وحدة الإحياءدراسات عامة

منهج الإمام الغزالي في الجمع.. بين القياسين الأصولي والمنطقي

الإمام الغزالي من أبرز المفكرين المسلمين تحمسا للمنطق، وإيمانا بفائدته في مجال الدراسات الفقهية، بل وفي العلوم كلها1. فقد عده مقدمة لجميع العلوم، من لم يحط به فلا ثقة له بعلومه أصلا2. وقد ألف، رحمه الله، في المنطق كتبا مستقلة هي: “محك النظر“، و”معيار العلم“، و”القسطاس المستقيم“، زيادة على المقدمات التي استهل بها بعض مؤلفاته: “كتهافت الفلاسفة“، و”المستصفى في أصول الفقه“.

ولم يقتصر الغزالي على هذا الدور التبشيري بالمنطق3. بل قام بجهد معتبر لزرع آلياته ومنها القياس، الذي هو قلب النظرية المنطقية الأرسطية، في الثقافة العربية الإسلامية، وقد قام من أجل ذلك بالخطوات الآتية:

الأولى؛ بيان كون القياس المنطقي قائم على دعائم دينية، فمصدره، كما يتصور، يعود إلى الأنبياء عليهم السلام، بل إنه يرى أن الذين وضعوا المنطق قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إنما استقوه من صحف إبراهيم وموسى4.

الثانية؛ استخراج أصول القياس ومقدماته من القرآن الكريم، وذلك بالتعبير عن بعض الآيات القرآنية بأقيسة منطقية5. “ونجد مثال ذلك في استخراجه للقياس الحملي من الضرب الأول للشكل الأول الذي يسميه الميزان الأكبر: فالآية هي: “إن الله ياتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر” (البقرة: 257) فعناصر البنية القياسية لهذه الآية هي:

 ـ  كل من يقدر على إطلاع الشمس، فهو الإله.

 ـ  وإلهي هو القادر على هذا الإطلاع.

 ـ  فإلهي إذن هو الإله دون النمرود6.

الثالثة؛ رد الأقيسة المنطقية إلى موازين قرآنية خمسة هي: ميزان التعادل، وميزان التلازم، وميزان التعاند. ويحتوي الميزان الأول التعادل على أنواع فرعية هي الأكبر والأصغر7.

لقد كان هذا خلاصة العمل الذي قام به الغزالي لصالح القياس المنطقي حتى يكون مألوفا ومقبولا في البيئة المعرفية العربية الإسلامية.

لكن، هل يمكن الجزم بأن حماسة الإمام الغزالي لمنطق أرسطو عموما ولقياسه خصوصا، وعمله المعتبر من أجل تبيئته، قد أدى به إلى استبدال قياس الفقهاء بقياس أهل المنطق كما هو صنيع ابن حزم الظاهري؟

الجواب، من وجهة نظري، لا يمكن أن يكون إلا بالنفي، فالغزالي لم يتخل قط عن القياس الأصولي لصالح أي قياس آخر. فقد كان، رحمه الله، من أفضل المدققين في بنية هذا القياس وشروطه وأركانه، كما صنع في كتابه “شفاء الغليل8 حيث جعل العلة، التي هي جوهر العملية القياسية الأصولية، محور هذا الكتاب، كما فصل الكلام عن القياس الأصولي في كتابه “المستصفى” الذي ألفه قبيل وفاته مما يدل على تمسكه بمنهج الأصوليين في القياس.

وثمة أمر لابد من توضيحه هنا، وهو أن الغزالي لم يتمسك بإطلاق بمنهج أهل الأصول في القياس، فقد تمسك به في المسائل الفقهية العملية فقط ثم رده لصالح القياس المنطقي في المسائل العقلية الاعتقادية.

وقد برر هذا التمييز الذي أقامه بين العقليات والفقهيات بمبررين هما:

1. أن القياس الجامع الذي يفيد اليقين، هو الأنسب للعقليات لتعلقها بالعقائد، بينما قياس التمثيل مناسب للفقهيات لأن الظنون الغالبة فيها كافية. وقد شرح الغزالي هذا التبرير في كتابه “معيار العلم” قائلا: “والغرض الآن من ذكره أن الاستقصاء الذي ذكر نابع في العقليات، ينبغي أن يترك في الفقهيات رأسا، فخلط ذلك الطريق السالك إلى طلب اليقين بالطريق إلى طلب الظن صنيع من سدى من الطرفين طرفا..”9.

ثم قال رحمه الله: “والاستقصاء في الفقهيات هوس محض وخرق، كما أن ترك الاستقصاء في العقليات جهل محض، فليؤخذ كل شيء من مأخذه، فليس الخرق في الاستقصاء في موضع تركه، بأقل من الحمق في تركه بموضع وجوبه”10.

2. أن المسائل الفقهية قائمة على الظنون الغالبة، ومن ثم فلا جدوى من إعمال القياس العقلي فيها، فالأنسب لطبيعتها هو قياس التمثيل. قال الغزالي: “وهذه الظنون وأمثالها تقتنص بأدنى مخيلة وأقل قرينة، وعليه اتكال العقلاء كلهم في إقدامهم وإحجامهم على الأمور المخطرة في الدنيا، وذلك القدر كاف في الفقهيات، والمضايقة والاستقصاء فيه يشوش مقصوده بل يبطله”11.

يتحصل  مما سبق، أن الغزالي لا يقدم القياس المنطقي، بإطلاق، على القياس الأصولي كما هو شائع عند بعض الباحثين المعاصرين12. وإنما يفاضل بين القياسين بحسب مجال الإعمال والاشتغال، ولعل هذا ما أدى بالبعض إلى اتهامه بالتناقض والنكوصية. فالغزالي، حسب تصورهم، تناقض لما مجد القياس المنطقي في كثير من مصنفاته، ثم تركه لصالح قياس التمثيل، مما يجعل من كل ما أسسه في كتبه المنطقية غير ذا جدوى.

لا يمكن، بأي حال، أن نتهم الإمام بالتناقض والنكوصية في هذا المجال، بالنظر إلى التبريرات التي ثم سوقها آنفا، كما لا يمكن الطعن في جدوى الكتب المنطقية الهامة التي ألفها الرجل في علم المنطق -وشكلت مادة القياس جوهرها- لسبب بسيط هو: أن الغزالي قد أفاد منها بشكل واضح في تصحيح قياس التمثيل وإعادة النظر في بنيته القائمة على (الركن، والأصل، والفرع، والعلة)، عن طريق رده إلى نمط من أنماط القياس المنطقي وذلك بتعديل حكم الأصل وتحويله إلى قضية كلية تصبح المقدمة الكبرى في القياس المنطقي. ويتم تعديل حكم الأصل عن طريق “حذف بعض أوصافه عن درجة الاعتبار حتى يتسع الحكم، فإن اتساع الحكم بحذف الأوصاف وأن نقصان الوصف يزيد في الموصوف أي في عمومه“13. ولتوضيح هذا الأمر، أورد الغزالي أمثلة فقهية وعقلية منها: “النبيذ حرام قياسا على الخمر، وعلة تحريم الخمر هي الإسكار وهو مناط الحكم، ومن ثم فإن حكم الأصل يمكن أن يحول إلى حكم أو قضية كلية وهي كل مسكر حرام، لنحصل بذلك على قياس حملي بدل قياس تمثيلي على النحو الآتي:

ـ كل مسكر حرام.

ـ والنبيذ مسكر.

ـ إذن النبيذ حرام.

    ومثاله في الفقهيات:

ـ المغصوب مضمون.

ـ العقار مغصوب.

ـ فالنتيجة هي أن العقار مضمون”14.

الهوامش

1. محمد مهران، المنطق والموازين القرآنية قراءة لكتاب القسطاس المستقيم للغزالي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة أبحاث علمية 13، ط1، 1418ﻫ، ص13.

2. المستصفى من علم أصول الفقه للغزالي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1413، ص10.

3. بنية العقل العربي لمحمد عابد الجابري، الدار  البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 1991، ص143.

4. المنطق والموازين القرآنية، م، س، ص8-9.

5. المرجع نفسه، ص6.

6. طه عبد الرحمان، يد المنهج في تقويم التراث، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1،  1994، ص342.

7. سطاس المستقيم للغزالي، تحقيق: محمد مصطفى أبو العلا، مكتبة الجندي، القاهرة، د. ت، ص21.

8. نعم إن الغزالي لم يترك القياس الأصولي لصالح أي قياس آخر، ويكفي مجرد النظر في ما ضمه كتابه المذكور ليتضح ذلك. قال في مقدمته: “ولقد قدمت لك مقدمة في صدر الكتاب، على نهاية الإيجاز في بيان معاني القياس والعلة، ثم قسمت مقصود كتاب القياس إلى خمسة أركان: الركن الأول: في طرق إثبات علة الأصل والركن الثاني: في العلة، والركن الثالث: في الحكم، والركن الرابع في الأصل الذي عليه القياس، والركن الخامس: في الفرع الملحق بالأصل “شفاء الغليل” في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل للغزالي، دار الكتب العلمية لبنان، ط1، 1420-1999م، ص.

9. الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1993، ص152.

10. المرجع نفسه، ص153-154.

11. المرجع نفسه، ص152.

12. لا يوافق الباحث حمو النقاري على أن الغزالي ميز في إعمال القياس المنطقي بين مجال العقليات ومجال الفقهيات، قال: “إن قول الغزالي: فأما في الفقهيات، فالجزئي المعين يجوز أن ينقل حكمه إلى جزئي آخر باشتراكهما في وصف، وذلك الوصف المشترك إنما يوجب الاشتراك في الحكم إذا دل عليه دليل (محك النظر) لا يعني في نظرنا تجويز التمثيل في الفقهيات بقدر ما يعني التساهل النسبي في تحويل حكم الأصل إلى حكم كلي مناط بالوصف الجامع بين الأصل والفرع..”، المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني من خلال أبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية للدكتور حمو النقاري، ط1، 1991، ولادة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص187-188.

13. الغزالي، محك النظر، بيروت: دار النهضة الحديثة، 1966، ص95.

14. انظر هذا المثال وغيره في معيار العلم، م، س، ص125.

ذ. عمر مبركي

دبلوم الدراسات العليا المعمقة

من مؤسسة دار الحديث الحسنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق