مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةمفاهيم

مفهوم العقل عند سيِّد الطائفة

دة. ربيعة سحنون       

باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

     ميّز الحق سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل والقدرة على الإدراك والتفكير، فبدونه لا يستقيم له شيء، وبدونه لا فرق بينه وبين غيره من المخلوقات، فالعقل هو سبب استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض، وهو الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الخطأ والصواب، وهو أيضا مناط التكليف، فالكثير من العبادات لا تقبل إلا من عاقل مُدرك لأفعاله، وعلى نفس النهج كان الصوفية، فهم لم ينكروا العقل ولم يغيبوه، بل جعلوا له مكانة خاصة في السلوك والسير إلى الله تعالى، كما هو حال الإمام الجنيد رحمه الله، فقد فصّل القول في هذا الموضوع، وهذه بعض أقواله في العقل وضرورته وأهميته في السلوك:   

     سئل الجنيد: متى يكون الرجل موصوفا بالعقل؟ قال: إذا كان للأمور مميزا، ولها متصفحا، وعما يوجبه عليه العقل باحثا: يبحث، يلتمس بذلك طلب الذي هو به أولى، ليعمل به، ويؤثره على ما سواه، فإذا كان كذلك فمن صفته ركوب الفضل في كل أحواله، بعد إحكام العمل بما قد فرض عليه، وليس من صفة ركوب الفضل في كل أحواله بعد إحكام العمل بما قد فرض عليه، وليس من صفة العقلاء إغفال النظر لما هو أحق وأولى، ولا من صفتهم الرضا بالنقص والتقصير، فمن كانت هذه صفته بعد إحكامه لما يجب عليه من عمله ترك التشاغل بما يزول، وترك العمل بما يفني وينقضي، وذلك صفة كل ما حوت عليه الدنيا، وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل ويسير حائل، يصده التشاغل به، والعمل له عن أمور الآخرة التي يدوم نعيمها ونفعها، ويتصل بقاؤها. وذلك أن الذي يدوم نفعه ويبقى على العامل له حظه، وما سوى ذلك زائل متروك مفارق موروث، يخاف مع تركه سوء العاقبة فيه ومحاسبة الله عليه. فكذلك صفة العاقل لتصفحه الأمور بعقله، والأخذ منها بأوفره. قال الله تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب﴾. [سورة الزمر. الآية 18]. كذلك وصفهم الله، وذوو الألباب هم ذوو العقول. وإنما وقع الثناء عليهم بما وصفهم الله به، للأخذ بأحسن الأمور عند استماعها، وأحسن الأمور وهو أفضلها وأبقاها على أهلها نفعا في العاجل والآجل، وإلى ذلك ندب الله عز وجل من عقل في كتابه[1].

     وقال الجنيد لسائله عن مسألة في العقل: يا أبا محمد، من لم يحترز بعقله من عقله لعقله، هلك بعقله[2].

     ويقول الجنيد رحمة الله عليه: ينبغي للعاقل ألا يفقد من إحدى ثلاثة مواطن: موطن يعرف فيه حاله أمزاد أم منتقص، وموطن يخلو فيه بتأديب نفسه وإلزامها ما يلزمها، ويتقصى فيه على معرفتها، وموطن يستحضر عقله برؤيته مجاري التدبير عليه، وكيف تقلب فيه الأحكام في آناء الليل وأطراف النهار. ولن يصفو عقل لا يصدر إلى فهم هذا الحال الأخير، إلا بإحكام ما يجب عليه من إصلاح الحالين الأولين.

     فأما الموطن الذي ينبغي له أن يعرف فيه حاله أمزاد هو أم منتقص، فعليه أن يطلب مواضع الخلوة لكي لا يعارضه مشغل، فيفسد ما يريد إصلاحه، ثم يتوجه إلى موافقة ما ألزم من تأدية الفرض الذي لا يزكو حال قربه إلا بإتمام الواجب من الفرائض، ثم ينتصب انتصاب عبد بين يدي سيده، يريد أن يؤدي إليه ما أمر بتأديته، فحينئذ تكشف له خفايا النفوس الموارية، فيعلم أهم ممن أدى ما وجب عليه أم لم يؤد، ثم لا يبرح من مقامه ذلك حتى يوقع له العلم ببرهان ما استكشفه بالعلم، فإن رأى خللا أقام على إصلاحه ولم يجاوزه إلى عمل سواه. وهذه أحوال أهل الصدق في هذا المحل: ﴿والله يؤيد بنصره من يشاء﴾. [سورة آل عمران. الآية 13].

     وأما الموطن الذي يخلو فيه بتأديب نفسه، ويتقصى فيه حال معرفتها، فإنه ينبغي لمن عزم على ذلك وأراد المناصحة في المعاملة، فإن النفوس ربما خبت فيها منها أشياء، لا يقف على حد ذلك، إلا من تصفح ما هنالك في حين حركة الهوى في محبة فعل الخير المألوف، فإن النفس إذا ألفت فعل الخير، صار خلقا من أخلاقها، وسكنت إلى أنها موضع لما أهلت له، وترى أن الذي جرى عليها من فعل ذلك الخير فيها هي له أهل، ويرصدها العدو المقيم بفنائها المجعول له السبيل على مجاري الدم فيها، فيرى هو بكيده خفي علتها، فيختلس منها بمساءلة الهوى ما لا يمكنه الوصول إلى اختلاسه في غير تلك الحال، فإن تألم لوكزته منك وعرف طعنته أسرع بالأمانة، إلى من لا تقع الكفاية منه إلا به، فاستقصى من نفسه علم الحال التي منها وصل عدوه إليه فحرسها بلياذة اللجأ، وإلقاء الكنف وشدة الافتقار وطلب الاعتصام.

     وأما الموطن الذي يستحضر فيه عقله لرؤية مجاري الأحكام وكيف يقلبه التدبير، فهو أفضل الأماكن وأعلى المواطن، فإن الله أمر جميع خلقه أن يواصلوا عبادته ولا يسأموا خدمته، فقال: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾. [سورة الذاريات. الآية 56]. فألزمهم دوام عبادته، وضمن لهم عليها في العاجل الكفاية، وفي الأخرى جزيل الثواب، فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون﴾. [سورة الحج. الآية 77]. وهذه كلها تلزم كل الخلق. ووقف ليرى كيف تصرف الأحكام، وقد عرض لرفيع العلم والمعرفة ألا يعلم أنه قال: ﴿كل يوم هو في شأن﴾. [سورة الرحمن. الآية 29]. يعني شأن الخلق، وأنت أيها الواقف، أترى أنك من الخلق الذي هو في شأنهم، أو ترى شأنك مرضيا عنده؟ ولن يقدر أحد على استحضار عقله إلا بانصراف الدنيا وما فيها عنه، وخروجها من قلبه، فإذا انقضت الدنيا وبادت وباد أهلها وانصرفت عن القلب خلا بمسامرة رؤية التصرف واختلاف الأحكام وتفصيل الأقسام، ولن يرجع قلب من هذا وصفه إلى شيء من الانتفاع بما في هذه التي عنها خرج، ولها ترك، ومنها هرب، ألا ترى إلى حارثة حين يقول: عزفت نفسي عن الدنيا، ثم يقول: وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني بأهل الجنة يتزاورون، وكأني وكأني، وهذه بعض أحوال القوم[3].

هوامش

[1] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 10/ 295-296.

[2] شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 415/3.

[3] حلية الأولياء، 10/ 289-291.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق