وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

معالم الفكر الأصولي قبل الإمام الشافعي

إذا كان البحث العلمي في تأريخه لعلم الأصول، قديما وحديثا، قد اهتم بعلم الأصول منذ ولادته الأولى على يد الإمام الشافعي، وفصلت كتابات علمية كثيرة أصولَ هذا العلم وأعلامه ومصنفاته؛ مما شكل ثروة غنية وتراثا ثريا جاهزا للإفادة؛ فإننا نلمس في المقابل فقرا ونضوبا في الاحتفال بالمراحل التمهيدية التي مر بها هذا العلم قبل أن يقنن ويقعد على يد الشافعي. وقد أورث هذا الإغفال ظنونا وأوهاما بأن هذا العلم قد ابتدأ مع الشافعي ولم يكن موجودا قبل ذلك.

لذا فالحاجة قائمة، اليوم، لإنجاز تغطية شاملة لمسيرة هذا العلم ولتاريخه؛ ويكون المنطلق الأساس في هذه المهمة المعرفية، رصد النمو والتطور التاريخي لهذا العلم من حيث القضايا والمضامين، ومن حيث التأليف، ومن حيث تطور المقولات والمصطلحات الأصولية، ومن ثم رصد وملاحقة العلاقة المتبادلة بين هذا العلم وباقي العلوم... إلى آخر ما يدخل في باب التأريخ وصفا وتقويما.

أولا: الجذور الأولى للفكر الأصولي حتى عصر نشأة المذاهب الفقهية

بإمكاننا أن نميز بين ثلاثة أطوار أو مراحل مر بها الفكر الأصولي، كضرب بارز من ضروب الاجتهاد،  قبل أن يقعد من طرف الشافعي، وهي:

1. الاجتهاد في عصر النشأة التشريعية

 يمكن حصر نطاق الاجتهاد، في هذا الطور، في مجالين اثنين:

المجال الأول: النظر في تعليل النص لإلحاق مسكوت عنه بمنصوص عليه لوجود معنى مشترك بينهما، فذلك هو القياس. والنبي صلى الله عليه وسلم متعبد بالقياس كأمته لعموم الأمر بالقياس في قوله تعالى: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" [الحشر: 2].

المجال الثاني: إدخال الفروع تحت أصولها العامة أو الجزئيات تحت قواعدها الكلية تحقيقا للمصلحة، واستلهاما لروح الشريعة ومقاصدها الكبرى.

وإذا كان الاتفاق حاصلا بين العلماء حول قيام المنهج التشريعي في هذا الطور على الوحي (الكتاب والسنة)، واكتمالهما كدليلين من الأدلة الكلية الأساسية في علم الأصول، فإن الأمر يختلف بالنسبة للأدلة الأخرى. وإذا سلمنا بكون عصر النبوة يعتبر، بامتياز، عصر نشأة علم الأصول، فإننا لا يمكن أن نسلم باكتماله كعلم من العلوم في هذا الطور.

2. الفكر الأصولي في عصر الصحابة

تميز المنهج الأصولي في عهد الصحابة بسمات بارزة، من أهمها: تطور المصادر الشرعية واتساع دائرة الأدلة، ومن ذلك: ظهور الإجماع، والاجتهاد الفردي للصحابة في تفسير النصوص، وبروز القياس بشكل جلي، ثم تشريع الصحابة بناء على ما تقتضيه المصلحة.

ولم يقتصر الفكر الأصولي في هذا الطور على الأدلة الشرعية كسابقه، بل تعداه إلى اعتبار القواعد الأصولية عند الاجتهاد الفردي. وبالتالي، فإن الفكر الأصولي كان متوفرا وحاضرا لدى فقهاء الصحابة بكل متطلباته، وإن مناهجهم في الاجتهاد بنيت على قواعد وأسس فكرية التزموا بها، لكنها لم تدون، ولم تكن معروفة في عهدهم بأسمائها الاصطلاحية، بل كانت معروفة بمسمياتها ومفاهيمها؛ وذلك بسبب عدم اضطرارهم إلى وضع القواعد، وتخريج الفروع، ورسم الحدود، وتمييز المسائل، واعتمادهم على الملكة دون الصنعة.

3. الفكر الأصولي في عهد التابعين

تميز الفكر الأصولي في عهد التابعين بخصوصيات منهجية، من أهمها: اتساع دائرة الأدلة الشرعية وبروز منهجين في الاستنباط، فكان التابعون في اجتهاداتهم فئتين: الفئة الأولى: تفتي برأيها إذا لم يوجد نص ولا فتوى صحابي ولا تتحرج من ذلك.. وفئة لا تلجأ إلى الرأي إلا اضطرارا، وتحاول أن تتمسك بالنص قدر المستطاع. وكانت مسألة "معقولية معنى الأحكام" أول وأهم مسألة أصولية تفرض نفسها موضوعا لمناظرات الفقهاء.

إن هذا الخلاف الذي حصل على مستوى المناهج في استنباط الأحكام ساهم بقوة في إيجاد تصور للقواعد الأصولية، وإثراء الفكر التشريعي، وبروز أسئلة كان الجواب عنها يتطلب تصورا شموليا للضوابط المقننة للتشريع، مما دفع بعض الباحثين إلى القول: "نكاد نقرر أن تجريد قواعد ينضبط بها التفكير الفقهي كانت حاجة من حاجات هذا العصر (عصر التابعين) عمل الخلاف في التخريج على الإحساس بها إحساسا لم يبرز على تلك الصورة خلال المراحل السابقة"[1].

4. الفكر الأصولي في عصر الأئمة المجتهدين

نما الفكر الأصولي في هذا الطور ونضج، بعدما أخذ عن سابقه طرق الاستنباط وكثرة الأدلة واختلاف المناهج، وبرزت للوجود مذاهب فقهية متميزة في الاستنباط.

وقد تميز الفكر الأصولي بخصوصيات منهجية في هذا الطور، من أهمها: تحديد أصول المذاهب وقواعدها المعتمدة في استنباط الأحكام فأصبح لكل واحد منهجه الأصولي، بحيث يمكن وصف هذه المرحلة بمرحلة تحديد القواعد والأصول واعتبارها في استنباط الأحكام. فقد أفصح الأئمة عن موقفهم من بعض الأدلة الشرعية، والقواعد التي دارت بينهم مناظرات حولها.. إلى جانب اصطباغ الأحكام الشرعية في هذه الفترة بالصبغة العلمية، فبعد أن كان الحكم الشرعي مجردا عن دليله، أصبح يذكر معه الأصل والعلة والدليل، وبرز الفقه التقديري عند أهل الرأي.. وكانت للمناظرات الفقهية التي كانت تجري بين الأئمة آثار واضحة في تدوين القواعد الأصولية واستقرارها.

ولم يعد الاختلاف الفقهي قاصرا على الاختلاف في بعض الفروع، وإنما أصبح الاختلاف منسجما مع المنهج الاجتهادي الذي يعتمد عليه المجتهد في اجتهاده. ويمكننا القول بأن القواعد الأصولية كانت متأثرة بالمناهج الاجتهادية التي تم تأسيسها في تلك الفترة، ومن حسن الحظ أن "الشافعي" هو أول من كتب في علم الأصول كتابه "الرسالة" الذي يعتبر أول تدوين للقواعد الأصولية بطريقة علمية، وامتاز الشافعي عن غيره من الأئمة الذين عاصروه بقدرته على الجمع  بين منهجي المدرستين الفقهيتين في الحجاز والعراق.

وإذا كان هذا القول باتفاق الجمهور، فإن هناك روايات تؤكد أن التدوين في علم الأصول قد ظهر قبل الإمام الشافعي، حيث تذكر بعض الروايات أن أبا حنيفة كان أسبق إلى التأليف في هذا الفن، فهو، كما تشير إلى ذلك هذه الروايات، الذي بين طرق الاستنباط في كتابه "الرأي" وتلاه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وتذكر تلك المصادر أن من بين مؤلفات أبي يوسف المفقودة كتابا في أصول الفقه[2].

وفقهاء المالكية يؤكدون أن الإمام مالكا هو أول من تكلم في أصول الفقه وفي الغريب من الحديث، وفسر الكثير منه في موطئه. والحافظ "ابن العربي" يثبت جازما في كتابه "القبس" أن الإمام مالكا بين في كتابه "الموطأ" أصول الفقه وفروعه، كما يثبت أنه بناه على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي يرجع إليها مسائله وفروعه[3]، ويستفاد مما ذكره القاضي عياض "أن مالكا أخذ فعلا بهذه الأصول، وعلى هديها كان يستنبط القواعد ويصدر الأحكام[4].

ولعل السر في اختلاف العلماء حول أول من دون هذا العلم الجليل هو عدم تمييزهم بين بداية اعتبار القواعد الأصولية وتقعيدها في شكلها الأول، وبين تدوينها وتقنينها في شكلها النهائي الذي استقرت عليه. ذلك لأن هناك معاني كثيرة من المباحث الأصولية التي قررها الشافعي كانت مراعاة ومعتبرة في التفكير والاستنباط الفقهي لكثير من الفقهاء الذين سبقوه، "فالناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل الفقه ويعترضون ويستدلون. ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجع إليه في معرفة الدلائل الشرعية، وفي كيفية معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا، يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع"[5].

الفكر الأصولي عند الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وبعض تطبيقاته الفقهية

كتب المتأخرون أصولا مفصلة قرروا أنها أصول الاستنباط في المذهب الحنفي ونسبوها إلى أئمتهم، فقالوا هذا الأصل هو رأي أبي حنيفة، وهذا رأي صاحبيه، وهذا رأيهم جميعا.

ومع أن هذه الأصول قد استنبطها المتأخرون ولم تؤثر عن الأئمة وتلاميذهم، فلابد من الإشارة إلى بعض الأمور:

ـ إن أبا حنيفة، وإن لم تؤثر عنه أصول مفصلة للأحكام التي استنبطها، لا بد أن تكون له أصول لاحظها عند استنباطه، وإن لم يدونها كما لم يدون فروعه، فإن التماسك الفكري بين الفروع المأثورة، الذي يستبين عند ترديد النظر، يكشف عن فقيه كان يقيد نفسه بقواعد لا يخرج عن حدودها.

ـ إن العلماء الذين استنبطوا الأصول المدونة "كالبزدوي" وغيره كانوا يلتمسونها من أقوال الأئمة والفروع المأثورة عنهم، إذا نسبوا تلك القواعد للأئمة، ويذكرون أحيانا الفروع الدالة على صحة النسبة في هذه القاعدة، أو بالأحرى الدالة على أن هذه القاعدة كانت ملاحظة عند استنباط أحكام هذه الفروع، وما لا يذكرون فيه فروعا مسندة للأئمة تكون آراء لبعض الفقهاء في المذهب الحنفي كالكرخي،  وكثيرا ما يكون ذلك في أمور نظرية[6].

مما سلف يمكن تقسيم أصول الحنفية إلى قسمين: قسم ينسبونه إلى الأئمة على أنه القواعد التي لاحظوها عند الاستنباط، وهذا القسم يذكرون فيه الفروع الدالة على صحة هذه القاعدة. والقسم الثاني: آراء فقهاء المذهب، كرأي "عيسى بن أبان"[7] في رواية الواحد الضابط غير الفقيه إذا كانت مخالفة للقياس[8]. والكرخي وغيرهما…

انطلاقا من هذا الجانب النظري، بإمكاننا أن نتعرف على مدى انسجام وتطبيق هذه القواعد في ثنايا الكتب التي وصلتنا عن أئمة الحنفية؛ مع العلم أن الكتب التي ذكرتها المصادر على أنها من أول المصنفات التي اهتمت بميدان علم الأصول وقواعده، هي في عداد المصنفات المفقودة، ككتاب "الرأي" لأبي حنيفة وكتاب "الأصول" المنسوب لأبي يوسف. وغالب ما وصلنا عن هؤلاء الأئمة كتب تهتم بميدان "الفقه" وجمع الفروع الفقهية ككتب أبي يوسف، أو جمع الفروع ومحاولة التفريع عليها ككتب محمد بن الحسن التي تعتبر العمدة في هذا الباب. أما أبو حنيفة فلم يصلنا عنه أي كتاب يذكر في هذا الميدان.

ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على كتب الحنفية سننظر إلى أي مدى يمكن لهذه المصنفات أن تكون تعبيرا حيا عن مستوى الفكر الأصولي في هذه المرحلة بكل متطلباتها؟

أبو يوسف وإسهاماته الأصولية

يعتبر أبو يوسف من أوائل من ألف في الفقه الحنفي، ومن تآليفه التي وصلتنا كتاب "الخراج" و"الرد على سير الأوزاعي" و"كتاب اختلاف ابن أبي ليلى وأبي حنيفة" وكتاب "الآثار"[9].

كتاب الخراج

كتاب الخراج في بابه الفقهي ثروة فقهية، ربما، ليس لها مثيل في العصر الذي كتب فيه، وقد كانت طريقة أبي يوسف في تأليف هذا الكتاب أنه يجيب على السؤال الذي كان "هارون الرشيد" قد وجهه إليه، فكان يورد مجموعة من الآراء حول القضية المسؤول عنها، ويورد استدلالات المخالفين على آرائهم، كما كان يستدل لما يراه صوابا من الأدلة، ويرجح مذهبه بعد العرض والمناقشة واختيار القول الصحيح.

وقد اعتمد فيه على القرآن، والمأثور عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وفتاوى الصحابة، يروي الأحاديث ويستنبط عللها، ويذكر أعمال الصحابة ويستخرج من أقوالهم مناطها.. وكان يرجح بين الأحاديث إذا حصل الاختلاف، فاستعمل بذلك الفكر والنقل.

من بين أهم المسائل الأصولية التي تتجلى لنا من خلال الكتاب ما يلي:

منهج الإمام في اعتماد الأصول النقلية

تعتبر السنة النبوية المصدر الواسع الذي اعتمد عليه الإمام أبو يوسف، واهتم به اهتماما كبيرا، فهماً لمعانيها واستكشافاً لغوامضها، واستنباطاً للأحكام الواردة فيها. فقد كان حريصا على ذكر أسانيد الروايات التي أوردها في كتابه مستشعرا أهمية الإسناد وقيمته، وذلك لِما في ذِكر الإسناد من فوائد تبرز أساسا أثناء الحكم على الرواية بالصحة أو الضعف.

ومن ناحية أخرى، فقد سلك أبو يوسف منهج استخدام الدلالات في الكشف عن معنى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.. ثم إن الدلالات التي استخدمها لم يصرح بها مباشرة، وإنما تستنبط من خلال عملية فقهه للنص وطريقة تبيينه لمقصود الكلام.

كما استعان الإمام بمذهب الصحابي في معرفة الأحكام الفقهية وفهم معاني الأحاديث، فكتابه "الخراج" يعد سفرا مهما ضم بين دفتيه الكثير من أقوال الصحابة وفتاويهم بالإضافة إلى أقوال التابعين. وبهذا يكون الإمام قد استفاد كثيرا من أقوال الصحابة، رضي الله عنهم، واستعان بها في فهم الأحاديث وتقوية الأحكام الواردة فيها، لما في أقوالهم من دليل وحجة.

أما منهجه في الإجماع فيتمثل في تقوية الأحكام بواسطته، حيث كان شديد الحرص على عدم مخالفة ما أثبته الإجماع من الأحكام الفقهية.

ثانيا: منهج الإمام أبي يوسف في اعتماد الأصول العقلية

بالإضافة إلى منهجه في الترجيح بالقياس، فإن أبا يوسف كان يلجأ إلى القياس ليقوي به الأحكام المستنبطة من الأحاديث وليدعم بذلك اختياره الفقهي.. مما يجعل الحكم الثابت بالقياس شاهدا لما سبق تقريره من فهم للأحاديث واستنباط الأحكام الواردة فيها.

كما أن أخذه بقاعدة "الاستحسان" واضح تمام الوضوح في هذا الكتاب. ومن أهم القواعد التي أفتى بها أبو يوسف بطريق الاستحسان: تغير الأحكام بتغير الزمان: ومثاله ما جاء في كتاب "الخراج"[10] بعدم التقيد بضريبة الخراج التي كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد وضعها. لأن الأحوال تختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان.

القواعد الشرعية عند الإمام أبي يوسف

استخدم أبو يوسف جملة من القواعد الشرعية في إطار منهجه في فقه النصوص ومعرفة مراد الرسول، صلى الله عليه وسلم، مما يدل على اعتنائه بهذا المجال رغبة منه في الوصول إلى الفهم السليم للنصوص والإحاطة بمراميها ومقاصدها. ومن أهم القواعد الشرعية التي وظفها الإمام: "الضرورات تبيح المحظورات"، "الحرج مرفوع"، "الضرر يزال"، ثم إنه "إذا تعارضت المصلحة العامة والمصلحة الخاصة قدمت المصلحة العامة".

اهتمامه بإيراد الخلاف بينه وبين فقهاء المذهب، وبينهم وبين غيرهم من الفقهاء وبيانه القول الراجح

اهتم أبو يوسف بمسائل الخلاف والوفاق بين العلماء، ففي إطار المذهب الحنفي يركز على الإتيان بالخلاف بينه وبين أبي حنيفة. فهو في كتابه هذا يذكر خلاف أبي حنيفة في مسائل كثيرة، فكان إذا ذكر رأي أبي حنيفة دعمه بالدليل وبين وجه القياس أو الاستحسان، فاحتفل ببيان دليل شيخه أكثر من احتفاله ببيان دليله وفاء وحرصا على أمانة العلم. والحق أن طريقة أبي يوسف في ذكر الخلاف هي الطريقة المثلى، ولو أنها اتبعت في كل ما نقل إلينا من فقه أبي حنيفة لوصل إلينا ذلك الفقه محملا بدليله مبينا بأصوله..

كتاب الرد على سير الأوزاعي[11]

في هذا الكتاب يرد أبو يوسف على الإمام الأوزاعي فيما خالف فيه أبا حنيفة من أحكام الحروب وما يتصل بها من الأمان والهدنة والأسلاب والغنائم. فهو انتصار لشيخه على الأوزاعي في هذه المسائل وما يتصل بها، وفيه صورة لأدلة أبي حنيفة وطرق استنباطه ومسالكه في الاستدلال، وفيه صورة قوية لعقل أبي حنيفة الفقهي والأصولي، وإدراكه العميق لعلل النصوص وأبعادها، غير مقتصر في بيانها على مرامي عباراتها الظاهرة. ونرى في ثنايا الكتاب صورا كثيرة للاختلاف بين فقهاء الشام وفقهاء العراق، ومناهج كل منهم في الاستدلال لما يذهب إليه، ونلمس أيضا مقدار ما كان للفقه والفقهاء من حيوية قوية في ذلك الزمان.

فمن خلال عرض صور هذا الاختلاف يتبين لنا أن أهم أسباب الخلاف بين المدرستين تتجسد في:

1. الاختلاف في الأخذ بالحديث

لم يكن الاحتجاج بالسنة موضع نقاش فيما سبق، غير أن بعد العهد وكثرة من تصدروا لروايتها، وشيوع الأحاديث المكذوبة أوجد كثيرا من البلبلة والتشويش، الأمر الذي أدى إلى الاختلاف في الاحتجاج ببعض أنواع الحديث، كالأحاديث المرسلة وخبر الواحد، أو في بعض الشروط التي ينبغي توفرها في الحديث لكي يكون حجة، فكان هذا مجال نقاش وحوار.

2. الإجماع بعد عصر الصحابة

من المسائل التي هي موضع خلاف ونقاش بين العلماء أيضا في هذا العصر، مسألة الإجماع، فقد تباينت مواقفهم بين مؤيد ومعارض، أو قائل بنوع خاص منه، فالبعض ينكر وجود الإجماع، والبعض الآخر خط لنفسه طريقا آخر للإجماع كالإمام مالك، إذ جعل عمل أهل المدينة حجة يأتي في المرتبة قبل القياس. فعلى هذه الأسس سار الاحتجاج بالإجماع في عصر الاجتهاد، ويظهر أن معنى الإجماع لم يكن محررا، فكان انعقاد الإجماع موضع خلاف بين العلماء في كثير من المسائل.

ولقد وجدنا أبا يوسف، رضي الله عنه، في الرد على سير الأوزاعي يناقشه في معنى إجماع الأئمة عندما منع الإسهام للبراذين، وأسهم للفرس سهمين ولم يعتبر البرذون كالفرس. ونجد "الشافعي" رضي الله عنه من بعد يتجادل، مع كثيرين من مناظريه في المسائل، في أمر انعقاد الإجماع في هذه المسائل، حتى تكاد المناظرة تدفعه إلى إنكار الإجماع إلا في أصول الدين، وفي مثل إجماع العلماء أن الظهر والعصر أربعا...

والكتاب كله على هذا النمط يصور لنا الاختلاف الذي وقع بين فقهاء الشام والمدينة وفقهاء العراق، ومنها نتصور منازعهم المختلفة وخصوصا فيما اشترطوه من شروط لقبول الأخبار أو ردها، وما اشترطوه في انعقاد الإجماع أو عدمه، وكذلك اختلافهم في الأخذ بإجماع أهل المدينة أو عدمه.

كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى[12]

هو كتاب جمع فيه أبو يوسف مسائل اختلف فيها أبو حنيفة مع ابن أبي ليلى، وفي جملتها كان ينتصر لأبي حنيفة وقد تتلمذ لكليهما.

فباستعراضنا لصور الخلاف بين الفقهاء في عصر أبي حنيفة، سنقف على أسباب اختلاف العلماء، وكيف كان يستدل كل منهم لما يذهب إليه مع تقدير رأي مخالفه واحترامه، كما سيتضح لنا ما كان للحديث والآثار وآراء الصحابة والتابعين من سلطان، وأن العرف كان له سلطانه أيضا، لنلمس من تلك الصور مقدار ما كان من حيوية للفقه والفقهاء في هذا العصر.

ثالثا: محمد بن الحسن الشيباني وفكره الأصولي

كان للإمام "محمد" مكانة خاصة في الفقه الحنفي؛ لأنه استطاع أن يجمع في منهجه الاجتهادي بين منهج الرأي الذي أخذه عن شيخيه أبي حنيفة وأبي يوسف، ومنهج الحديث الذي أخذه عن شيخ الحديث الإمام مالك، وكان لهذا التزاوج بين الاتجاهين الفقهيين أثر واضح في شخصية الإمام محمد العلمية؛ تلك الشخصية التي استطاعت أن تنال إعجاب العلماء في عصره.

تعد كتب "ظاهر الرواية" لمحمد بن الحسن الأصل الذي يرجع إليه في فقه أبي حنيفة وأصحابه، وحيث نص على المسائل فيها فهي "المذهب" وغيره لا اعتبار لما يرويه إذا خالفها إلا في مسائل قليلة. وكتب "ظاهر الرواية" هي: المبسوط (أو الأصل) والزيادات والجامع الصغير والجامع الكبير والسير الصغير والسير الكبير. ويلحق بهذا القسم غير كتب ظاهر الرواية "كتاب الآثار" الذي يحتج به الحنفية، وكتاب "الحجة على أهل المدينة". فمعرفة ما تحمله هذه الكتب من مسائل وقضايا أصولية تعبر بحق عن المستوى الذي وصل إليه الفكر الأصولي في هذه المرحلة.      

كتاب الأصل[13]

جمع الإمام محمد في هذا الكتاب طوائف من المسائل التي أفتى فيها أبو حنيفة، وفيه خلاف أبي يوسف ومحمد إن كان ثمة خلاف، وما لم يذكر فيه خلافا، فهو من المتفق عليه بينهم. وهو يبدأ كل كتاب بما ورد فيه من الآثار التي صحت عندهم، ثم بعد ذلك يذكر المسائل وأجوبتها، وقد يذكر خلاف ابن أبي ليلى إن كان له خلاف.

فالكتاب صورة صادقة للفقه العراقي وآثاره، ولكنه خال من التعليل الفقهي في جملته، فطريقته في الكتاب سرد الفروع على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف مع بيان رأيه في المسائل، ولا يسرد الأدلة حيث تكون الأحاديث الدالة على المسائل بمتناول جمهور الفقهاء من أهل طبقته، وإنما يسردها في مسائل وربما تغرب أدلتها عن علمهم. ويتبين من خلال قراءة متأنية لهذا الكتاب أن الإمام محمد كان يأخذ بالاستحسان في مسائل كثيرة.

كتاب الجامع الصغير[14] والجامع الكبير[15]

الجامع الكبير كالجامع الصغير كلاهما خال من الاستدلال الفقهي، فليس فيه دليل من كتاب وسنة وليس فيه أوجه القياس مبينة مفصلة، ولكن القارئ لمسائل كل باب متتبعا تفريعها وتفصيلها يلمح من بين السطور قياسها، فيستنبطه من وراء التفصيلات والتفريعات ولا يأخذه من نص.

كتاب السير الكبير[16]

يدور موضوع الكتاب حول جميع الأصول المتعلقة بالحرب وعلاقتها بالمشركين وأحكامها. وقد اعتمد الشيباني في ذلك كله على القرآن والأحاديث التي قيلت في مغازي الرسول على إثر حوادث معينة وقعت، وعلى الأحكام التي وقعت أثناء حروب المسلمين وفتوحهم كما أعمل القياس في أحايين كثيرة، وجعل لذلك كله أحكاما جيدة.

ومن أهم المسائل الأصولية التي تستوقفنا عند دراستنا لهذا الكتاب ما يلي:

ـ فهم الآية أو الحديث في ضوء علم الناسخ والمنسوخ.

ـ رده الحديث المخالف للأصول.

ـ تميز الإمام محمد بمنهج متميز في الترجيح.          

 كتاب الحجة على أهل المدينة[17]

تتجلى قيمة هذا الكتاب من نواح عدة:

إحداها؛ أنه ثابت السند صادق الرواية، وحسبنا أن نعلم أن الشافعي رواه ودونه في الأم.

ثانيها؛ في هذا الكتاب استدلال بالقياس والسنة والآثار، فهو من كتب الفقه المقارن(الخلاف العالي)، وإذا أضيفت إليه تعليقات الشافعي وموازنته بين الآراء المختلفة كان فقها مقارنا ممحصا موزونا.

ثالثها؛ إن الكتاب يصور لنا الاختلاف بين مدرستي العراق والحجاز، ويمكن إرجاع أهم أسباب هذا الاختلاف والتباين إلى:

1. أسباب آيلة إلى رواية السنن

اعتنى الإمام "محمد" بعلم الرجال عناية خاصة، فاهتم بنقد الأسانيد والتفتيش عن رجالها، لما للرواة من أهمية في نقل الأحاديث، وتبليغ الآثار... ثم إن ثمرة عناية الإمام محمد بن الحسن بالأسانيد ونقدها تجلت، بالخصوص، في مسألة الترجيح، حيث ينظر في رجال الإسناد بدقة وتفحص لمعرفة مدى ثقتهم وصحة سماعهم لترجيح الرواية أو ردها.

2. الاختلاف حول الإجماع

إن الشيباني في هذا الكتاب يعتمد الإجماع كوسيلة من وسائل الترجيح، فإذا وقع اختلاف في حكم مسألة معينة، فإنه يرجح المعنى الذي وقع حوله الاتفاق، وتم عليه الإجماع في نظره، بينما مخالفوه لا يتفقون معه، فيكون هذا سببا من أسباب الاختلاف.

3. الاختلاف في قواعد التعارض والترجيح عند تعارض الأدلة

بعد استقرائنا لطرق حل التعارض عند الإمام، يلاحظ أنه سلك طريق الحنفية في ذلك؛ مخالفا بذلك طريق الجمهور. فكان منهج الإمام في رفع التعارض ودفعه، أنه متى ما وقع التعارض بين الحديثين فالسبيل الرجوع إلى معرفة سبب ورود الحديث؛ ليعلم التاريخ بينهما، فإذا علم ذلك كان المتأخر ناسخا للمتقدم. أما إذا لم يعرف التاريخ فإنه يصار إلى ما بعد السنة فيما يكون حجة في حكم الحادثة، وذلك قول الصحابي أو القياس الصحيح.

ولما جاء الإمام الشافعي وجد أن "قواعد الجمع بين المختلفات لم تكن مضبوطة عندهم، فكان يتطرق بذلك خلل في مجتهداتهم، فوضع لها أصولا، ودونها في كتابه، وهذا أول تدوين كان في علم أصول الفقه"[18].

مما تقدم يتبين لنا جليا أن كلا من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد كانت لهم إسهامات في علم الأصول كغيرهم، فقد كانوا يعرفون قواعد هذا العلم ويخضعون اجتهاداتهم لها، لكنهم لم يفردوها بالتأليف ولو فيما وصلنا من كتبهم، فكان أكثر ما روي عنهم عبارة عن مسائل معها حلولها وأحكاما مصحوبة بأصولها وأدلتها. وإن ما أيدت به من أدلة وما فرعت عليه من أصول كان من استنباط من جاء بعدهم من فقهاء الحنفية، حين نظروا في هذه الفروع والأحكام ووازنوا بينها، وضموا الشبيه إلى شبيهه والنظير بنظيره، واستخرجوا بنظرهم من الأصول والقواعد ما يظن أن أبا حنيفة وأصحابه قد لاحظوه عند نظرهم في المسائل وبنوا استنباطهم لأحكامها عليه. إذ المفهوم أن أحكامهم لم تكن قائمة على مجرد الهوى، وإنما قامت على أصول وقواعد قيدوا بها أنفسهم، فلم يخرجوا عن حدودها بدليل اتحاد أحكام المسائل عند تساويها في المناط أو الحكمة، وليس يلزم من عدم نقل الأصول والقواعد أنها لم تكن مستقرة في نفوسهم ملحوظة عند استنباطهم.

رابعا: الفكر الأصولي عند الإمام مالك

إن الإمام مالكا كان له منهج في الاستنباط الفقهي لم يدونه كما دون بعض مناهجه في الرواية، ومع ذلك صرح بكلام قد نستخرج منه العناصر التي تشكل البنية الأساسية لمنهاجه، قال الإمام مالك وهو يتحدث عن كتابه الموطأ: "فيه حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين، ورأيي وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره"[19].

ولقد صنع فقهاء المذهب المالكي في فقه مالك ما صنعه فقهاء المذهب الحنفي، فجاءوا إلى الفروع وتتبعوها، واستخرجوا منها ما يصح أن يكون أصولا قام عليها الاستنباط في مذهب مالك، ودونوا تلك الأصول التي استنبطوها على أنها أصول مالك، فيقولون مثلا كان يأخذ بمفهوم الموافقة، أو بفحوى الخطاب أو بظاهر القرآن. كما نجدهم يقولون في كل قاعدة رأي مالك فيها كذا، وليس ذلك إلا ما أخذوه من جملة الفروع.. ومن مجموع تلك الآراء تتكون أصول المذهب المالكي التي قامت عليها أصول المالكيين، والتي قام عليها التخريج من المتقدمين والمتأخرين في ذلك المذهب.

إن الإمام مالكا كان يوظف في اجتهاداته واستنباطاته عددا كبيرا من الأصول والقواعد التي بنى عليها فقهه. وقد حاول بعض العلماء القدامى وبعض المعاصرين الكشف عن تلك الأصول التي اعتمدها مالك في اجتهاده وبيانها من خلال الموطأ. كما فعل "ابن العربي في كتابه القبس"، والأستاذ "نذير حمدان" في كتاب "الموطآت" للإمام مالك، مبينين بذلك اعتماد الإمام مالك على تلك الأصول في اجتهاده المتضمن في الموطأ الذي ألفه بنفسه.

لما ندرس بعمق رسالة مالك إلى الليث بن سعد في الاحتجاج بعمل أهل المدينة، باعتبارها أول رسالة في الأصول، كتبها مالك بنفسه يناصر أهل المدينة، ويقدم الحجج والبراهين للأخذ بعمل أهل المدينة، ورد الليث على الإمام مالك... يتبين لنا ما فيهما من مسائل فقهية وأصولية، وأن هذه الاختلافات في الآراء تعود بالدرجة الأولى إلى اختلافات في قواعد علم الأصول التي يقوم عليها الفقه بفروعه ومسائله، و"لا شك أن هاتين الرسالتين وغيرهما تمثل مرحلة معينة، وخطوة يدنو بها علم الأصول من التدوين، وتشير واقعا إلى ما كان عليه الفكر الأصولي من وضوح الرؤية وإدراك أصول الاستنباط التي بنى عليها كل مجتهد مذهبه، فبعضها امتداد واستمرار لأصول المتقدمين، وتمسك بها، والبعض الآخر منها وليد الظروف الجديدة التي تكشف لهم بها الزمن وأملاه الواقع"[20].

نبذة من آراء مالك في الأصول من خلال كتابه الموطأ: قراءة أولية في كتاب "القبس" لأبي بكر ابن العربي

رغم أن الإمام مالكا، كما قلنا، لم يدون أصوله التي بنى عليها مذهبه، إلا أنه أشار إلى بعضها، فكتاب الموطأ يتضمن البواكير الأولى لهذا العلم.. وابن العربي في كتابه القبس بين أن مالكا بنى الموطأ على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم مسائل الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه.

بل من المؤكد أنه ضبط منهجيته الأصولية في موطئه، فنراه يأتي في المسألة بآية من كتاب الله، فإن لم يجد فبحديث صحيح، فإن لم يجد فبعمل أهل المدينة، فإن لم يجد تخير أقوال الصحابة والتابعين، ثم اجتهد رأيه لا يحيد عن هذه الطريقة في موطئه أبدا.

من هذا كله نستنتج أن في الموطأ إشارات إلى بعض الأصول التي بنى عليها الإمام فقهه، وإن لم يكن فيها التوضيح والتوجيه لهذه الأصول، فقد اشتمل الموطأ على أخذه بعمل أهل المدينة وبالقياس، وإن لم يبين ضوابط العلة، والقياس ومراتبه، ونظرة في الموطأ تبين لنا بجلاء أنه كان يأخذ بالمرسل من الحديث والمنقطع والبلاغات.

نركز هنا في دراستنا لكتاب الموطأ على كتاب القبس الذي بدأه مؤلفه بقوله: "هذا كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، رحمه الله، وهو أول كتاب ألف في شرائع الإسلام وآخره، لأنه لم يؤلف مثله، إذ بناه مالك، رضي الله عنه، على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع إليه مسائله وفروعه"[21].

من أهم المسائل الأصولية التي تستوقفنا عند دراستنا للموطأ

1. السنة وضوابط استثمار الحديث

إذا كان الموطأ كتاب حديث وفقه فقد سلك فيه الإمام مالك طريقتين: الأولى تتعلق بالفتيا والأحاديث وانتقاء الرجال، والثانية تتعلق بالفقه والمسائل.

ولم يكن نقده وتمحيصه في جانب الإسناد فحسب، بحيث إذا صح السند كان مذهبا له؛ كما يفعل معظم رجال الحديث في عصره، ولكن مالكا جعل الحظ الأكبر بعد صحة السند للنظر في متن الحديث، ومطابقته لما هو واقع من الأمر في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، مستعملا قواعد الترجيح بين المتعارضات، فيعرض الأثر على عمل المدينة من الصحابة والتابعين، وعلى قواعد الشريعة، وعلى القياس الجلي، فكان لا يعمل بخبر الواحد إذا خالف واحدا من هذه الثلاثة، كما قال برد خيار المجلس إذا حمل على ظاهر لفظه.

2. الإمام بين فكرة الإجماع وإجماع أهل المدينة

فبتتبعنا للمصطلحات التي وظفها مالك في الموطأ ندرك أنه يجعل نوعا من التفرقة بين الإجماع وإجماع أهل المدينة..

3. أصول الرأي عند مالك

من المؤكد أن الإمام مالكا استعمل الرأي بأوسع معانيه وأكثر منه، حتى عده بعض العلماء من فقهاء الرأي، ومن الأصول التي اعتمدها مالك في موطئه، وكان يسير على منوالها ويفتي على ضوئها: القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع...

4. النظر المقاصدي عند الإمام مالك

إن الإمام مالكا عندما يطلق الرأي إنما يعني به فقهه الذي يكون بعضه رأيا اختاره من مجموع آراء التابعين، وبعضه رأيا قاسه على ما علم، ومن ثم فإن باب أصول فقه الرأي عنده هو ما عليه أهل المدينة وعلم الصحابة والتابعون، ويمكن تلخيص ذلك في قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد التي عليها مدار الشريعة الإسلامية، فهذا هو أساس الرأي عنده مهما تعددت ضروبه واختلفت أسماؤه.

بكلمة: إن نظرة إجمالية على كتاب الموطأ تبين لنا الفكرة الشمولية التي يتصورها الإمام مالك فيما يخص نقل المعرفة؛ وثبوت الخطاب الشرعي، كما توضح لنا كيفية استدلالات الإمام بالكتاب والسنة والإجماع واصطلاحاته في التعبير عن هذه الاستدلالات، كما توضح أيضا أمثلة من فتاويه التي تستند على الرأي والاجتهاد وعلى المصالح العامة.. إلا أن عمله هذا يبقى دون إعطاء منهجية واضحة تنهض دليلا على ما ذهب إليه ابن العربي في "القبس".

استنتاج عام

بعد هذه الجولة الأولية في محيط الفكر الأصولي قبل الإمام الشافعي يمكن لنا أن نسجل النتائج التالية:

1. إن عمل الشافعي في الرسالة جاء في مرحلة مسبوقة تطور خلالها المنهج الأصولي، واقتصر عمل الإمام على تأصيل هذه القواعد وتقنينها وتدوينها في شكلها الرسمي، وإضافة مباحث جديدة لم يكن الأولون في حاجة إليها، كالمباحث البيانية.

2. إن القواعد الأصولية كانت معروفة قبل الإمام الشافعي، وكان الفقهاء يحرصون عليها دون أن يسموها بأسمائها الاصطلاحية. وكيف يجوز لنا القول بأن القواعد الأصولية لم تكن معروفة قبل الشافعي، ونحن نعرف أن هناك مدرستين فقهيتين إحداهما في المدينة والأخرى في الكوفة، ولكل مدرسة علماؤها وفقهاؤها ومنهجها في الاستنباط، ولولا ذلك المنهج المتميز لكل مدرسة لما استطعنا أن نطلق على مدرسة الكوفة "مدرسة الرأي" وعلى مدرسة المدينة "مدرسة الحديث" في تلك الفترة المبكرة.

3. لم تكن الحاجة لتدوين القواعد الأصولية ملحة قبل عصر الشافعي، إذ الظروف لم تكن مهيأة لذلك، وفي عصر الشافعي كان هناك أكثر من سبب للتدوين. فكان الشافعي مؤهلا علميا للقيام بهذا العمل العظيم، وفي فكره من القدرة الإبداعية ما يساعده على تحقيق هذا الإنجاز العلمي الكبير.

4. إذا كان كتاب الرسالة يعتبر بحق من أهم الكتب الرائدة في الفكر التشريعي في الإسلام، فلا يمكن أن ننكر أن معالم أصول الفقه كانت موسومة في مصنفات صنفت قبل الإمام الشافعي، كما نجد ذلك مثلا في الموطأ وكتاب الخراج لأبي يوسف وغيرهما، ولكن ذلك لا يعدو أن يرسم ملامح ومعالم عامة لهذا العلم أما رسالة الشافعي فهو مصنف يشمل بكل مباحثه علم الأصول، فهو مصنف أصولي صرف، بإجماع العلماء.

الهوامش 


1. أحمد عبد الغفار، التصور اللغوي عند الأصوليين، دار المعرفة الجامعية، ط1، (1401هـ/1981م)، ص16.

2. ابن النديم، الفهرست، القاهرة: مطبعة الاستقامة، ص143 وص وص286.

3. أبو بكر بن العربي المعافري، كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، دراسة وتحقيق محمد ولد كريم، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1992م. ج1، ص69.

4. القاضي عياض، ترتيب المدارك و تقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-المغرب. ج1، ص89-90.

5. فخر الدين الرازي، مناقب الإمام الشافعي، تحقيق:أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1، (1406ﻫ/1986م)، ص157.

6. انظر: محمد أبو زهرة، كتاب أبو حنيفة: حياته وعصره، آراؤه وفقهه بتصرف، دار الفكر العربي، 1976م، ص264.

7. هو القاضي أبو موسى عيسى بن أبان بن صدقة، تلميذ محمد بن الحسن الشيباني توفي سنة واحد وعشرين ومائتين للهجرة بالبصرة، من آثاره: الحجة الصغيرة وإثبات القياس، و خبر الواحد والعلل في الفقه [انظر ترجمته في الفوائد البهية، هدية العارفين 1/806، ص151.

8. انظر أبو حنيفة ص264-265، بتصرف.

9. انظر: كتاب الفهرست لابن النديم، م، س، ص286.

10. أبو يوسف، كتاب الخراج، المطبعة السلفية ومكتبها، ط6، 1397ﻫ، ج، 2/84.

11. أبو يوسف القاضي، كتاب الرد على سير الأوزاعي، عنى بتصحيحه والتعليق عليه أبو الوفا الأفغاني، أشرف على طبعه رضوان محمد رضوان، عنيت بنشره لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، بيروت: دار الكتب العلمية.

12. اختلاف أبي حنيفة وأبي ليلى، عنى بتصحيحه والتعليق عليه الأستاذ أبو الوفا الأفغاني، عنيت بنشره لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، طبع بإشراف رضوان محمد رضوان.

13. الأصل-القسم الأول-كتاب البيوع والسلع ج:1 النصوص، ويليه الجزء الثاني متضمنا المقدمة والفهارس المختلفة، حققه وعلق عليه: شفيق شحاتة، القاهرة: مطبعة جامعة، 1954.

14. محمد بن الحسن الشيباني، الجامع الصغي، على هامش كتاب الخراج لأبي يوسف،المطبعة الميرية ببولاق، مصر، ط1، 1356ﻫ.

15. الجامع الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني، عنى بمقابلة أصوله أبو الوفا الأفغاني، عنيت بنشره لجنة إحياء المعارف النعامنية بحيدر آباد الدكن، مطبعة الاستقامة، ط1، 1356ﻫ.

16. محمد بن الحسن الشيباني، كتاب السير الكبير، على هامش شرح السير الكبير للسرخسي، تحقيق: عبد العزيز أحمد، مطبعة شركة الإعلانات الشرقية.

17. محمد بن الحسن الشيباني، الحجة على أهل المدينة، رتب أصوله وعلق عليه العلامة السيد مهدي حسن الكيلاني القادري، عالم الكتب، ط3، (1403ﻫ/1983م).

18. المرجع نفسه، ج1، ص309، بتصرف

19. ترتيب المدارك م، س، ج2، ص72.

20. عبد الوهاب أبو سليمان، الفكر الأصولي، دراسة تحليلية نقدية، ص 120. دار الشروق، ط2، (1404ﻫ/1984م).

21. أبو بكر بن العربي، القبس، م، س، ج1/69.

Science

دة. بوشرى الشقوري

دكتوراه في الفقه وأصوله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق