مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

معارضة خبر الآحاد لعمل أهل المدينة وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء 6

 الدكتور عبد الحق يدير

أستاذ التعليم العالي كلية الآداب و العلوم الانسانية فاس سايس.

 

 

وأما فيما يخص حالات عمل أهل المدينة مع خبر الآحاد، فقد نص القاضي عياض في المدارك[1] أن عملهم مع ذلك الخبر لا يخلو من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون عمل أهل المدينة مطابقا لأخبار الآحاد، وهذا آكد في صحتها ووجوب العمل بها، إذا كان العمل من طريق النقل، وإن كان من طريق الاجتهاد كان مرجّحا للخبر، بلا خلاف في هذا. إذ لا يعارضه هنا إلا اجتهاد آخرين وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد [2] .

والوجه الثاني: أن يكون عملهم مطابقا لخبر يعارضه خبر آخر، فيكون عملهم مرجحا لخبرهم وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت. وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني (تـ418هـ) ومن تابعه من المحققين: من الأصوليين والفقهاء من المالكية وغيرهم [3] .

والوجه الثالث: أن يكون عملهم مخالفا للأخبار جملة فينظر:

أ – فإن كان العمل قد جاء من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عند المالكية، وعند المحققين من غيرهم. ويرى القاضي عياض أنه عند تحقيق المسألة لا يجب أن يتصور فيه خلاف، ولا ينبغي أن يلتفت إلى هذا الخلاف على فرضه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون، وما عليه الاتفاق لما فيه الخلاف[4].

ب – وإن كان العمل قد جاء من طريق الاجتهاد قدم عليه الخبر عند الجمهور، أما عند المالكية ففيه خلاف .

فأما إن لم يكن بالمدينة عمل يوافق موجب الخبر أو يخالفه فالواجب في هذه الحالة المصير إلى الخبر. سواء كان الخبر من نقل أهلها أو من نقل غيرهم إذا صح ولم يعارض، فإن عورض بخبر آخر نقله غيرهم من أهل الآفاق والمدائن الإسلامية الأخرى، كما نقله المدنيون مرجحا عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وغيره من أهل التحقيق، وذلك لزيادة مزية مشاهدتهم قرائن الأحوال، وتقعدهم لنقل آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهم الجم الغفير عن الجم الغفير عنه [5] .

هذا مضمن رأي القاضي عياض رحمه الله فيما يخص مسألة حالات عمل أهل المدينة مع خبر الآحاد. وبالجملة فإن إجماعهم بوجه عام ثلاثة أنواع :

الأول : أن يجمعوا على أمر ثم لا يخالفهم غيرهم فيه.

الثاني : أن يجمعوا ولكن يوجد لهم مخالف من غيرهم .

والثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم[6] 

قال الحجوي الثعالبي : ” أما الأول فهو حجة عند الجميع يجب اتباعه، وممن صرح بذلك ابن القيم وهو من الحنابلة الذين لا يسلمون الإجماع إلا في قليل من المسائل: أما الثاني والثالث فمحل نزاع بين المالكية وغيرهم، على أن الذي هو حجة عندهم بلا خلاف هو عمل أهل المدينة النقلي لا الاجتهادي… [7].

ثم إن أهل المدينة -كما قرر ابن قيم الجوزية وغيره – إذا اتفقوا على شيء نقلا أو عملا متصلا كان متواترا يحصل به العلم، وينقطع بع العذر، ويجب ترك أخبار الآحاد له، لأن المدينة المنورة بلدة جمعت من خيار الصحابة من يقع العلم بخبرهم فيما أجمعوا على نقله وروايته. وإن أجمعوا على شيء من طريق الاجتهاد فإن العصمة لم تضمن لاجتهادهم ، ومن هذا القبيل بطلان خيار المجلس والاقتصار على التسمية الواحدة ، وعلى قنوت الفجر قبل الركوع، وترك رفع الأيدي عند الركوع والرفع منه ، وترك السجود في سور المفصل، وترك الاستفتاح والاستعاذة قبل الفاتحة، ونظائر ذلك [8] .

وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى ضابط مهم لابد من مراعاته عند الحديث عن عمل أهل المدينة، وهو أن العمل المعتبر عند المحققين من المالكية هو ما ثبت فيه عمل جميعهم أو جمهورهم، أما قول فرد منهم  ولو كان أعلمهم فلا يقال فيه عمل، ولا يترك له الحديث الثابت، بل يتعين العلم بالخبر. ومن هذا القبيل كما يقول الحجوي الثعالبي رحمه الله : قضية القبض: وهو وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة، ثبتت به الأحاديث الصحاح السالمة من الطعن في الموطأ وغيرها، وكل من وصف صلاة رسول الله صلى عليه وسلم، فإما نص على القبض أو سكت ولم يقل  قبض ولا سدل ، والساكت عنهما ليس ينص، ولا ظاهر في السدل فجاء بعض المتأخرين مستدلا بأن عبد الله الكامل (132هـ) سدل ، ورام أن يجعله عملا مدنيا وهيهات هيهات، وهذا سلاح استعمله متأخروا المالكية مهما لم يجدوا في الحديث مطعنا ادعوا العمل، ولا ينبغي ذلك لهم في دين الله، فإن مالكا ليس بمعصوم عن الخطأ ولا المدونة بمصحف منزل، وكم من حديث لم يعرفه مالك وصح عند غيره، والإنصاف في دين الله أسلم من الاعتساف، ولو كان في ذلك عمل متقرر لنص عليه في الموطأ كعادته، فالعمل إذا نص عليه في الموطأ أو المدونة أو نحوهما من الكتب الثابتة فعمل مقبول يستدل به المالكي بملء شدقيه، أما مجرد مخالفة مالك في المدونة أو غيرها للحديث فلا دليل فيه على العمل أصلا بل دعوى وإلى الله الشكوى[9].

 

أثر رواية الحديث في اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الحق يدير، سلسلة أطروحات وأعمال رقم 17، طبعة 2011م، المملكة المغربية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس. ص329 وما يليها.

 

 


[1]  ـ انظر ترتيب المدارك: 1/52.

[2] – انظر المصدر السابق: 1/52

[3] – نفسه

[4] – نفسه

[5] – نفسه

[6] – أننظر أعلام الموقعين : 2/276، والفكر السامي: 2/388

[7]  – انظر الفكر السامي 2/388

[8] – أنظر أعلام الموقعين: 2/283-284

[9] – نظر الفكر السامي : 2/ 390-391

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق