باحث مؤهل متعاون مع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط

عميد كلية الدراسات الإسلامية بالإنابة بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

أستاذ مساعد بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أبو ظبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق